مداخلة الأستاذ محمد يسف خلال ندوة الثوابت الدينية المغربية الإفريقية

مداخلة الأستاذ محمد يسف خلال ندوة الثوابت الدينية المغربية الإفريقية

الأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى في المملكة المغربية
الأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى في المملكة المغربية

ألقيت هذه الكلمة خلال الجلسة الافتتاحية للندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله تعالى: “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم”

إن الدين عند الله الإسلام

إن من ينظر إلى هذه القاعة المباركة، لا بد أن يلاحظ أنها تضم إفريقيا العالمة، إفريقيا العابدة الزاهدة، وفي نفس الوقت إفريقيا المتوثبة الطموحة التي تريد أن تسقط عن وجهها ذاك القناع الذي سترها عن أعين الدنيا.

إفريقيا هذه تجتمع اليوم هنا في إفريقيا في هذا البيت الإفريقي أيضا، لأن هذا المغرب كما قال أمير المؤمنين مولانا الحسن الثاني قدس الله روحه: “المغرب بمثابة شجرة جذورها عميقة في إفريقيا، وأغصانها تطل على أوروبا”، فهي صلة وصل، هذا المغرب هذا البيت الإفريقي العريق، هو صلة وصل بين العالم الغربي والعالم الإفريقي.

أنوه في البداية بالتفكير الذي انطلق منه المنظمون لهذا اللقاء، والعنوان الذي اختاروه لهذا اللقاء، والمكان الذي اختاروه ليتم هذا اللقاء.

الموضوع الثوابت، والمكان فيه الشيء الكثير من هذه الثوابت؛ فيه إمارة المؤمنين، فيه المؤسسة العلمية العريقة والتي هي جامعة القرويين، وفيه أيضا شيخ التصوف لطريقة من الطرق الصوفية المشهورة في الأرض في عالمنا الديني، إذن الثوابت هنا تلتقي في المكان المناسب لها.

إن إفريقيا التي سكتت طويلا، وتحملت كثيرا، تريد اليوم أن تقول كلمتها، تريد أن تعبر عن وجودها، وتساهم في بناء عالم إنساني جديد، عالم يسوده الأمن والأخوة والسلام.

إن التجربة التي عاشتها الإنسانية اليوم، تدل على أن التدبير العالمي لم يوفر لإنسان هذا اليوم ذلك الهدوء وذلك الأمن وتلك الأخوة التي ينبغي أن تسود بين بني الإنسان، وما ذلك إلا لغيبة عنصر ما من العناصر التي تحقق هذا البعد، البعد الأمني والبعد الأخوي، والتعاون السليم بين بني الإنسان على سطح هذا الكوكب. لعل هذا العنصر الذي يمكن أن يحقق هذا البعد هو ما تبحث عنه الإنسانية. وإفريقيا ترشح نفسها لأن تقوم بهذا الدور العظيم.

في إفريقيا علماء وحكماء وفلاسفة كبار، ولكن القناع لم يسقط عن وجوهم بالقدر الكافي لتراهم أعين الدنيا. إفريقيا اليوم تريد أن تسقط هذا القناع، حتى تراها أعين التاريخ وتراها أعين الناس، لذلك فإن هذا الاجتماع وأمثاله من الاجتماعات التي تحضرها إفريقيا ويكون موضوعها متعلقا بإفريقيا، كل ذلك يدور حول إن إفريقيا تتحرك اليوم، إفريقيا تريد أن تسهم في بناء عالم يسوده الأمن ويسوده الاستقرار ويغيب شبح الحرب والانقسام بين بني الإنسان.

هذه إفريقيا، إفريقيا تبحث عن شيء ثمين ونفيس جدا تبحث عنه الإنسانية، ولا شك أن إفريقيا قادرة على أن تسهم بقدر كبير في إعادة التوازن في إعادة بناء شيء جديد من إسهامها، هذه هي إفريقيا التي تبحث عن نفسها أولا وتحب أن يسمع العالم كلامها ورأيها.

أنا أحب ان أحيي هذه الندوة المباركة باسمي وباسم زملائي وإخواني من علماء الأمة المغربية الذين يلتقون اليوم مع إخوانهم من علماء إفريقيا، الذين نزلوا ضيوفا، لا أقول ضيوفا هم أهل الدار، وما أجمل ان نعيد ما قاله فاضل قديم لضيفه عندما خاطبه قائلا:

يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا *** نحن الضيوف وأنت رب المنزل

إن هذا المنزل الذي ينزل فيه علماء إفريقيا هو منزلهم وهو بيتهم لأن إمارة المؤمنين في هذا البلد التي تعتبر هذه المدينة التي نجتمع اليوم فيها أول مدينة أسستها إمارة المؤمنين عندما قام نظام إمارة المؤمنين في هذا البلد منذ أكثر من 1300 عام. فإمارة المؤمنين في هذا البلد ونظام إمارة المؤمنين في المغرب عريق قديم، والمغاربة عاشوا في ظل إمارة المؤمنين في ماضيهم ويعيشونه الآن وما بعد الآن تحت وفي ظل إمارة المؤمنين.

ونحن بفضل بركة إمارة المؤمنين، أتيح لنا أن نتعرف على إخواننا من علماء إفريقيا، الذين نجتمع معهم اليوم في صعيد واحد إخوانا على سرر متقابلين.  لولا هذه الالتفاتة المولوية لإمارة المؤمنين ما كان لنا لنلتقي بهم ولا لأن نتعرف عليهم، فما فعله أمير المؤمنين من جمع شتات علماء الأمة هنا توزيع علماء الأمة المغربية في كل أرجاء هذه المملكة، فعله أمير المؤمنين أيضا مع إفريقيا تحت لواء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.

فنظام إمارة المؤمنين يعتبر أن العلماء شيء أساسي ولبنة أساسية في بناء الأمة، ولذلك على طول عهود تاريخ إمارة المؤمنين في هذا البلد كانت بلاطات وقصور سلاطيننا أمراء المؤمنين عندنا مليئة بالعلماء وملوكنا أيضا كانوا علماء يجمعون بين شرف النسب وشرف العلم. لذلك لا يسعنا إلا أن نفخر ونعتز بلقاء علماء إفريقيا في صعيد واحد ليناقشوا قضايا أمتهم وفي مقدمتها ما يحقق لهم ذلك البعد الذي يطمحون إليه وهو أن يعرفوا أهلهم وقومهم بهذا الدين العظيم (إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه).

لذلك فإن الطموح الذي يسكن علماء الأمة الإسلامية هي أن يبلغوا ويبينوا لقومهم ولأهلهم معنى هذا الدين العظيم حتى يلتفوا حوله ويكسبوا تلك المناعة وتلك القوة الكبيرة التي يصنعها الدين بعقيدته وشريعته وبتزكيته للنفوس.

أمير المؤمنين في ذلك الزمان الذي بنيت فيه مدينة فاس عندما أحاطها بالسور توجه إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء قائلا: “اللهم إني ما أريد من بناء هذه المدينة مفاخرة ولا مكابرة ولا رياء ولا سمعة، ولكنني أحببت أن تعبد بها وأن يتلى فيها كتابك وتقام فيها حدودك وشرائعك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم”. ثم دعا أمير المؤمنين في ذاك الزمان لساكنة هذه المدينة بان يكفيهم الله شر أعدائهم وان يكثر عليهم من أرزاقه الكثيرة هو نفس الدعاء الذي دعا به نبي الله وخليله سيدنا إبراهيم عليه السلام، عندما بنى البيت هو وإسماعيل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

هو نفس الدعاء ردده بصيغة أخرى أمير المؤمنين في ذلك الوقت وهو ثاني أمير المؤمنين في تاريخ المغرب. ومن ذلك الوقت على مدى أكثر من 1300 عام، ودولة إمارة المؤمنين قائمة والمغاربة قاطبة متمسكون بهذا النظام متعلقون به، لأن فيه الدين والدنيا، تدبير الدنيا وحماية وحراسة الدين. ولذلك بقي العلماء حاضرين طول هذه الفترة الزمنية لأنهم هم حماة وحراس الدين، هم علماء الأمة. ولذلك أمراء المؤمنين عندنا يكرمون العلماء ويقدمونهم، وتكريم العلماء كما هو في الآية الكريمة التي سردناها “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم”، فهنا نشاهد ونرى أن شهادة العلماء تأتي بعد شهادة الله سبحانه وتعالى وشهادة ملائكته بوحدانيته، أي تكريم هذا من الدين للعلماء؟ أي تكريم أكبر من هذا؟ تكريم إلهي رباني قرآني.

علماء إفريقيا اليوم يتهيؤون للتجديد، وللتجديد مكان كبير في ديننا، والحاجة اليوم إلى التجديد قوية وتحتاج إلى العلماء المتنورين وأهل السنة والجماعة الذين اختار أهلنا وقومنا وعلماؤنا وسلفنا رضوان الله عليهم أن ينضموا إلى هذا الاختيار، اختيار أهل السنة والجماعة. وأهل السنة والجماعة هم المعتدلون وأهل الاعتدال وأهل التسامح وأهل العلم.

لذلك فالذي ينظر إلى هذه القاعة يجد فيها إفريقيا العالمة، يجد فيها إفريقيا العابدة، يجد فيها إفريقيا الناهضة، التي تريد أن تقول كلمتها، تريد ان تصلح، والإصلاح يبدأ من العلماء ومن أهل الله الذين أخلصوا النية وعاهدوا الله على أن يكونوا حماة لدينه ولشريعته.

لا أجد كلمة أعبر بها عن سعادة علماء المملكة المغربية كما عبر بذلك معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية والرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة هو برنامج حافل على العلماء أن يتأملوه ولكن أن يتحركوا من أجل تنزيله على الأرض لأنه لا يكفي أن نلقي الدروس والمحاضرات واللقاءات ولكن ينبغي أن نرى هذا الدين -الإسلام- حيا متحركا في أخلاق ومعاملات أمتنا، لابد أن ينتقل هذا الدين من الكلام إلى الحياة، وإذا سكن هذا الدين في أخلاق الأمة فإنها يمكن لها أن تتبوأ المقامات، ألم يثني الله عز وجل على نبيه الكريم بخلقه الكريم؟ (وإنك لعلى خلق عظيم)، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، أشكالها متعددة، ولكن هذا الخلق الكريم هو الذي ينبغي أن نركز عليه، أن يسود في أمتنا وفي أخلاقها، أن نرى هذا الدين حي بيننا، في عباداتنا ومعاملاتنا وكل أعمالنا وأفعالنا.

أتمنى لهذا اللقاء النجاح التام، وأشكر المنظمين له، وأتمنى أن تعقبه لقاءات أخرى لعلماء إفريقيا وصلحائها وعبادها حتى يتحقق لنا هذا الأمل الكبير ونرى هذا الإسلام حي بيننا حيثما توجهنا في حياتنا اليومية نجد الإسلام في أسواقنا وطرقنا وفي كل الأماكن، وليس فقط في المساجد، بل في كل شيء، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما نزل في المدينة مهاجرا إليها بنى المسجد ولكنه أيضا أسس السوق، السوق والمسجد، وكانت أخلاق المسجد أيضا حية في السوق، فتلك الأخلاق الإسلامية كانت في المسجد وفي السوق. ذلك ما نريد وذلك ما يقصده العلماء عندما يتحدثون عن الإسلام في حياة الأمة.

اسمحوا لي أيها العلماء الفضلاء لأني أحب أن أرى إفريقيا العالمة مجتمعة في صعيد واحد كما هي مجتمعة الآن والسلام عليكم ورحمة الله.

كلمات مفتاحية : ,