الظاهرة السلفية في التعامل مع النصوص الشرعية

الظاهرة السلفية في التعامل مع النصوص الشرعية

إبراهيم مقري عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية نيجيريا
إبراهيم مقري عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية نيجيريا

ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 28 – 29 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 7 – 8 نونبر 2018م بمدينة مراكش.

الحمد لله الكبير المتعال، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المتّبع في الأقوال والأفعال والأحوال، وعلى آله وأصحابه والتابعين له في كل حال.

أما بعد، فالسلفية من المصطلحات المحفوفة بالكثير من الإشكاليات، ولكنها عموما تدل على النسبة إلى السلف الصالح، وهم أهل القرون الثلاثة التي صح الحديث بالثناء عليها، «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»[1].

ومما يخفف من حدة الإشكالية جريان العرف بإطلاق المصطلح على طائفة معينة من الطوائف الإسلامية، والعرف مقدم على اللغة عند التعارض.

تعود جذور هذه الطائفة إلى مدرسة أهل الحديث التي ظهرت في القرن الثالث كرد فعل للاعتزال، ثم ما لبثت أن خاضت معارك فكرية ضد جميع المدارس الإسلامية الأخرى واعتبرت نفسها «حامية الهوية السنية الإسلامية الصافية التي تدافع عنها وتنقِّحُها من الأمور الدخيلة» [2]

ظهرت كتيار عقدي له موقفه الإثباتي من الصفات المنطلق من موقف الإمام أحمد الذي يعتبرونه «إمام أهل السنة على الإطلاق… وإن أئمة الحديث والسنة بعده أتباعه إلى يوم القيامة»[3].

وقويت شوكة هذه المدرسة العقدية، وتبنّتها الدولة العباسية أيام أبي العباس القادر بالله (422هـ) الذي أقر بها كمنهج رسمي للدولة. ثم ما لبث أن تراجع نفوذها إثر انقسام أهل الحديث إلى حنابلة وقافين على ظاهر النص وأشعرية متوسطة بين جموح العقليين وجمود النصيين، وانتصر جل محدثي تلك الحقبة للأشعرية لما تتسم به من توازن وجمع بين النقل والعقل، ويمكن أن يُقَلّ مجلّدٌ بأسماء المحدثين من أشاعرة القرن الخامس وما بعده.

وهكذا تراجع نفوذ الحنابلة الذين استقلُّوا باسم أهل الحديث والأثر بعد أن غلب اسمُ الأشاعرة على الجامعين بين النقل والعقل. وفي القرن الثامن الهجري برز ابن تيمية منتصرا للاتجاه الحنبلي ومُنظِّرا رئيسا له، ساعدته غزارة علمه وسيولة قلمه على وضع معالم هذا الاتجاه، وقضى حياته مدافعا عنه ورادّا على خصومه، سواء خصومُ الداخل (داخل دائرة أهل السنة والجماعة): الصوفية والأشاعرة، أو خصوم الخارج (المذاهب الإسلامية الأخرى): الشيعة والمعتزلة.

وأخيرا ظهر في القرن الثاني عشر بالحجاز محمد بن عبد الوهاب الذي اعتبر نفسه مجددا للحركة السلفية، وأعانه عليه قوم آخرون من ذوي السلطة، وإن كان لا يرقى إلى أقطار سماوات الإمام أحمد وابن تيمية العلمية والفقهية.

وأدى تحالف القوى السياسية مع النخبة الدينية المتمثلة في محمد بن عبد الوهاب ومن بعده، أدى إلى تصاعد هذا الاتجاه الحنبلي الذي استأثر باسم السلفية وآثره على سائر أسمائه، وإن كانت جميع مدارس أهل السنة والجماعة لا تسلِّم له في هذا اللقب.

وإن الانتشار الكبير لهذه المدرسة أدى إلى تشعبها إلى اتجاهات يصنِّفها بعض الباحثين في أربع شعب: التقليدية والجامية والحركية وأخيرا الجهادية.

وهذه المداخلة إنما تتعرض، فحسب، للمدرسة السلفية التقليدية التي عرفت بمواقفها العلمية وابتعادها عن الساحة السياسية، وهي المدرسة المعروفة بالتمسك بالنص دون الاهتمام الكبير باستقراء علله وسبر معانيه ومقاصده ومآلاته، وتعتبر هذه السلفية امتدادا للمدرسة الحنبلية أو مدرسة أهل الحديث كما سبق. واختارت المداخلة سمات أربعةً تراها كفيلة بإبراز موقف هذه المدرسة في تعاملها مع النص الشرعي.

السمة الأولى: نفي المجاز ذريعةً إلى الإثبات في الصفات

المجاز مأخوذ من الجواز وهو الانتقال من حال إلى حال، وهو في الاصطلاح «اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا في الاصطلاح الذي به التخاطب لما بينهما من التعلق»[4]

والمجاز وسيلة اللغة الفعالة للتمطيط والتوسيع، بما يضفي عليها من إمكانيات غير متناهية، مكتفية في ذلك بوحدتها المعجمية الثابتة دوالها والمتغيرة مدلولاتها، التي تغدو في السعة بحيث تستوعب دلالات جديدة تربطها بالدلالة الأصلية وشائج المناسبة.

وبالرغم من أن أكثر كلام العرب يدخل في المجاز، لكن ثلة من العلماء مثل أبي إسحاق الاسفراييني وأبي علي الفارسي وابن خويز منداد المالكي وابن تيمية الحراني وغيرهم ذهبوا إلى نفي المجاز، بعضهم نفى وجوده في الكتاب والسنة خاصة، والبعض الآخر نفاه من كلام العرب عامة، واحتجوا بحجج لا يقوم الدليل بمثلها، فقولهم بأن المجاز كذب لا يسلَّم لهم إذ المتكلم بالمجاز لا يريد أن يعقل عنه غير المعنى المجازي، ولو فهم عنه المعنى الحقيقي لخطّأ المستمع خلاف الكاذب، يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني «ومن قدح في المجاز وهمّ أن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطا عظيما»[5]

وقولهم بأن المجاز طريق إلى الإخلال بالفهم كذلك قول مردود، لأن اللفظ إما أن تلحق به قرائن حالية أو مقالية فيُحمَل على ما دلت عليه القرائن، وإما أن يخلو منها فيبقى على حقيقته. يقول العلامة الشوكاني، «المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم، وخالف في ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وخلافه هذا أبلغ دلالةٍ على عدم اطلاعه على لغة العرب، وينادي بأعلى صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات»[6]

غير أن منكري هذه الثُنائية ذهبوا إلى تأييد دعواهم كل مذهب، فابن تيمية ينكر المجاز «لأنه لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم… وإنما هو اصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوِهم من المتكلمين».[7]

وألّف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كتابا على مذهب إمامه سماه (منع جواز المجاز في المُنزَّل للتعبُّد والإعجاز) مخالفا فيه أساطين التفسير وأرباب اللغة.

لكن الحقيقة التي أكدها من تعرَّضوا لموقف ابن تيمية من المجاز هي أنه لم يؤسس هذا الموقف من منطلق لغوي، وإنما كان ذلك وسيلتَه إلى نفي التأويل في آيات الصفات، حيث يُعتبر المجاز أكبر عقبة أمام مذهبه الإثباتي. فأُسُس الخلاف العقدي بين الحنابلة وسائر أهل السنة والجماعة إنما ترجع إلى ثلاث مسائل: الصفات الخبرية والقول بالجهة وكلام الله بحرف وصوت، وكل المسائل الثلاثة تتوكأ على مسألة الحقيقة والمجاز لفض النزاع فيها. وقد أصر بعض الحنابلة على القول بالظاهر في هذه الأمور، ورفضوا أن يكون للسلف الصالح قول غير هذا، ومن أجل ذلك استحقُوا نعت السلفية على رأيهم، ونَسبوا كل من يقول بغير ما يقولون به إلى الزيغ والضلال.

والحقيقة أن التفويض والتأويل مذهبان للسلف الصالح، لكن التفويض أشهر في السلف لعدم المقتضي، والتأويل أشهر في الخلف لظهور الفِرق، يقول العلامة الشوكاني في مذاهب العلماء فيما يدخله التأويل من مسائل العقائد وأصول الديانات، كصفات الباري عز وجل «قد اختلفوا في هذا القسم ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تُجرى على ظاهرها… وهذا قول المشبِّهة، والثاني أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل، والمذهب الثالث أنها مؤولة، قال ابن برهان والأول من هذه المذاهب باطل والآخران منقولان عن الصحابة، ونقل المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة»[8].

وعند إمعان النظر يُدرَك أن الطريقة واحدة بين المذهبين، فكلاهما ينزِّه الباري عز وجل عن الظواهر المنطوقة، لكن المفوضة تفوّض اللفظ والمعنى معا بينما المؤولة تؤول تأويلا تفصيليا. فالمذهبان لا ينفكان عن التأويل أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي، «فاعتقادهم واحد وهو أن الآيات والأحاديث المتشابهات مصروفة عن ظاهرها الموهم تشبيهَه تعالى بشيء من صفات الحوادث»[9]

لكن ابن تيمية وبعض الحنابلة يرفضون أن يكون هذا التفويض مذهبا للسلف، بل يلحون على إثبات المعنى المعجمي مع تفويض الكيف، وهذا يخالف المروي عن فضلاء الحنابلة من إمرار هذه الصفات بلا كيف ولا معنى، يقول ابن قدامة المقدسي «وما أشكل من ذلك، أي الصفات الذاتية، وجب إثباته لفظا وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ونجعل عهدته على ناقله» [10] ويقول ابن رجب الحنبلي «والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل» [11].

وتحدث الحافظ ابن الجوزي عن الحنابلة الذين زلت أقدامهم فوقعوا في جحر التجسيم «ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح…فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس».[12] وإن كنا لا نؤاخذ ابن تيمية بأنه من جملة هؤلاء، لكن مذهبه في التفويض الكيفي راوده حتى كأنه ألقاه في درك التجسيم، ومن جملة أقواله المأخوذة عليه، وهي من الكثرة بمكان، وإنما أردنا التمثيل، قوله في الفتاوى الكبرى «فما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة هو حق وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلمين بلفظ الجسم فلازم الحق حق، كيف والمثبتة تقول إن ثبوت هذا معلوم بضرورة العقل ونظره، وهكذا مثبِت لفظ الجسم إن أراد بإثباته ما جاءت به النصوص صوَّبنا معناه ومنعناه عن الألفاظ المبتدعة» [13].

لمثل هذه النقولات التي تكتظ بها مؤلفات ابن تيمية وغيره من الحنابلة القائلين بالتفويض الكيفي رماهم معارضوهم بتهمة التجسيم وملزومِ القول بظاهر الآيات المتشابهات.

السمة الثانية: النصية وقلة الوعي المقاصدي

في مداخلة ماتعة بندوة (السلفية: تحقيق المفهوم وبيان المضمون) قدم السيد الدكتور محمد جميل كلمة عن السلفية بين النصية والمقاصدية، تعرض فيها لحتمية المزج بين النصية والمقاصدية ووسائل تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه، ما يجعل دور هذه المداخلة لا يتعدى اختبار دَور المقاصد في تعامل المدرسة السلفية مع النص الشرعي.

ونبادر إلى القول بأن «تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي…لكن الانحراف يحصل عند التمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها»[14]، فإن «استقراء الأدلة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجحة للصلاح العام للمجتمع والأفراد» [15].

فالأهداف العامة التي تسعى الشريعة الإسلامية إلى تحقيقها هي مقاصد الشريعة، وقد رأينا كيف أدى وقوف المدرسة السلفية عند ظواهر النص إلى الإعراض عن التأويل في مسائل العقيدة، فكذلك وقف البعض منهم الموقف النصوصي نفسه في المسائل الفقهية، حتى وُجد من بلغ به الجهل بحيث زعم أنه «يكفي الواحد ليجتهد في أمور الشرع أن يقتني مصحفا مع سنن أبي داود وقاموس لغوي».[16]

فهؤلاء الذين يقصدهم بعض المعاصرين بالظاهرية الجدد لشدة تمسكهم بالظاهر وعدم تمكنهم على ملكة كشف العلل والمقاصد الكلية للشريعة، «فلهم من الظاهرية جمودهم ووقوفهم عند الظواهر وإنكارهم للحكم والمقاصد والقياس الصحيح، وإن لم يكن عندهم علم الظاهرية وتبحرهم ولاسيما في معرفة النصوص والأحاديث والآثار»[17].

أدت بهم هذه النصوصية إلى فتاوى عجيبة أدارت ظهرها لكل ما يمت إلى العقل والمنطق على حساب ظاهر النص، فمن قائل بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة وفي الأموال الورقية ومن قائل بقصر المغترب الصلاة حتى لو طال به المقام سنين عددا، ومن مضيِّق باب الربا على الأصناف الستة المذكورة في الحديث، ومن متوعد بالويل والثبور كل من أسبل إزاره غير مختال ولا فخور، أو من صوّر أو صُوّر ظليا، وغير ذلك من الشذوذات التي منشؤها غياب الفقه وفقدان آليات الاجتهاد واتباع «المدرسة النصية الحرفية، وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث ولم يتمرسوا الفقه وأصوله ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط، ويكادون لا يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال»[18].

وهذا الاتجاه لا يمت إلى الإمام أحمد ولا إلى مذهبه الفقهي بأية صلة، رغم انتساب أصحابها إلى مدرسته العقدية وزعمهم مشايعته في الأثرية، ولذلك لم يرتض أغلبهم أن يُنسب إلى مذهب الإمام أحمد الفقهي، فكم للإمام أحمد من نظرات فقهية مرجعها إلى المقاصد والمآلات، مثل سد الذريعة الذي وافق فيه الإمام مالكا دون الأئمة.

ولم يكن لابن تيمية ولا تلميذه ابن القيم كذلك يد في هذا الجمود الفقهي، وإن كانا يجلان أعيان المذهب الظاهري، لكن دورهما في تأطير وتنظير الفقه المقاصدي لا يخفى، ففي (إعلام الموقعين) فصل خاص عن تغير الفتاوى والأحكام بسبب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، وأورد على ذلك أمثلة كثيرة منها إسقاط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد عام المجاعة، ومنها عدم تعين صدقة الفطر من الأنواع التي وردت في الحديث، كما وافق خلاف ظاهر النص وخلاف الجمهور في المصرَّاة على رد صاع من تمر بدل اللبن، فرجّح القول بأن يُخرَج في كل موضع صاع من قوت ذلك البلد»[19]

ومما تجدر الإشارة إليه قبل طي هذا المحور أن بدعة الفصل بين النص ومقاصده التي تكتوي منها مدرسة أهل الحديث في المشرق لم تجد موطئ قدم بين أهل الحديث المغاربة، بل بالعكس فقد كان لهم دور ملحوظ في طرح النموذج المثالي من التلاقح والتكامل بين النص ومقاصده، ولا يفقِد ذلك صلة بمناهج التعليم في المغرب التي تقوم أساسا على التكامل بين العقل والنقل.

السمة الثالثة: تحجير مسائل الاجتهاد

هذا المحور امتداد لما قبله، وهو أيضا من آثار النصوصية واتهام الرأي، لكن المحور السابق تعرض للموقف من النظرة الكلية للشريعة ونصوصها، بينما يختص هذا المحور بتنزيل النص على ما لا نص فيه.

وقد رأينا كيف «أضفت الحركة السلفية القداسة على النصوص والمأثورات وفق منهجها النصوصي الذي وقف عند هذه النصوص والمأثورات، بل وقف عند ظواهرها عندما رفض أن يُعمل الرأي أو الاجتهاد أو التأويل أو القياس حتى عندما كانت تتعارض نصوص هذه المأثورات ومضامينها»[20]، فقد كان ابن القيم معجبا بالإمام أحمد لأنه لا يخرج من الخلاف بالجمع أو الترجيح، بل «إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عن ابن حنبل في المسألة روايتان»[21].

فعلماء «السلفية يرون في وجود النصوص والمأثورات مانعا من إعمال الرأي فيها بصرف النظر عن قطعية ثبوتها وقطعية دلالتها»[22] أو عدمها، حصروا مجال الاجتهاد في النصوص الظنية ثبوتا أو دلالة، ثم يَحكمون بالقطع في ثبوت مرويات الآحاد خلافا للأصوليين، ويحكمون كذلك بالقطع في دلالة ما يرى غيرهم فيه فسحة للاختلاف، «فكم من المعاملات المباحة حرّمت وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأخرج أقوام من الملة، زاعمين من ذلك كلِّه مخالفةَ القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة، وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين»[23].

ثم إنه على فرض أن النص قطعي الثبوت والدلالة فليس هذا إغلاقا لباب الاجتهاد فيه، فالدلالة لا يتحتم أن تكون واحدة، فآية السرقة قطعية في مسمى السرقة وظنية في مسمى النبَّاش والطرار، ما أدى إلى خلاف الأحناف إلا أبا يوسف.

هذا، ومن أجلّ أبواب الاجتهاد رد النظير إلى نظيره في الكتاب والسنة وهو القياس الذي يٌعتبر «مناط الاجتهاد وأصلَ الرأي ومنه يتشعب الفقه…ومن عرف مآخذه وتفاسيمه…فقد احتوى على مجامع الفقه»[24] وهو أهم أبواب أصول الفقه باتفاق لأنه مفتاح الاجتهاد والاستنباط.

وقد كان موقف الإمام أحمد منه الردَّ قبل المحنة والعدولَ إليه في حال الضرورة بعد المحنة واستقلال المذهب، أما سائر علماء مدرسة الحديث فقد استمروا على رفض القياس، ولعل هذا مما أدى إلى إقلال المذهب الحنبلي من مدرسة أهل الحديث الفقهية، فإذا كانوا «يتوقفون فيما لا أثر فيه لاتهامهم الرأي، فمن الطبيعي أن يرغبوا عن القياس إذ هو أبرز سمات الرأي وأقوى دعاماته»[25] وقد عقد البخاري في الصحيح وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما فصولا في ذم القياس والتنفير عنه لسبب الخلاف القائم بين أهل الحديث وأهل الرأي (الأحناف.)

ولكن بعد أن قعِّدت قواعد القياس وضبطت معالمه بعد القرن الرابع كاد الإجماع ينعقد على وجوب الأخذ بالصحيح منه خلافا للظاهرية والجعفرية والزيدية ومن منعه بعد المائة الرابعة كالحموي والطحاوي، وإن كان علماء المدرسة السلفية ظلوا يغمزون القياس كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا، قال ابن القيم «إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط وإن فيها غنية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان»[26] وعقد فصلا في (إعلام الموقعين) عن بيان شمول النصوص والأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس، وكان تأثره في كل ذلك بابن حزم الظاهري كما لا يخفي.

ثم إنه بالرغم من قبولهم حجية القياس لكنهم اتخذوا موقفا متشدِّدا تجاه القياس في العبادات الذي رأوه كأنما يثبت عبادة مبتدأة، فأحكموا إغلاق أبوابه في مستوى التقعيد والتأصيل وإن كانوا جنحوا إليه كثيرا في مستوى التنزيل والتفصيل، فابن عثيمين يطلق القول بأن «العبادات مبنية على التوقيف فلا قياس فيها، ولو دخل القياس في صفات العبادات وما أشبهها لضاع انضباط الناس»[27].

ومن تأمل كلام علماء المدرسة السلفية في مسمى البدعة يجد أن أكثره يتعلق بهذه القاعدة المحررة خطأ، فالعبادات قد تكون محضة ويطلق عليها التعبد، وقد تكون معقولة المعنى، فكلما لم تُعلم العلة ولم يُخرج المناط فلا سبيل إلى القياس. فمنع القياس في العبادات إنما هو من جهة كونها غير معقولة المعنى، لكن القياس يصيغ في كل عبادة عقلت معناها، يقول الزركشي «كل حكم شرعي أمكن تعليله يجري القياس فيه»[28].

نعم، لقد التزم الشيخ ناصر الدين الألباني الدقة عندما قال في أحكام الجنائز له «وأعرضت مما[29] كان مستنده مجرد الرأي لأن الموضوع تعبدي محض لا مجال للقياس فيه».[30] لكن السؤالين الطارئين هنا: هل فعلا هذا الموضوع تعبدي محض كله، وهل التزم الشيخ بقاعدته فعزف عن القياس في الموضوع كله. إن الجواب عن السؤالين قد يخرج بنا من إطار المداخلة التي نحن بصددها.

السمة الرابعة: تضييق دائرة الخلاف إلى حق وباطل

إن من القواعد الفقهية الجليلة القدر التي تؤكد عالمية الإسلام وتؤصل ثقافة الحوار والتعدد الفكري وتحترم الفروق الفردية قاعدةَ (لا إنكار في مسائل الاجتهاد.)

لكن كثيرًا من أصحاب المدرسة السلفية ظلوا ينظرون بارتياب إلى القاعدة، ويبحثون عن كافة السبل لإلغائها أو الطعن فيها، وإلا فلا أقل من حصرها في حدود ضيقة، ما جعل خصومهم يرمونهم «بالاعتداد بالرأي الذي يذهبون إليه إلى حد عده الصواب المطلق، وكل الآراء الأخرى التي يقول بها غيرهم خطأ محض… ولهذا يحاولون أن يلغوا الآراء الأخرى والمذاهب الأخرى وأن يجمعوا الناس على رأيهم لا شريك له».[31]

وانتهى بهم الحال إلى نوع من الإرهاب الفكري عن طريق تجريح المخالفين لهم واتهامهم بالبدعة والفسق وعداوة السنة، يقول الألباني في وصف جمهرة أهل السنة والجماعة «أعداء السنة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم».[32]

فلا أدري ماذا يبقى من السنة وأهلها إذا أخرج منها هذه الطوائف التي رماها الشيخ بعداوة السنة، بعد أن قد ذهب كل من يعتد بقوله من علماء الأمة على أن أهل السنة صفة لثلاث طوائف: أهل الحديث، أهل النظر وهم الأشاعرة والحنفية (الماتريدية) ثم أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية. ذكر هذا غير واحد من أئمة أهل السنة مثل البغدادي في (الفرق بين الفرق) والسفاريني في (لوامع الأنوار البهية) والبياضي في (إشارات المرام) والزبيدي في (إتحاف السادة المتقين) وغيرهم.

وما زال الخلاف سائرًا بين علماء الأمة في فروع الدين دون دعوى احتكار الحق كله، بل حتى في المسائل الكلامية، إذ إنها ليست المسائلَ التي يحظر الخلاف فيها خلافا للإمام الغزالي ومن قلدوه في هذا القول. «فالمسائل المتفرعة عن الأصول العقدية تعد من فروع الدين لا من أصوله، وارتباطها بالأصول العقدية لا يحوّلها بأي حال من الأحوال إلى أصول حقيقية يحظر فيها الخلاف بتاتا ولا يصح فيها الاجتهاد، بل إن ما يؤثر فيها من خلاف معتبرٍ يندرج ضمن دائرة الخلاف السائغ المشروع، والناس فيها بين مصيب ومخطئ ولا يعد المخالف فيها خارجا عن الملة».[33]

ومما يتصل بهذا الأصل ويحتاج إلى إقلال محور خاص به قضية الفرقة الناجية التي ألف عدد ممن ينتمي إلى المدرسة السلفية كتبًا يدّعون فيها أنهم دون جميع المسلمين المستثنَون في الحديث. وفي هذا من الخطورة ما لا يخفى على عاقل.

وضيّقوا كذلك مجال الخلاف الفقهي غير عابئين بجمالية المنهج الإسلامي الذي يقدِّم مراعاة القصود وإفراغَ الوسع في الخلاف، هذه الجمالية التي تستخلص من الحديث الذي رواه الإمام مسلم بسنده عن عمرو بن العاص وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»[34]. والواحد بحاجة إلى إلمام بنظرية تعدد الحق أو عدمه ليستعين به على التسامح عند الاختلاف.

وقد أدى هذا التفريط في فقه الخلاف إلى الجناية على مذاهب الأئمة المعروفة فدعوا «إلى ترك مذاهب السابقين والاستعاضة عنها بالاجتهاد من جديد»[35] تقوم هذه المدرسة الجديدة على مبدإ (إن صح الحديث فهو مذهبي). ولكن هل هذه القاعدة على إطلاقها أم هناك ضوابط تحكمها، وهل الاتفاق في كل مسألة والخروج من الخلاف المذهبي من الإمكان بمكان؟ وأين مسألة الدلالة التي هي في الغالب ظنية، وإن جل الخلاف الفقهي إنما ينشأ من الخلاف في الدلالة لا الثبوت.

فإن تصور القضية على أنها أخذ بأقوال الرجال بمقابل الأخذ بالنص فيه من المغالطة الشيء الكثير، فالكتاب والسنة باتفاق أهل العلم قاطبة هما المصدران الأصليان للتشريع، وجميع المصادر التشريعية الأخرى مشروعيتها مأخوذة منها. بناء عليه لا تكون قضية أصحاب هذا المنهج مع المذاهب الأخرى مسألة فريق يأخذ بالنصوص بمقابل فريق يردها أو يتهاون بالأخذ بها، بل المسألة في آليات استخراج الأحكام منها أو الضوابط التي تحكم الأخذ بها.[36]

أما بعد، فهكذا نجد السمات الأربعة يفضي بعضها إلى بعض إفضاء حتميا، وإن الأخير منها، وهو احتكار الحق، يؤدي إلى عواقب وخيمة من التشتت والتنابذ وافتراق الكلمة والاستبداد بالرأي. وقد أدرك عدد من علماء هذه المدرسة خطورة هذا المنزلق، وبدأوا يراجعون مواقفهم المتشددة تجاه الرأي الآخر ويفتون بوجوب التمسك بإحدى المذاهب الأربعة لمن تنقصه ملكة الاجتهاد.

الهوامش

[1] البخاري: (2652) ومسلم: (2533)

[2] د. محمد أبو رمان، الصراع على السلفية، قراءة في الأيديولوجيا والخلافات وخارطة الانتشار، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت ،2016: 9.

[3] محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مكتبة مصر، القاهرة، د. ت: 2/28

[4] علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، المكتب الإسلامي، دمشق د.ت: 1/52

[5] عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى ،1991: 184

[6] محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار السلام، القاهرة ،1998: 99

[7] أحمد بنعبد الحليم ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، دار العاصمة ،1999: 5

[8] محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول: 1/367.

[9] الشيخ إبراهيم صالح الحسيني، إحكام قواعد البحث عن المحكم والمتشابه، هيئة كبار العلماء بنيجيريا ،2005: 11.

[10] عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسي، لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، شرح محمد بن صالح العثيميين، أضواء السلف، الرياض، ط،3، 1995: 31

[11] ابن رجب الحنبلي، بيان فضل علم السلف على علم الخلف، جمعه محمد بن ناصر العجمي، د. ت: 48.

[12] عبد الرحمن ابن الجوزي، دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، تحقيق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط.1، 2001: 97.

[13] أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، دار الغد العربي، القاهرة، ط .13، 1991: 5 /168

[14] د. مسفر بن علي القحطاني، الوعي المقاصدي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الرياض، ط .1، 2008: 6.

[15] محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام، القاهرة، ط.5، 2012: 14

[16] ذكره حاكيا د. صالح المزيد، فقه الأئمة الأربعة بين الزاهدين فيه والمتعصبين له ،66 نقلا عن د. مسفر القحطاني، الوعي المقاصدي ،58.

[17] د. يوسف القرضاوي، دراسات في فقه مقاصد الشريعة، دار الشروق، القاهرة، ط،3. 2005: 13.

[18] د. يوسفالقرضاوي، الاجتهاد المعاصربينالانضباطوالانفراط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة ،1994: 88.

[19] بنأبي بكر ابن قيم الجوزية، إعلامالموقعين: 3/ 10 – 40.

[20] محمد عمارة، السلفية، دار المعارف للطباعة والنشر، تونس، د.ت: 26

[21] محمد بن أبي بكر ابن القيم، إعلام الموقعين: 1/28

[22] محمد عمارة، السلفية: 28

[23] د. مسفر بن علي القطحاني، الوعي المقصدي: 57

[24] عبد الملكبن عبد الله الجويني، البرهان في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط .1، 1997: 2/3.

[25] عبد المجيد محمد عبد المجيد، الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث، مكتبة الخانجي، القاهرة ،1979: 289.

[26] محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين: 2 / 160.

[27] محمد بن صالح العثيمين، الشرح الممتع على زاد المستقنع، دار ابن الجوزي، الدمام ،2001: 3 /108.

[28] بن بهادر الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، دار الكتبي ،1994: 7/90.

[29] هكذا في الكتاب ولعل الصواب عما

[30] ناصر الدين الألباني، أحكام الجنائز وبدعها، مكتبة المعارف، بيروت ،1992: 9.

[31] د. يوسف القرضاوي، دراسات في فقه مقاصد الشريعة: 55.

[32] ناصرالدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 6| 286.

[33] أ. د. قطب سانو، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، دار ابن حزم، بيروت ،2006: 28.

[34] مسلم (1716).

[35] أنيس مصطفى الخليلي، فقه الاختلاف مبادؤه وضوابطه، المكتبة العصرية، بيروت ،2011: 170.

[36] المرجع: 185.

ثبت المراجع

  • الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، المكتب الإسلامي، دمشق، د.ت.
  • الألباني، ناصر الدين، أحكام الجنائز وبدعها، مكتبة المعارف، بيروت، 1992
  • ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، دار العاصمة، 1999
  • الجرجاني، الإمام عبد القاهر، أسرار البلاغة، مطبعة المدني، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991
  • ابن الجوزي، الحافظ عبد الرحمن، دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، تحقيق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط.1، 2001
  • الجويني، عبد الملك بن عبد الله، البرهان في أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1، 1997
  • الحسيني، الشيخ إبراهيم صالح، إحكام قواعد البحث عن المحكم والمتشابه، هيئة كبار العلماء بنيجيريا، 2005
  • الخليلي، محمد أنيس مصطفى، فقه الاختلاف مبادؤه وضوابطه، المكتبة العصرية، بيروت، 2011
  • ابن رجب الحنبلي، بيان فضل علم السلف على علم الخلف، جمعه محمد بن ناصر العجمي، د. ت
  • أبو رمان، د. محمد، الصراع على السلفية، قراءة في الأيديولوجيا والخلافات وخارطة الانتشار، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت
  • سانو، أ. د. قطب، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، دار ابن حزم، بيروت،2006
  • الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار السلام، القاهرة، 1998
  • ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام، القاهرة، ط.5، 2012
  • عبد المجيد، عبد المجيد محمد، الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979
  • العثيمين، محمد بن صالح، الشرح الممتع على زاد المستقنع، دار ابن الجوزي، الدمام، 2001
  • عمارة، د. محمد، السلفية، دار المعارف للطباعة والنشر، تونس، د.ت
  • القحطاني، مسفر بن علي، الوعي المقاصدي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الرياض، ط. 1، 2008
  • ابن قدامة المقدسي، عبد الله بن أحمد، لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، شرح محمد بن صالح العثيميين، أضواء السلف، الرياض، ط،3، 1995
  • القرضاوي، د. يوسف، الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1994
كلمات مفتاحية :