الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني – مقاصد القرآن الكريم وبناء المشتركات الإنسانية الجامعة

الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني – مقاصد القرآن الكريم وبناء المشتركات الإنسانية الجامعة

الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني، عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية
الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني، عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية

نص الدرس الحسني الرابع الذي ألقاه الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم زيد الكيلاني، عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، بحضرة أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله، متناولا بالدرس والتحليل موضوع : “مقاصد القرآن الكريم وبناء المشتركات الإنسانية الجامعة”،انطلاقا من قوله تعالى:”يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.”

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

مولاي أميرَ المؤمنين حضرةَ صاحبِ الجلالة الملكِ محمد السادس حفظكم الله ورعاكم، وجعلكم في عينه التي لا تنام، وفي كنفه الذي لا يرام، وفي عزه الذي لا يضام.

السلام عليكم آل البيت ورحمة الله وبركاته.

ثم السلام على من حضر مجلسكم العامر الكريم.

إن من يمن الله تعالى وتوفيقه أن ينعقد هذا المجلسُ العلمي المشهود، للحديث عن مقاصد القرآن الكريم ومعانيه، في شهر رمضان المبارك الذي اقترن ذكره بنزول القرآن الكريم، كما اقترن ذكره بالكشف عن مقاصد القرآن الكريم، وقد نبهت آياتُ الصيام إلى هذا الاقتران بين رمضان والقرآن، ومقاصد القرآن، في قوله الله سبحانه:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [سورة البقرة 185].

ولا ريب أن العنايةَ بمقاصد القرآن الكريم، تعيينا وإدراكا و توضيحا وبيانا، هو أمرٌ ضروري لفهم جوهر الإسلام، وبيانِ حقائقه،وإظهارِ محاسنه، وتبليغِ دعوته للعالمين.

ولا نعدو الحقيقةَ إذا قلنا: إِن مقاصد القرآن الكريم هي المدخلُ السليمُ للتعريف بالدين الإسلامي تعريفاً صحيحاً لا يشوبه التشويه، وبيانِه بيانا سليما لا يعتريه الخلل، وتوضيحِه توضيحا كاملا لا يَرِد عليه النقصُ أو الزلل.

وإن الناظر في آيات الكتاب الكريم يجد أن من المقاصد القرآنية العظيمة التي اعتنى بها القرآن الكريم ووجه إليها، وحضّ عليها: تحقيقَ التواصل  والتعاون بين شعوب الأرض وأممها، على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم ومللهم، وبناءَ المشتركات الإنسانية الجامعة التي هي  جسرُ التعاون الإنساني، وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم بقوله سبحانه:(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات 13]

تٌمكننا هذه الآيةُ الثالثةَ عشرة من سورة الحجرات من إبداء التعليقات الآتية:

  • أولا: أن مضمونها دستورٌ للأخوة بين الناس؛ بما لا يتعارض مع ثوابتنا الدينية وقيمنا الأصيلة.
  • ثانيا: أن هذا الدستورَ فيه هدايةٌ إلى أسلوب تحقيق هذه الأخوة وهو التعارف؛ لأن الجهل مبعثُ النكران والتحقير وسوء الظن، وما ينجم عن كل هذا من الشقاق والتناحر؛
  • ثالثا: أن المفهوم من التعارف هو الاعترافُ بالوجود ثم بالفضل للآخر؛
  • رابعا: أن القيمة الأخلاقيةَ التي يمكن أن تتهيأ بها نفوسُ الناس لهذا التعارف والاعتراف الإقرارُ بأن لا تفاضل بين الناس ولا تمايزَ إلا على أساس التقوى التي هي نفعُ النفس ونفعُ الغير أساسا للتعامل بين الجماعات والشعوب والأمم؛
  • خامسا: أن هذا المضمون لم يكن له مثيل سابق في تراث الإنسانية الديني والفلسفي؛
  • سادسا: أن هذا المثال هو مسعى الإنسانية كافة إلى عصرنا هذا من خلال وضع عدد من المنظومات المتصلة بحقوق الإنسان؛
  • سابعا: يمكن لمطلق الناس أن ينخرطوا في مبدأ الأخوة الإنسانية وأن يتخذوا القيمَ الأخلاقيةَ المتعارفَ عليها مرجعا للتفاضل، ولكن المؤمنين ينسبون أُخُوَّتهم إلى الخالق، ومرجعُهم في تقدير جهودهم في التقوى هو اللهُ العليم الخبير؛
  • ثامنا: لا تمكن الدعوة لمضمون هذه الآية إلا بتحقيقه على أرض الواقع وهو من الأمانات التي على المسلمين إزاءَ أنفسهم وإزاء غيرهم من الشعوب.

وقد قدّم القرآن الكريم نظرة حضارية غير مسبوقة تؤسس لتفاهم المجتمعات الإنسانية وتصالحِها وتعاونِها على الخير عندما رفض أشكال التصنيفِ العنصري بناءً على اللون أو العرق أو الدم، ودعا إلى أن يكون التنوعٌ سببا في تعاون الإنسانية، فالاختلاف وَفق المنهج القرآني، ووَفق المقصد القرآني، هو حافزٌ للتكامل لا للتقاتل، ودافعٌ للتعاون لا للتشاحن، وسببٌ للقاء لا للعَداء، وباعثٌ على التفاهم لا على التصادم.

وهذه النظرة القرآنية تدعو الإنسانَ في كل وقت إلى تجاوز منطق الخصومة والصدام، وتُغري بالتلاقي واحترام مساحات التشابه بين الأمم والشعوب على مستوى الفكر والإبداع للوقوف على أرض صُلبة ورؤى متجانسة يحكمها ذلكم التقارب.

ولهذا فإن القرآن الكريم يسقط جميعَ الاعتبارات والدوافع التي تحض على ممارسة العنف أو الإرهاب ضد الآخر لإذلاله أو إقصائه من الوجود؛ لأنه يربي أتباعه على قبول الآخرين والتعاون معهم على كل ما فيه خير الإنسان ونفعُه وصلاحُه.

فالقرآن الكريم بهذا التأسيس، يؤهل الأمةَ الإسلامية لتكون مؤديةً لمهمتها الإنسانية، وقادرةً على التفاعل الإيجابي مع الشعوب والأمم، ومدركةً للمساحات الواسعة التي يمكن أن تشكل ميادين مشتركة يتعاون عليها الجميع.

ولقد غذّى القرآن الكريم هذه الاتجاهَ الإيجابيَ في العلاقة بين الشعوب والأمم من خلال الخطابات الجامعة الموجَّهة للناس كافة كقوله تعالى:﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء 1].

وقوله سبحانه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف  27].

إلى غيرها من الخطابات القرآنية التي تظهر فيها النظرةُ الحانية إلى بني آدم أجمعين على امتداد وجودهم في هذه الحياة، و تؤكد على وحدة الجنس الإنساني ووحدةِ أصله وأساسه، وأنهم أبناء أسرة واحدة ينبغي أن يكون بينهم من  الود والبر والاحترام، ما يكون بين أفراد كل أسرة تشترك في وحدة الدم والأصل، وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بالدعوة إلى (التراحم الإنساني) الذي يتسع لسائر الشعوب والأمم الإنسانية.

وما أحوجَ العالم اليوم إلى تفعيل هذا الخطاب القرآني ليكون مدخلا للتعارف بين الشعوب والأمم والحضارات، وبوابةً لنشر قيم الصفح والتسامح بدلا من الاحتراب، لا سيما في ظل خطابات الكراهية التي باتت تشحن كثيرا من التكتلات الإنسانية .

وهذا الخطاب الإنساني الجامع  هو ما أكدّه  الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في  حجة الوداع بقوله: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، ..”.

هذا، ونجد أثر هذا التوجيه القرآني في فكر الفيلسوف المسلم الفارابي  إذ يرىأن سعادة الإنسان إنما تكون بالاجتماع في مدينة فاضلة، وكلما زاد عددُ المجتمعين زاد حصولُ السعادة شريطة تعاونِ أفراد هذا الاجتماعِ على عمل الخير، وإن أكمل اجتماع إنساني هو ذاك الذي يجمع كلَّ أمم الأرض .

وتعد فكرة الفارابي متقدمة على فكرة أفلاطون وفلاسفة اليونان المتأثرين بكتاب المدينة الفاضلة؛ ذلك أنهم قصروا فكرة المدينة الفاضلة على الأمة اليونانية،بينما ارتقى الفاربي بها لتكون رابطة للأمم كلها، فتجاوز دولةَ المدينة عند أفلاطون إلى رابطة الأمم جميعها، ومرد ذلك إلى تأثرِ الفارابي بالفكر الإسلامي العالمي الذي جاء ليكون للناس كافة مصداقا لقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رحمة للعالمين) [الأنبياء  107].

مولاي أمير المؤمنين

وإذا نظرنا في العطاء العلمي الذي قدمه علماء الأمة جزاهم الله خير الجزاء نجد الإشارات الواضحةَ إلى أثر المقاصد القرآنية في بناء المشتركات الإنسانية الواحدة، والتأسيسِ للتعاون الإنساني،  ومن ذلكما ذكره العلماء في المقاصد الضرورية الخمسة: الدين والنفس والنسل والعقل والمال،وأنها مما اتفقت عليه الملل والشرائع.

وقد أكد هذا المعنى العلامة القرافي المالكي بقوله:”الكليات الخمس: حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال، وأنواعُ الإحسان كإطعام الجوعان وكسوةِ العُريان، وغيرِ ذلك مما لم تختلف فيه الشرائع”.

ولقد نبهت آيات الكتاب الكريم إلى البعد الإنساني المشترك في هذه الكليات الكبرى، ففي جريمة القتل العمد مثلا بيّن القرآن الكريم أن الاعتداء على نفس واحدة  يعدّ جريمة في حق الإنسانية كلها ، وذلك في قوله تعالى :  ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة 32].

وفي هذا إيماء إلى وجوب التكافل الإنساني للعمل على استئصال شأفة هذه الجريمة النكراء؛ لأنها تعتبر تهديدا خطيرا لوجود الإنسان، وتحديا لمشاعره، وتقويضا لأمنه واستقراره بقطع النظر عن لونه أو جنسه.

من أجل هذا كان الحفاظ على الحياة الإنسانية أصلا مقررا في جميع الشرائع السماوية، لأنه لا يمكن أن يقوم الوجودُ الإنسانيُ وتتحققَ مصالحٌه إذا أزيلت العصمةٌ عن حياة الإنسان، قال ابن العربي المالكي:”ولم يخل زمانُ آدم ولا زمنُ من بعده من شرع، وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطتها بالقصاص كفّاً وردعا للظالمين والجائرين. وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائعُ والأصول التي لا تختلف فيها الملل”.

وهذه المقاصد ُالقرآنيةُ الكبرى بمراتبها الثلاث، وبكل كلية من كلياتها الجامعة، تصلح لاستيعاب ما لا يحصى من الوسائل والأساليب المعاصرة التي يمكن تفعيلها عمليا لبناء المشتركات الإنسانية الجامعة كالتعاون الإنساني اليوم على محاربة الفقر والجوع والبطالة، وعلى التصدي للأمراض التي تتهدد حياة الإنسان. ولا تمايز بين شعب وآخر وأمة وأخرى.

والتعاونِ على التخفيف من آثار المآسي التي تنجم عن المجاعات ونقصِ المياه والنكبات والفيضانات والزلازل والحروب التي تصيب الدول الشعوب.

والتعاونِ للحفاظ على البيئة ومكافحة أسباب التلوث بمختلِف أشكاله وأنواعه، ووضعِ الخِطط المشتركة والالتزامِ بالمواثيق الدولية التي تحارب التلوث وتدعو إلى بيئة عالمية نظيفة.

فهذه المجالات جميعها هي مما يقصد القرآن الكريم التعاونَ عليها، عن طريق إيجاد المساحات المشتركة، التي يمكن أن تتسع لجميع شعوب الأرض وأممها ومجتمعاتها.

مولاي أمير المؤمنين

فضلا عن هذه المجالات الحيوية التي يحض القرآن الكريم على التعاون الإنساني في ترسيخها وتحقيقها،  فإننا نجد مجالا آخر قد اعتنى به القرآن الكريم عناية فائقة، ألا وهو بناءُ القيم  الإنسانية المشتركة، إذ بين الله تعالى في كتابه الكريم أن تزكيةَ الأمة وتحليتَها بالفضائل والقيم الكريمة هي من أعظم مقاصد بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهذا ظاهر في كثير من آي الكتاب الكريم كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة 2]

فهذه الآية وغيرها كثير، تؤكد على مركزية الأخلاق في الشريعة الإسلامية وعلى مكانتها المحورية في الاعتبار المقاصدي، حتى إنها عُدَّت غايةَ البعثة الكبرى، وأكد على هذا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

وبالرغم من الفروق الجوهرية بين النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم وبين النظرية الأخلاقية في الفلسفات المادية والمذاهب الوضعية،فإن ثمة مساحةً واسعة للاشتراك والالتقاء الإنساني في العديد من القيم والفضائل، ذلك أن الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها، هي مصدرٌ أساسٌ من مصادر تكوين الأخلاق وتشكيلِها واعتبارها، ومهما اختلف الناس – أفرادا أو أمما – في تقييم بعض الأفعال، فإن هناك فضائلَ وأخلاقا يشتركون جميعا في حبها وتقديرها، كالصدق والأمانة والوفاء والعدل.ومهما اختلفوا في عقائدهم وفلسفاتهم ومناهجهم فإن هناك رذائل وأخلاقا سيئة يشترك الناس جميعا في بغضها وقبحها، كالظلم والعدوان والكبر والكذب والخيانة والأثرة والغدر.

وإن اشتراك الناس – بمختلف أجناسهم وأديانهم وأوطانهم وعصورهم وطبقاتهم وأحوالهم – في هذه الميول الخلقية، وتجذُّرَها في نفوسهم، هو بسبب الفطرة التي يشتركون فيها جميعا، فالناس مشتركون في المعاني الفطرية والطِّباع الأصلية.

والملاحظ أن جميع الأخلاق الفطرية هي أخلاق قرآنية، كما أن جميع الأخلاق القرآنية هي أخلاق فطرية أيضا، لأنه لا توجد قيمة خُلُقية قرآنية إلا والفطرة تنزع إليها وتتوافق معها وتحض عليها، وهذا ما يجعل القيم الأخلاقية القرآنية أساسا قويا لبناء الأرضيات المشتركة الجامعة بين الناس باعتبارها قيما فطرية إنسانية .

وإننا لنجد تنبيه القرآن الكريم إلى دور القيم الأخلاقية في بناء المشتركات الإنسانية في إشارته إلى العديد منها التي تلتقي عليها جميع الشرائع  السماوية وإن اختلف زمانها ومكانها واختلف رسلها وأنبيائها،  قال الله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83]

فالإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين،والكلمةُ الطيبة، وتزكيةُ الأنفس هي جميعُها مشتركاتٌ أخلاقية بين جميع أتباع الشرائع السماوية .

ونجد تجليات هذا الوعي والفهم لأهمية هذه الأصول الأخلاقية في إيجاد القواسم والقواعد المشتركة بين الناس، في المرافعة الناجحة التي قدمها الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أمام النجاشي ملك الحبشة، إذ كان بيانه وخطابه مرتكزا على إبراز القيم الأخلاقية المشتركة التي يلتقي عليها كل أصحاب الفطر السوية، وتُقِرها الشرائع السماوية كافة، وارتكزت مضامين خطابه على جملة القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام ، وذلك بقوله:” كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات…؛.”

و نجد كيف نجح هذا الخطاب الذكيّ الحكيم في الوصول إلى عقل النجاشي وقلبه، وفي  تشكيل قناعته بصدق الرسالة وعظمتها، لأن الداعية الذي تربى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ناجحا في أسلوبه وخطابه وفي انتقاء مضامين بيانه، وعرف كيف يبرز المعاني الجامعة التي يتوافق عليها أصحاب الفطر السليمة ، وأن يركز على المحاور الجامعة والقضايا المشتركة، والأصولِ الراسخة، والقيمِ الإنسانية الكريمة التي لا يختلف على حسنها أحد  .

وكان من ثمرات هذا النجاح ونتائجه المباركة أن أيد النجاشي نفسُه الدعوة الجديدة وأتباعَها، لأنه آمن بأن دفاعه عنها هو دفاع عن ذات القيم والأخلاق التي جاء بها المسيح عليه السلام، و دفاع عن كل  الرسل والرسالات، وعبر عن ذلك  بقوله : ” إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى  لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ  وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ .”

هذا، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوة القيم الأخلاقية في تشكيل المشتركات الإنسانية الكبرى،وصلاحيتِها في البناء عليها وتأسيسِ التكتلات والتحالفات بالتعاون مع كل من يؤمن بها، من خلال  إشادته عليه السلام بحلف الفضول الذي حصل في الجاهلية وكان فيه دعوةٌ للانتصار للمظلوم وإعادةِ الحق لأصحابه، حيث  قال بعد أن أكرمه الله بالنبوة والرسالة: ( شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ)[1]

مولاي أمير المؤمنين

لقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلف الفضول بالرغم من وقوعه في الجاهلية، لأنه  كان تجمعا أخلاقيا، وميثاقا إنسانيا،  تنادت فيه المشاعر الإنسانية الكريمة لنصرة المظلوم، والدفاعِ عن الحق، والأخذِ على يد الظالم ، وهي قيم تتطابق مع جوهر دعوة الإسلام ورسالته.

وهذا يدعو المسلمين اليوم إلى إنشاء مثل هذه التحالفات والتكتلات وإبرام المواثيق والمعاهدات التي تخدم الأصولَ الأخلاقية المتفق عليها، وتنصر القضايا العادلة ، كالتعاون على محاربة الفقر والأمية والجريمة،  وعلى  الحفاظ على البيئة ومكافحة التلوث، وعلى  الحفاظ على السلم والأمن العالمي، والتعاون على كفالة حق الشعوب في الحياة الكريمة، والتعاون على نصرة المظلوم ومحاسبة الظالم، فالانتصار للقيم الأخلاقية هو انتصار للإسلام نفسه، وهو تحقيقٌ لمقاصد القرآن وتعزيزٌ لأهداف الدعوة وغايات الرسالة، وتجديدٌ لمعاني التزكية التي أرسل من أجلها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب.

مولاي أمير المؤمنين

يكشف القرآن الكريم عن مقصد آخر  يدعو إليه ويحض عليه وهو مقصد عمارة الأرض، وقد تتابعت آيات القرآن الكريم على تقرير هذا المقصد وتأكيده وإثباته  بأساليب مختلفة وصيغٍ قرآنية متنوعة، منها :قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] وقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾  [الأعراف: 56].

فهذه الآيات الكريمة،وغيرها كثير، ظاهرة في دلالتها على الدعوة إلى عمارة الأرض وإصلاحها، والنهيِ عن تخريبها و إفسادها، وصريحةٌ في الحض على فعل الخير فيها، وفي التأكيد على أن من مهام الإنسان الأولى التي خلق من أجلها،  تعميرَ الأرض بشتى صنوف الخير والبر .

فعمارة الأرض مقصدُ أصلِ الخلق والتكوين، ومقصدُ أصلِ الأمر والتشريع، وهذا ما عبر عنه الشيخ العلامة علال الفاسي بقوله : “المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظُ نظام التعايش فيها، وصلاحُها بصلاح المستخلَفين فيها، وقيامُهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاحٍ في الأرض واستنباطٍ لخيراتها وتدبير ٍلمنافع الجميع “.

فهذه الدعوة إلى إعمار الأرض التي ترتقي إلى درجة التكليف المُلزِم –على وَفق ما بيّنه المفسرون – تنطوي على الدعوة إلى التأسيس للعديد من المشتركات الإنسانية التي يمكن أن  يتعاون عليها الناس كافة ويتحققَبها بناء الأرض وإعمارُها، كالتعاون في المجال الزراعي والصناعي والتجاري والصحي والبيئي والعلمي وغيرها من مجالات الحياة التي تتحقق بها منافع الناس .

وقد أومأت آيات القرآن الكريم إلى أن عمارة الأرض لا تتحقق إلا بقدر من التعايش والتساكن والألفة بين الناس، وهذا ما نجده في دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام :﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [ابراهيم : 37]

ففي دعائه عليه السلام بهوي الأفئدة إلى حيث يسكن زوجه وابنه إشارة إلى الرغبة في الألفة و الحضور الإنساني للمساعدة في تكوين المجتمع الناشئ، وعلى  التعاون في تعمير المدينة الجديدة، لتكون عاصمة التوحيد في العالم.

كما أن في طلب الرزق من الثمرات تنبيها إلى أسباب البقاء المادي من ثَمَر وغرس ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها. وهذه في حقيقتها من دعائم العمران: الألفة الجامعة، والوفرة الكافية.

ففطرة الإنسان وطبيعته تنزعانإلى الاجتماع والتعاون لتحقيق حاجاته المختلفة، لأن الفرد لا يستطيع أن يستغني عن بقية أفراد جنسه لتلبية حاجاته الكثيرة.

وفي الختام: فإن امتثال الأمة هديَ القرآن الكريم وتوجيهاتِه ووعيَها بمقاصده وهداياته، يوجب عليها أفرادا وقادة وحكماء العملُ على بناء المشتركات الإنسانية الجامعة وإقامةِ جسور التواصل الإنساني وتعزيزِ التعاون بين الشعوب، وكلما كانت الأمة أقدر على تحقيق التعاون الإنساني والتكافل على معاني الخير والبر، كانت أقرب إلى مقاصد القرآن وغاياته.

حفظكم الله مولاي أمير المؤمنين، وأمدكم بعون من عنده، وبارك في عمركم وأعمالكم، وجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.

والختم من مولانا أمير المؤمنين.

الهوامش

  • [1]أخرجه أحمد في «المسند» 3/193 رقم (1655) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
كلمات مفتاحية : ,