فتاوى العقيدة .. بين الصناعة والتطبيق

فتاوى العقيدة .. بين الصناعة والتطبيق

فتاوى العقيدة: بين الصناعة والتطبيق
فتاوى العقيدة: بين الصناعة والتطبيق

لقد أخذت تظهر في عصرنا الحاضر فتاوى غريبة بعنوان: ” فتاوى العقيدة “، أحيانا في مؤلفات خاصة، وأحيانا أخرى بمواقع إلكترونية تخصص مساحات واسعة للإجابة عن أسئلة المتعاملين مع الشبكة العنكبوتية. وهذه الفتاوى لا تخلو من تهويل لبعض القضايا العقدية التي قد تفضي بالمستفتي إلى الغلو والتطرف وإحداث الفتنة في الدين التي هي أشد من القتل كما أخبر الحق سبحانه وتعالى:” وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ” [البقرة: 191].

لكن المتصفح لتلك الفتاوى (فتاوى العقيدة)، الخبير بالمذاهب والعقائد الإسلامية، يدرك بسهولة تهافتها، وافتقارها إلى الفضيلة الخلقية العلمية أحيانا، وابتعادها عن مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة أحيانا أخرى.

إن الناظر فيما يصطلح عليه اليوم بـ”فتاوى العقيدة”، يلاحظ أنها عبارة عن أجوبة تصدر وفق منظور عقدي خاص، ولكن أصحابها يصرون على صياغتها في شكل فتوى مطلقة، حتى تأخذ قوتها ومشروعيتها وتأثيرها في طالب الفتوى، وتوجيهه وجهة عقدية معلومة، تعادي التاريخ العلمي للأمة الإسلامية. وأكثر من ذلك كله، فإن أصحاب تلك الفتاوى يوهمون طالب الفتيا أن ما يقولونه ويصدرونه من فتاوى هو الصورة الوحيدة للإسلام، ويضللون من خلال فتاويهم مذاهب عقدية سنية عريقة، اختارتها الأمة الإسلامية منذ قرون. فإذا علمنا أن العوام يجعلون تلك الفتاوى بمثابة أدلة شرعية، أدركنا خطورة هذا الوضع وما يمكن أن ينتج عنه من مفاسد وأضرار، وهو ما يخالف المبدأ الفقهي العام في مجال الإفتاء: درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

لقد ظل موضوع الفتاوى من الموضوعات الخطيرة، لا يتصدرها إلا الفقهاء العالمون بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال.

كما وجدنا بعض العلماء القدامى ممن يتصدى للإجابة عن أسئلة تتعلق بمجال الاشتغال العقدي، كما هو صنع الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه: “الحاوي في الفتاوي”. فقد خصص قسما مهما منه لفتاوى أصول الدين، الإلهيات، ثم النبوات، ثم المعاد، وقد ختم هذا القسم بلطائف طريفة لها صلة وثيقة بالعقيدة.  وقد سلك الإمام السيوطي مسلكا يأخذ بعين الاعتبار اختيارات الأمة في مجال العقيدة، فهو عندما يتصدى لمفهوم الإيمان يُعَرِّفُه على الطريقة الأشعرية فيقول: الإيمان هو التصديق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم من الدين بالضرورة … كما يشير إلى المذاهب السنية في قضية زيادة الإيمان ونقصانه فيقول: وهو يزيد وينقص عندنا وعند أكثر السلف، وخالف في ذلك الحنفية …

وقد جرت العادة بأن يلجأ العامة في تعرف أحكام دينهم إلى العلماء، ويستفتوا المجتهدين ويقلدوهم. فالواجب على هؤلاء أن يفتوهم ولا يكلفوهم ما لا طاقة لهم به من استنباط الأحكام.

إن من مقاصد فقه الفتوى أن يحرص المفتي على تحقيق مبدأ اليسر الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، وكما يقول الإمام الشاطبي: “المُفْتي البالغ ذروة الاجتهاد الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال”.

لكن هذا المبدأ لا نجد له أثرا فيما يصطلح عليه اليوم بـ”فتاوى العقيدة”، حيث لغة التهويل والتجريح والتبديع والتكفير والتقليل من مذاهب سنية عريقة، والإسهام في تمزيق جسم الأمة عن طريق التشكيك في اختياراتها العقدية والفقهية نتيجة التشبع بمنهج عقدي معين، في غياب ملحوظ للرؤية العلمية الموضوعية، وتجاهل تام لسنن التطور التي عرفتها العلوم الإسلامية بعامة.

إن الدارس لما يصطلح عليه بـ”فتاوى العقيدة” لابد أن يتعرف على شخصية المفتي، وانتمائه العقدي، والمذهبي، لأن هذه الأمور مهمة في تنزيل الفتوى وصناعتها، لا سميا في مجال الاشتغال العقدي، وهذا الأمر ليس جديدا، فقد اختارت الأمة الإسلامية مناهج في دراسة العقيدة لا تختلف من حيث المقصد أو المضمون، وإن كانت تختلف من حيث الشكل، فقد يجد المشتغل بالعقائد الدينية الإسلامية بعض الاختلافات بين الأشاعرة والماتريدية في مسائل معدودة، كما يجد اختلافات واسعة بين الأشاعرة والحنابلة المتأخرين الذين أحدثوا في المذهب الحنبلي ما ليس منه كما يقول الإمام عبد الرحمن بن الجوزي.

إن الاتجاه الحنبلي المتأخر على وجه التحديد الذي أصبح يحمل اليوم اسم السلفية قد سلك طرقا تهويلية في تقرير العقائد الدينية، مدعيا أنها هي الطرق الشرعية الوحيدة التي سلكها الشرع الحكيم في تقرير تلك العقائد، مع العلم أن ما يقرره هذا الاتجاه يرجع معظمه إلى قرون متأخرة، ولا علاقة له باختيارات السلف الصالح الذي تمثله القرون الثلاثة الأولى، إنهم يحيلون وبالضبط إلى القرن السابع الهجري، حيث ظهور الفقيه ابن تيمية، الذي عمل على جعل الاتجاه الحنبلي الظاهري مذهبا رسميا لا يساويه إلا الإسلام نفسه، وبذل جهودا جبارة في تأصيله لبعض القضايا والآراء والفهوم التي لم يكن له فيها سلف، بل واعتقاده أنها هي الصورة المرادفة للإسلام في قدسيته وتعاليه، مع الإصرار على التقليل من أهمية مذاهب سنية اختارها جمهور العلماء كانت تمثل قبل القرن السابع الهجري اختيارات الأمة الإسلامية ومرجعها الأساس، كما هو الشأن بالنسبة للمدرستين: الأشعرية والماتريدية اللتين استهدفهما بالنقد الصارم.

أما في عصرنا الحاضر فقد وجدنا كثيرا من الشيوخ ممن يجتهد في نشر آراء ابن تيمية في أسلوب يفتقر إلى الفضيلة الخلقية العلمية لكونه، يهول من أمر ابن تيمية ويروج لآرائه بدعوى أن ما يقوله هذا الفقيه هو الإسلام بعينه، مع أن ابن تيمية نفسه يمثل حلقه في تطور الدرس العقدي السني، إن لم يكن استئنافا للدرس الظاهري القديم، بل إن بعض ما يقرره ابن تيمية نفسه لا سلف له فيه كما سلف القول.

إن الدارس لتاريخ المذاهب والعقائد الإسلامية يدرك بداهة أن هناك اختيارات عقدية معينة، كما أن هناك اختيارات فقهية معينة، وقد كان بعض العلماء يصرح أنه حنبلي في العقيدة، مالكي في الفقه، أو أنه مالكي في الفقه أشعري في العقيدة، أو ماتريدي في العقيدة حنفي في الفقه … في سياق احترام اختيارات الطرف الآخر، لكن هذا التسامح أو التعايش المذهبي على الأصح وجد اليوم من يعمل على طمسه من أجل فرض اختيار عقدي بعينه، بأسماء موهمة أن هذا هو منطوق الإسلام ومفهومه، وهو إجراء من شأنه أن يضيق واسعا ويحرم الأمة الإسلامية من الاستفادة من تراثها العلمي الغني. بل إن هذا الأسلوب يسهم بشكل كبير في بث روح الكراهية بين المسلمين، ويشجع العوام على التطاول على العلماء، والنيل منهم، خصوصا من منظري المدرستين السنيتين: الأشعرية والماتريدية.

لقد وضع الإمام تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين علي السبكي (ت771هـ) قاعدة جليلة في الجرح والتعديل يحسن توظيفها في مجال الاشتغال العقدي، من أجل تجاوز الكثير من الخلافات العقدية، والمتمثلة في الدعوة إلى ضرورة تفقد حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارحُ المجروحَ في العقيدة فجرحه لذلك.

ويتساءل تاج الدين السبكي عن المقصود من تفقد حال العقائد، هل معناه أنه لا يقبل قول مخالف عقيدة فيمن خالفه مطلقا، سواء السني على مبتدع وعكسه أو غير ذلك؟

فيقول: هذا مكان معضل يجب على طالب التحقيق التوقف عنده لفهم ما يلقى عليه، وألا يبادر لإنكار شيء قبل التأمل فيه.

ويضيف تاج الدين في توضيح كيفية تنزيل القاعدة السالفة الذكر: واعلم أنا عَنينا ما هو أعم من ذلك مطلقا، ولسنا نقول: لا تقبل شهادة السني على المبتدع مطلقا معاذ الله، ولكن نقول: مَن شهد على آخر وهو مخالف له في العقيدة أوجبت مخالفته له في العقيدة ريبة عند الحاكم المنتصر لا يجدها إذا كانت الشهادة صادرة من غير مخالف في العقيدة، ولا ينكر ذلك إلا فَدْم أخرق.

ويمثل تاج الدين لاختلال هذه القاعدة بقول بعض المجسمة في أبي حاتم بن حبان: لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحد لله. فيا ليت شعري مَنْ أحق بالإخراج؟ مَنْ يجعل ربه محدودا أو من يُنزهه عن الجسمية؟

وقد لاحظ تاج الدين أن بعض الشيوخ في زمانه لم تكن أحكامهم موضوعية بسبب الاختلاف في العقائد، وقد مثل بشيخه الذهبي الذي لم يكن منصفا في تراجمه لأئمة العقيدة الأشعرية بسبب تشبعه بمذهب الإثبات ومنافرة التأويل، حتى قال فيه: والذي أفتي به أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري ولا شكر حنبلي.

وصفوة القول فإن الأمة الإسلامية في حاجة ماسة اليوم إلى من يقرب ويسدد ويعمل على جمع كلمتها، من أجل مواجهة تحديات خطيرة تتجاوز الخلافات اللفظية التي شغلت الناس وملأت الدنيا في فترة من فترات التاريخ.

كلمات مفتاحية : ,