دور العلماء في حماية الثوابت الدينية المشتركة

دور العلماء في حماية الثوابت الدينية المشتركة

الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية والرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية والرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

ألقيت هذه الكلمة خلال الجلسة الافتتاحية للندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الأكرمين

أيها السادة، أيتها السيدات

ينعقد هذا اللقاء العلمي في موضوع: “قول العلماء في الثوابت”، ومن خلال محاور اللقاء يتبين أن المقصود بالثوابت هو: نظام إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف.

وإذا أردنا أن نعُرب العنوان قلنا: قول العلماء: “قول” خبر مبتدإ محذوف تقديره: هذا قول العلماء. ويفترض العنوان أنه جواب عن سؤال، وهو: ما قول العلماء في الثوابت؟ فكيف يمكن أن تفترض موجبات السؤال؟ ثم لمن نبحث عن الجواب؟

لكي نتقدم في فهم النازلة نلُقي سؤالا آخر هو الآتي:

عبر تاريخ المغرب وعلى توالي القرون كتب علماء المغرب في الثوابت: فقد كتبوا في الإمامة العظمى وكتبوا في العقيدة وفي المذهب المالكي وفي التصوف.

فهل يتعلق الأمر في هذه الندوة بإضافة قول إلى أقوالهم؟ أم يتعلق الأمر بالتذكير بأقوالهم؟ أم يتعلق الأمر بتوضيح شيء غامض في أقوالهم؟

لا شك أن خلفية السؤال الموضوع في الندوة لا تتعلق بإضافة شيء لم يقل، ولا بمجرد التذكير بما سبق أن قيل، ولا بتوضيح الغامض في تلك الأقوال.

ولكيلا نظل متورطين في شبكة هذه الأسئلة المتناسلة، نقول إن خلفية سؤال الندوة هي أمور تتعلق بهذه الثوابت التي عرفها المغرب في العقود السبعة الأخيرة، وتعود أساسا إلى السياق التالي:

  • بحث المسلمين عن مكان لأنفسهم في الأنظمة السياسية السائدة.
  • تجدد حرب العقائد بين المسلمين في سياق تاريخ عنيف على الصعيد العالمي، ذهب ببعض الفرق إلى العنف والإرهاب كحل للرد على الإهانة والاستضعاف الذين تعرض لهما المسلمون.
  • سعي التيارات العنيفة نفسها إلى التنكر لشرعية الاختلاف في الجزئيات والوقوع تبعا لذلك في حرب المذاهب التي تتراوح بين التشويش والشغب والتبديع والتكفير.
  • سعي هذه التيارات نفسها إلى تشكيك المسلمين في السلوك التربوي الروحي المعروف بالتصوف، وهذا النهج في الإنكار زاد مع تزايد الخوف منذ اختل التوازن بين العالم الغربي والعالم الإسلامي.

تبعا لهذا التطور لا يسُتغرب أن نرى في كل بلد مسلم متحدثين في الدين مناصرين لتوجهات غريبة عن البلد وذلك في مواجهة علماء الأمة حماة الثوابت.

هكذا يمكن أن نفهم عنوان هذا اللقاء: “قول العلماء في الثوابت.”

وهذا يعني أن العلماء المتكلمين هنا يعتبرون غيرهم، من المتكلمين المتشككين في الثوابت أو المعترضين، متكلمين مارقين لا يستحقون صفة علماء الأمة لأن علماء الأمة لا يمكن أن يكونوا إلا حُماة لثوابتها.

ويحق لهؤلاء، أي لعلماء الأمة، أن ينتفضوا لحماية الثوابت من زاويتين: زاوية الفهم الصحيح للنصوص، وزاوية الفهم المقنع للأجيال الجديدة المعرضّة للنهب الفكري من أولئك المعترضين المندرجين في الأصناف المذكورة في السنة وهي: الجهل والغلو والانتحال.

ولا تقل أهمية الإقناع بالنصوص وأقوال السلف، عن أهمية الإقناع بمنطق التاريخ الحديث، وبهذا الصدد نكتفي بالإشارات الآتية:

أولا: فيما يتعلق بإمارة المؤمنين

ليس لأي تيار مها كان متطرفا أن يقترح نظاما سياسيا أكمل من إمارة المؤمنين في جمعها بن إمامة الدين وتدبر الدنيا.

أن هذا النظام، بمنطق النظر السياسي الكوني، هو نظام مبني على تعاقد اجتماعي تكون فيه المشروعية مقابل الالتزام بالكليات وهو أمر ينسجم مع آليات التدبر المؤسساتي الحديث ومع أهم أهداف الدساتير الحديثة. وإشارتنا هنا إلى “العقد الاجتماعي” (contrat social)  وهو مدار تطور الحكامة في الغرب لاسيما منذ القرن الثامن عشر، والمقابل له في نظامنا هو “البيعة” بشروطها.

ثانيا: فيما يتعلق بالعقيدة

وبهذا الصدد فما يمكن لأي تيار أن يتصور الدين مبنيا على الإكراه، وبالتالي اشتراط العمل في صحة معنى الإيمان وترتيب استعمال العنف على ذلك التعريف.

ثالثا: لا يمكن لأي تيار مها كان أن يلمز عمل أئمة السنة في اجتهاداتهم في بناء المذاهب سيما وأن الاختلاف يهم الجزئيات التي يتوجب حماية عامة الناس بشأنها درءا للفتنة.

رابعا: أما السلوك التربوي الروحي الموسوم بالتصوف فإنما يماري فيه المعارضون ومعارضتهم تهم ما يسمى بالشطحات أو بالأذواق أو الأحوال أو تهم العوائد الاجتماعية المرتبطة بأنواع من التبجيل المحالة من الموضوع إلى الذات، إن هذا النقد لا يهم جوهر هذه التربية الروحية التي تدور قبل كل شيء على التخلص من شح النفس الذي يمكن التعبير عنه في لغتنا اليوم بالأنانية، وقد استقصت الندوة التي نظمتها جامعة أوتريخت عام 1997 هذه الاعتراضات على التصوف في تاريخ المسلمين وعبر بلدانهم.

(انظر أعمال الندوة بعنوان: Islamic Mysticism Contested: Thirteen Centuries of: Controversies and Polemics, Brill, 1999)

أيها السادة، أيتها السيدات

إن المسلمين يعيشون اليوم على هوامش الحضارة الغربية، وليس لهم أن ينتقدوها لأنهم تبع لها وعالة عليها في كثر من جوانب نمط عيشهم، غير أن هذه الحضارة نفسها، والمسلمون منشغلون بالخلافات في الجزئيات المذهبية بينهم، والحالة هذه لابد أن يشعروا بالذنب وهم يرون أن المحللين لهذه الحضارة من أبنائها قد أخذوا ينتقدون مساوئها ويقترحون الحلول لمشاكلها بناء على قيم هي في صميم الإسلام وإن كان المسلمون قد نبذوها أو هم في خصام شديد حولها، ولعل من أوائل المنتقدين الصارمين لهذه الحضارة في القرن العشرين الفيلسوف  Ivan Illich الذي بين مساوئ في النظام التعليمي والصحي في الحضارة المذكورة، والذي اشتهر على الخصوص بكتابه: ” Tools for Conviviality” حول المشاطرة والمودة، ومن الطريف أن هذا المفهوم يذكرنا بما هو راسخ في عرفنا عندما يقول شخص ما لشخص آخر أو لعدة أشخاص  إننا «شاركنا الطعام»، الأمر الذي يحيل على التزامات بين المشاركين بعضهم بعضا في الطعام وهي: الحرمة والسلم والوفاء، هذه الصفات التي رأى الناقد المذكور أن الحضارة الغربية قد نزفت منها أو تكاد، ولكن ناقدا آخر ما يزال على قيد الحياة هو Edgar Morin قد برز في هذا النقد بكتابات رصينة عديدة، ومن كتبه الكتاب الذي عنوانه: «الطريق »La Voie ويقصد طريق الإصلاح في مختلف نواحي الحياة، وفي فصل منه سماه : « الطريق إلى إصلاح الحياة »La voie de la réforme  de vie يرى أن أبواب الإصلاح تتصل كلها بما نسميه في ديننا بالوسطية، أي الاعتدال، ومنه ضرورة التوازن بين الطمأنينة والكثافة في النشاط، والتوازن بين استقلال الفرد واندماجه في الجماعة، والتوازن بين الرصانة والتفاهم، والتوازن بين خصوصيات الذكور في الجلد وخصوصيات الأنثى في الرقة، ثم تنمية العائق الجالية بن الأفراد والجماعات والاستفادة من التجارب الحميمية لبعض الطوائف.

وأكتفي بالإشارة الموجزة إلى بعض ما ذكره بخصوص التوازن بين الطمأنينة وكثافة النشاط حيث قال: ينبغي تعويض التناوب بين الانهيار العصبي والفورة الانفعالية بزوج آخر هو التناوب بين الطمأنينة وكثافة الحياة. لأن التناوب بين الانهيار والإثارة العصبية يصاحبه التناوب بين ضغط الوقت والانزعاج والهم والملل وما يترتب عن ذلك من اللجوء إلى مثيرات منها الكحول وأنواع المسابقات واللعب واللهو. ويرى هذا الفيلسوف الاجتماعي المحلل أن تحصيل الطمأنينة وتحقيق درجة من الكثافة في ممارسة الحياة يتطلب سلوك طريق تربوية سماها Auto-éducation «التربية الذاتية» وتقابلها عندنا التزكية، وتتمثل في أمور منها:

  • تهذيب انفعالاتنا أي التحكم في نزعتنا إلى الغضب والحقد والضغينة، إلخ…
  • التمرن على الموازنة بين إعمال العقل والإنصات للعاطفة دون المبالغة في جانب واحد؛
  • الحرص على محاسبة النفس بقصد معرفة الذات ومعرفة الغر؛
  • قياس القيمة الذاتية بقياس السلوك والعمل؛
  • تخصيص وقت للتدبر أو التأمل، التأمل بالمعنين الغربي والشرقي؛
  • التخلص من الإدمان على التسممات الناجمة عن الاستهلاك، حتى يستمتع الشخص بالطيبات؛
  • إعمال التناوب بن الزهد والفرح؛ لأن الزهد يعالج التهالك على الشراء والعبودية للتذوقات المصطنعة والشهوات الزائدة وذلك دون التفريط في المرح السليم.

أيها السادة، أيتها السيدات

إن كلام علماء الأمة عن الثوابت لبيانها لعامة الناس والدفاع عنها في وجه الجهل والانتحال والتطرف واجب جليل يدخل في باب إكساب المناعة لجسم الأمة ودفع الفتنة عنها والتمكن للأمن الذي هو شرط قيام الدين وتيسر التدين، إنه يدخل في دفع المفسدة، ومن المؤسف أن هذا الاشتغال يأخذ من جهد العلماء ووقتهم وهمهم ما أحرى به أن يوجه إلى جلب المصلحة، والمصلحة المنتظرة من العلماء هي حسن التبليغ الذي يهدي الناس إلى الحياة الطيبة، وقد ألمحنا في الإشارات التي سقناها آنفا بخصوص بحث الفكر الغربي عن سبل إصلاح الحياة إلى أن سبل هذا الإصلاح متأتية واضحة في ما عندنا من الوحي والسنة وسِرَ الأتقياء وحكمتهم، فيتحصل أن العلماء يتوجب عليهم على سبيل التقدير أن يخصصوا ثلث جهدهم لمنع هدم المخربين وأن يخصصوا ثلثي وقتهم وجهدهم لبناء التبليغ الرصين وأن يكونوا القدوة فيه بسلوكهم.

لا شك أن هناك تحديات تواجه العلماء في السياق الحالي وهم يعملون على حماية الثوابت، ومنها:

  1. تعريف العالم منظورا إليه من جهة الإخلاص وفقه الثوابت.
  2. تعريف الثوابت وفهمها من جهة حفظ المصالح وفي مقدمتها الأمن من أنواع الخوف؛
  3. تعدد المتكلمين في الدين ووجود وسائل تيسر نشر الحق كما تسهل إشاعة الباطل.
  4. ضعف فكر المسلمين في تحليل ما ينبغي أن يكون عليه النظر إلى العلاقة بين السياسة والدين.
  5. ضعف ثقافة استيعاب التاريخ وعبء ذلك الضعف على كاهل ضمير فئات واسعة من المسلمين.
  6. توسع العلوم حول الإنسان وحول مفاهيمه المركزية ولا سيما العدل والمساواة والحرية وضعف استيعاب المسلمين لهذه المفاهيم وكيفية التعامل مع الاجتهادات الكونية فيها؛
  7. مشكل النقص في تربية عامة الناس على التمييز بين الكلي والجزئي ومراعاة الأولويات.
  8. تأثير الحروب المذهبية المعاصرة.
  9. التأثير السلبي لبعض التوجهات الإعلامية على عقول عامة الناس؛
  10. ازدياد الطلب على المادة الدينية أمام قلة اليقين في الحياة المعاصرة؛
  11. ضعف المستوى التعليمي العام للمستهلكين للمادة الدينية.
  12. ضعف ثقافة المستهلكين للمادة الدينية؛
  13. ضعف ثقافة فهم الخاف وتدبره في الحياة المعاصرة حتى من قبل بعض المتكلمين من ذوي النيات الحسنة.

وبهذا الصدد قال بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾، قال: والاختلاف المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين وإن كان يزعم أنه من متبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل والإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة… (انظر تفسير ابن عاشور: التحرير والتنوير).

  1. ضعف تقدير العواقب السياسية للكلام الديني الموجه للعامة؛
  2. محورية النموذجية العلمية التي سداها الفقه ولحمتها الورع.

إن ما يهم علماء المملكة المغربية في هذا الشأن هو نفسه ما يهم إخوانهم في مختلف البلدان الإفريقية حيث ينبغي العمل في واجهتين، واجهة حماية تدين عامة الناس داخل ثوابتهم درءا للتشويش المثير للفرقة والفتنة، وفي نفس الوقت يعملون على صرف الجهد الأكبر في تبليغ القيم العملية للدين وتوضيح جدواها في التقوى من الهم والحزن وكل أنواع البلوى التي وعد الله سبحانه وتعالى الأمة برفعها عنها بالشرطين المذكورين في قوله تعالى:﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾.

ويصير هذا الحرص على بناء الحياة الطيبة أوكد في البلدان المتعددة الديانات والثقافات حيث تزيد مسئولية المسلمين في إظهار قوة دينهم في تدبر الحلول لمشاكل حياة الإنسان، وفي الوقت ذاته يكون الإصلاح أبلغ تكذيب لجميع دعاوى الإرهاب باسم الإسلام.

وعسى أن ترتكز برامج مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة على هذين الجانبين: حماية الثوابت وبناء السلوك المفضي إلى الحياة الطيبة لدى الأفراد من الرجال والنساء ولدى الأسر والجماعات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

كلمات مفتاحية : ,