الإمام مالك بن أنس الأصبحي: مفـسـرا

الإمام مالك بن أنس الأصبحي: مفـسـرا

الإمام مالك بن أنس الأصبحي: مفـسـرا - الدكتور حميد لحمر.
الإمام مالك بن أنس الأصبحي: مفـسـرا – الدكتور حميد لحمر.

من المـعلـوم ، أن الإمام مالك بن أنس ت 179 هـ –رضي الله عنه- هو إمام من أئمة الاجتهاد المطلق ، و معلوم أيضا ، أن كل مجتهد، هو في الواقع مفسر لكتاب الله ، و يبدو واضحا و من خلال عدة نصوص ، أن للإمام مالك إسهام-بالقطع- في مجال التفسير ، و هذا شئ مجمع عليه لدى المترجمين والمفسرين -كما سوف نرى- .

فـهـل وصل هـذا إلى الحد الـذي ألـف فيه كـتـابـا خاصا بالتـفـسير أصبح يـعـرف فيما بـعـد بتـفسير الإمـام مالك ؟ و هـو الـذي عـناه من قـالـوا بأن الإمام مالك ، هـو أول من ألـف في التفسير ؟ أم أن للمسألـة وجـه آخـر؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، نؤكد أولا بأنه قد تكرر القول على اختلاف الأجيال، بوجود تفسير للإمام مالك ، و أجمعت المصادر والمراجع، على نسبة هذا التفسير إليه ، كما تظافرت شهادات العلماء و إحالات بعضهم على تفسيره ، لتؤكد هذا القول .

ثم هــذه الشهادات و الإحـالات، تنـبه عـلى جـلال قدر مـالك وطول وسـعة بـاعه فـي عـلم التـفسيـر ،إلى جانب ما اشتهر به في الجانب الحديثي من خلال كتابه الموطأ ، و الجانب الفقهي.

فموضوع هذه الكلمة إذن في غـايـة الأهمـية، فـهو يقوم على دعـوى، ودعـوى عـريـضـة، و هـي أن الإمام مالك مفسـر ، و لـه تفسير .

ولأهمية هـذه الشـهادات و الإحـالات، نذكر منها :

أ. في باب الشهادات

ما ذكره ابن النديم في الفهرست، في باب تسمية الكتب في تفسير القرآن.

قال: “… كتاب تفسير مالك بن أنس”[1].

وقال ابن العربي في القبس شرح موطأ الإمام مالك بن أنس في آخر كتاب الجامع من باب التفسير:

“هذا كتاب أرسل فيه مالك رضي الله عنه إرسالا فلقطه أصحابه عنه ونقلوه كما سمعوه منه، ما خلا المخزومي[2]، فإنه جمع له فيه أوراقا ألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية إليها، فكتبناها عن شيخنا، لأبي عبد الله المصيصي[3] الأجل الأمين المعدل.

وكان كلامه، رحمه الله، في التفسير على جملة علوم القرآن فنطنا كل علم في سلكه ونطناه بنظيره، فما كان من قبيل التوحيد كرناه في المشكلين، وما كان من قبيل أحكام المكلفين، ذكرناه في أحكام القرآن، وما كان من الشذور المنثورة، والفوائد المتفرقة، رأينا أن نورد منه هاهنا نبذا اقتداء به رضي الله عنه في الجامع، حيث ألف أبوابه أنواعا متفرقة، وحتى يكتمل التصنيف بجميع معانيه؛ إذ كتاب التفسير من جملة أبواب التصنيف بل جله، وإن كان تفسير القرآن أمرا لا يطاق وما تعرض له أحد فاستقل به خلا محمد بن جرير، فإنه قرأه وأتمه، ومن جاء بعد ذلك فهو عيال عليه فيه ومتمم حيال، وقد كنا أملينا فيه في كتاب أنوار الفجر في عشرين عاما ثمانين ألف ورقة وتفرقت بين أيدي الناس وحصل عند كل طائفة منها فن وقد ندبتهم إلى أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفا وهي أصولها التي بنى عليها سواها وينظمها على علوم القرآن الثلاثة: التوحيد، الأحكام، التذكير، إذ لا تخلو آية منه بل حرف عن هذه الأقسام الثلاثة… إلى أن يقول:… فأما الآن، فنستبيح بنكت في هذا إملاء يناسبه في العجالة وأرجو ألا يكون ضغثا على أبال، ولي فيها مقاصد الله أعلم بها معظمها التنبيه على مقدار مالك في العلوم وسعة باعه فيها في الفهم والتفهم”[4].

وقال القاضي عياض في المدارك: “وله، يعني، مالكا في تفسير القرآن كلام كثير وقد جمع، وتفسير يرويه عنه بعض أصحابه، وقد جمع أبو محمد مكي مصنفا[5] فيما روي عنه في التفسير والكلام في معاني القرآن وأحكامه مع تجويده له، وإحسانه وضبط حروفه، وقد ذكره أبو عمرو المقرئ في كتابه في طبقات القراء المتصدرين، وذكر روايته عن نافع …”[6].

وقال أيضا: “اعلموا وفقكم الله، أن لمالك -رحمه الله- أوضاعا شريفة مروية عنه، أكثرها بأسانيد صحيحة، في غير فن من العلم… ومن ذلك كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد المخزومي”.

ثم ذكر سنده، فقال: أخبرنا به أبو جعفر أحمد بن سعيد عن أبي عبد الله محمد بن الحسن المقرئ، عن محمد بن علي النعالي المصيصي عن أبيه، عن أبي الحسن علي بن أحمد الرزاز عن أبي بكر الجعدي عن أبي العباس أحمد بن محمد بن هانئ البزار عن يحيى بن عتيك القروي، عن خالد بن عبد الرحمن المخزومي، عن مالك”[7].

وقال البهلول بن راشد: “ما رأيت أنزع بآية من كتاب الله من مالك بن أنس، مع معرفته بالصحيح والسقيم، والمعمول به من الحديث والمتروك، وميزه للرجال، وصحة حفظه وكثرة نقده، إلى ما يؤثر عنه من الكلام في غير ذلك من العلوم”[8].

وقال الشافعي: “ومالك أعلم بكتاب الله، وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أولى بالكلام”[9].

وقال السيوطي في تزيين الممالك: “وقد رأيت له -يعني مالكا- تفسيرا لطيفا مسندا فيحتمل أن يكون من تأليفه، وأن يكون علق منه”[10].

وقال الداودي في طبقاته: “وهو -يعني مالكا- أول من صنف تفسير القرآن بالإسناد على طريقة الموطأ تبعه، فقل حافظ إلا وله تفسير مسند، وله غير الموطأ: “كتاب المناسك” و”التفسير المسند عن لطيف، فيحتمل أن يكون من تأليفه، وأن يكون علق منه”[11].

وقال الروداني: “… التفسير المروي عن مالك ، لأبي بكر محمد بن عمر الجعابي، به إلى الحافظ عن فاطمة بنت محمد بن عبد الهادي، عن الحسن بن عمر الكردي، عن مكرم بن محمد أبي الصفر عن عبد الرحمن بن الحسن الدرابي عن نصر الله بن محمد بن عبد القوي عن علي بن محمد بن أبي العلاء، عن علي بن أحمد الرزاز عن الجعابي”[12].

وقال الدكتور أحمد خليل: “والقطع بأول كتاب دون في التفسير، ليس سبيله سهلا، ولكن المهم أن حركة التدوين في التفسير ظهرت منذ القرن الأول، وأنها كانت ممزوجة بالفقه، ولذلك قالوا: إن واضع التفسير مالك بن أنس، بمعنى جامعه لا مدونه”[13].

وذهب الإمام جلال الدين السيوطي في نص آخر إلى اعتبار الإمام مالك هو أول من صنف في التفسير، حيث قال في كتاب الأوائل:

“أول من صنف تفسير القرآن الإمام مالك بن أنس بالأسانيد على طريقة الموطأ، ثم تبعه الأئمة الحفاظ، فقل حافظ إلا وله تفسير مسند[14].

ونختم هذه الشهادات بكلمة للمرحوم العلامة علال الفاسي:

“وقد اعتبر أصحاب مبادئ العلوم، الإمام مالك بن أنس، أول جامع للتفسير، ومن المعروف أن الإمام مالك من أقدم الذين دونوا الحديث، ولا عبرة بما قاله الأستاذ أمين الخولي في تعليقه على مادة التفسير من دائرة المعارف الإسلامية، أن كتاب الموطأ لا يشتمل، فيما رأيت، على الكثير من تفسير القرآن؛ لأن للموطأ نسخا مختلفة، منها الموطأ المشهورة التي يرويها يحيى بن يحيى الليثي عن مالك، وهي لا تشتمل على كتاب خاص بالتفسير، وهناك نسخة محمد بن الحسن، وهي التي تحتوي على كاتب خاص بالتفسير، لا شك أنه الذي قصده الذين قالوا: إن الإمام مالك أول من جمع التفسير، وتابعه بعد ذلك الذين دونوا المجموعات الحديثية”[15].

إذن؛ فيمكننا ومن خلال هذه الشهادات، أن نطمئن، ونقر بمشاركة ووجود تفسير لإمامنا مالك بن أنس، ولكي نزيد القارئ اطمئنانا وثقة بهذا التفسير، نورد في الفقرة الموالية بعض إحالات مجموعة من العلماء ممن استفاد منه في تأليف كتبهم.

ب. في باب الإحالات

من المفسرين الذين استفادوا من تفسيره، ونقلوا عنه، وكانوا أحيانا يحيلون عليه، نذكر:

أ. الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير، في تفسير القرآن العظيم، والغالب على الظن، أنه كان ينقل من جزء كتاب تفسير مجموع للإمام مالك، دليل ذلك عدة وجوه؛ منها قوله في الجزء الأول من الكتاب عند أول نقل له عن الإمام:

1. “قال مالك فيما يروى عنه في التفسير من جزء مجموع…”[16].

ففي هذا النص دلالة واضحة على أن ابن كثير كان ينقل من تفسير الإمام مالك، ومن جزء مجموع.

2. وقال أيضا: “وعن مالك في تفسيره المروي عنه …”[17].

3. وقال: “وقد وقع في التفسير المروي عن مالك …”[18].

4. وقال: “وعن مالك فيما روي عنه في التفسير…”[19].

5. “روى مالك في تفسيره…”[20].

6. “وعن مالك فيما روينا عنه في التفسير…”[21].

ب. بعد ابن كثير يأتي الإمام جلال الدين السيوطي، فنجده ينقل من آثار الإمام مالك في التفسير، ولعل هذا الأخير أيضا، كان ينقل من جزء مجموع، تدل على ذلك أقواله، نختار من مجموعها النصين التاليين من كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور:

1. قال: “…أخرج مالك في تفسيره، عن نافع عن ابن عمر…”[22].

2. قال أيضا: “أخرج مالك في تفسيره عن زيد بن أسلم …”[23].

ومعلوم أن الإمام السيوطي قد عاش إلى حدود القرن العاشر، وهو الذي يقول في بعض شهاداته: “وقد رأيت له يعني -مالكا- تفسيرا لطيفا، مسندا، فيحتمل أن يكون من تأليفه، وأن يكون علق منه”، وقد تقدمت الإشارة إليه.

وبناء على ما سبق، يمكن الاطمئنان إلى أن مالكا رضي الله عنه قد عني بالتفسير، وترك فيه شيئا بقي، أو بقيت آثاره، حتى القرن العاشر الهجري، وقد استفاد منها السيوطي.

جـ. ثم يأتي بعد هؤلاء الإمام الألوسي، فنجد له نصا في كتابه روح المعاني يقول فيه عند تفسير سورة الشعراء: “…وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة”[24].

وفي تقديري أنه يمكن القول، ومن خلال مجموع هذه الشهادات والإحالات التي تبلغ حد التواتر، كما يمكن القطع بأن الإمام مالكا:

1. من أوائل من صنف في التفسير. بمعنى أن له مشاركة في هذا الباب، وإن لم يستوعب فيها جميع نصوص القرآن الكريم -على طريقة القدامى في تفسيرهم للقرآن-.

وأن منها ما أثبته يحيى بن يحيى الليثي المصمودي ضمن مروياته لأحاديث الموطأ، ومنه ما أثبته محمد بن الحسن الشيباني في روايته للموطأ أيضا في آخر كتاب الجامع، فهو يروي إلى جانب الحديث مسموعاته من تفسير الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه في كتاب خاص، سماه: كتاب التفسير.

2. أن له كتابا خاصا في هذا الشأن. رواه التلاميذ، وجمع في أجزاء، استفاد منه مجموعة من المفسرين كابن كثير، الذي يذكر بأنه ينقل من جزء مجموع -كما أشرنا سابقا-. والسيوطي الذي يقول بأنه رآه، والبعض الآخر يقول: وفي التفسير المروي عن الإمام مالك… وهكذا.

3. أنه رضي الله عنه حاول استيعاب أغلب الجوانب: العقدية، والأحكام، وغيرها، نبه عليها القاضي أبي بكر بن العربي، ونقلها في مؤلفاته، قال في القبس: “… فما كان من قبيل التوحيد ذكرناه في المشكلين[25]، وما كان من قبيل أحكام المكلفين ذكرناه في أحكام القرآن، وما كان من الشذور المنثورة والفوائد المتفرقة رأينا أن نورد منه هاهنا نبذا اقتداء به رضي الله عنه في الجامع، حيث ألف أبوابه أنواعا متفرقة، وحتى يكتمل التصنيف بجميع معانيه؛ إذ كتاب التفسير من جملة أبواب التصنيف…”[26].

والنتيجة: أنه لا يضر ما أتى به أمين الخولي -رحمه الله- من التشكيك في نسبة هذا التفسير إليه، بعد هذه الشهادات الصريحة التي وكما قلنا تبلغ حد التواتر.

وعلى فرض أنه لم يدون رضي الله عنه هذا التفسير، أو لم يمله على تلاميذه ، كما فعل في الموطأ، ألا يمكن اعتبار ما جمعه التلاميذ، نوعا من التأليف الذي تصح نسبته إليه؟

سوف لم ولن أبالغ، إذا قلت: بأن أغلب ما وصلنا من تراث، أو كتب السابقين الأولين، أغلبه غير مسطور بأيديهم، ولا هو من تأليفهم، وإنما هي إما استخرجها أتباعهم ومريدوهم، وإما من إملائهم وكلامهم أثناء دروسهم، وإما من أصول أسمعتهم ومروياتهم، وإما لخصوها عن كتب لهم، إلى غير ذلك.

فكثير من معاجم الشيوخ، وكتب العوالي والمنتخبات والمسندات، والأربعينيات المنسوبة إلى بعض العلماء لم تكن من جمعهم وتدوينهم، وإنما هي جمع تلامذتهم، أو من جمع علماء آخرين جاؤوا من بعدهم بمدة طويلة.

فنجد مثلا حفاظا في القرنين الثالث والرابع الهجري قد جمعوا حديث الزهري والأعمش وسفيان الثوري وغيرهم.

كما نجد أربعين العالم الفلاني قد استخرجها العالم الفلاني من كتاب العالم الفلاني، كما في ثلاثيات أحمد بن حنبل وثلاثيات البخاري، ورباعيات مسلم، والحافظ بن حجر، وما إلى ذلك.

فهذا مثلا مسند عمر بن الخطاب، هو من تصنيف أبي يعقوب بن شيبة بن الصلت المتوفى سنة: 262ﻫ. وهذه مساند الإمام أبي حنيفة التي ألفها أتباعه قد زادت على الخمسة عشر مسندا، يقال: مسند الإمام أبي حنيفة، وهو ليس من تأليفه أو جمعه. وجمع الكثير من تلك المساند الخطيب الخوارزمي المتوفى سنة خمس وخمسين وستمائة للهجرة (655) في كتاب سماه: جامع المساند.

وكذلك مسند الإمام الشافعي المطبوع لم يؤلفه الإمام الشافعي بنفسه، بل جمعه من رواياته في كتبه ومسموع تلامذته منه أبو عمرو المطري المتوفى سنة ستين وثلاثمائة للهجرة (360) وهكذا.

حتى إذا انتقلنا إلى التفسير، فإننا سنجد تفسير عبد الله بن عباس -الصحابي الجليل- لم يؤلفه بنفسه، ولكن جمعه اللغوي الفيروز آبادي، كما أن تفسير الإمام الشافعي المسمى بأحكام القرآن لم يؤلفه هو، وإنما جمعه البيهقي، وهناك مجموعة كثيرة من تفاسير الطبقة الأولى، أغلبها مجموع من طرف الغير كتفسير قتادة، وتفسير مجاهد، و تفسير ابن قيم الجوزية، وتفسير الحسن البصري، وغيرها.

وهذا النوع من العمل لا يخرج عن مجالات التأليف التي حددها العلماء، فهو يمثل وجها من وجوهها التي ذكرها الإمام ابن حزم في كتابه: التقريب لحد المنطق، حينما تحدث عن أوجه التأليف، قال: “… إما شيء لم يسبق إلى استخراجه فنستخرجه، وإما شيء ناقص فنتممه، وإما شيء مخطأ فنصححه، وإما شيء مستغلق فنشرحه، وإما شيء طويل فنختصره دون أن نحذف منه شيئا يخل حذفه إياه بغرضه، وإما شيء متفرق فنجمعه، وإما شيء منثور فنرتبه”[27].

وقد أوضح ابن خلدون في مقدمته هذه الوجوه من التأليف، حيث قال في الوجه الذي نقصده: “وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى، فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن، وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان، فإن عبد القاهر الجرجاني، وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو، وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة، وصارت أصولا لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم”[28].

وتفسير إمامنا مالك بن أنس رضي الله عنه من خلال النصوص التي بين أيدينا يبدو أنه قد جمع أيضا في ثلاث محاولات، ولكن للأسف أنه لم يصلنا هذا الجمع كاملا في جزء مستقل، بل وصلت منه شذرات منثورة في ثنايا كتب التفسير، وقد كانت هذه المحاولات على الشكل التالي:

المحاولة الأولى:

كانت لبعض تلامذة الإمام مالك وهو جمع الإمام المخزومي الذي أشار إليه القاضي أبي بكر بن العربي المعافري في القبس، قال: “… ما خلا المخزومي، فإنه جمع له أوراقا فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي الأجل الأمين المعدل…”[29].

المحاولة الثانية:

قام بها القاضي أبو بكر بن العربي الإشبيلي ت: 543ﻫ فقد أفرد له في قسم خاص بكتابه القبس شرح موطأ الإمام مالك بن أنس كتابا، سماه كتاب التفسير في نحو أزيد من أربعين ورقة، ونبه على جمع المخزومي لتفسير مالك في هذا الكتاب، وعلى وقوفه على هذا المجموع في رحلته المشرقية الثانية بدمشق، وأنه كتبه عن شيخه أبي عبد الله المصيصي، منه الشذرات المنثورة الآنفة الذكر، ونبه على أن ما يتعلق بأحكام المكلفين ذكره في كتب أحكام القرآن، وما يتعلق بالتوحيد ذكره في كتاب المشكلين.

المحاولة الثالثة:

كانت لمكي بن أبي طالب القيسي الأندلسي (ت:437 ﻫ)[30] صاحب التفسير الكبير المسمى بـ: “الهداية إلى بلوغ النهاية”؛ فقد جمع مكي كتابا في تفسير الإمام مالك بن أنس، وسماه: “المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره”. ذكره عدد من المترجمين، ويذكرون أنه في عشرة أجزاء، ولكنه للأسف في حكم المفقود، وإن كان الظن قويا في العثور عليه في مقبل الأيام، لأهمية مالك، وأيضا لأهمية جامع تفسيره، وهو مكي.

وهذا الكتاب من خلال عنوانه: “المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره” يشير إلى عمل مكي ليس هو استنساخ تفسير مالك الذي جمعه المخزومي، بل هو جمع جديد لما أثر عن الإمام مالك.

فالعنوان، يشعر بأن التفسير الذي جمعه خالد موجود ضمن المأثور، فهناك إضافات أخرى، فله جهود في تفسير كتاب الله عز وجل، وله جهود في الأحكام خاصة.

وقد تبين لي من خلال تعاملي مع كتاب الهداية، أن الراجح، أن يكون ما جمعه مكي من تفسير مالك في جزء خاص، قد تضمنه كتابه الهداية، يدل على ذلك كثرة المادة التفسيرية بهذا الأخير.

المحاولة الرابعة:

ثم هناك المحاولة الرابعة [31] (أو عملية الجمع الرابعة) التي سوف تُظهر للوجود كتابا مجموعا موثق المادة في سنة 1993م ثم تظهر له طبعة ثانية مزيدة سنة 2006م، وقد حاولت هذه التجربة، الاستفادة من جميع المحاولات السابقة التي تعتبر لحد الآن في حكم المفقود، باستثناء ما انتقاه لنا ابن العربي وذكره في كتابه: “القبس شرح موطأ مالك بن أنس”.

وأنت حين تتصفح هذا التفسير، تشعر أنه وصلنا عن طريقين:

إحداهما: كتب، كتبها الإمام مالك ورويت عنه، وأصحها وأقواها سندا، وأجمعها لفقهه وتفسيره وحديثه: الموطأ برواياته المختلفة.

ثانيهما: تلاميذه، فقد كانوا هم المصدر الثاني لنقل تفسيره، وجل آراءه.

ويمكننا أن نعرف بعض منهجه في تفسيره من خلال بعض مصادره -غير المجموع- التي حوت بعض النصوص مثل كتابه الموطأ.

الإمام مالك رضي الله عنه حينما يستعمل القرآن في كتابه الموطأ استدلالا أو تفسيرا، تلاحظ ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إيراد الآثار أولا، وإيفاء الموضوع حقه من النقل، ثم يسوق الآية أو الآيات مع بيان وجه دلالتها وتفسيرها باختصار، أو قل إنه ينهج طريقة الاستدلال بالقرآن على القرآن، وهذا كثير، وفي مواضع كثيرة.

الأمر الثاني: إحجامه -أحيانا- عن الاحتجاج بالقرآن إطلاقا، وربما في أماكن استوفى القرآن فيها القول، كالجهاد مثلا، الذي نعلم أن القرآن خص لأنفاله سورة كاملة ومع ذلك فإن مالكا في هذه القضية لم يورد فيها شيئا من القرآن تقريبا.

الأمر الثالث: إيراده الموضوع أولا كقضية، ثم تبيانها بما هو معمول فيها اجتماعيا، ثم الإتيان بما فيها من آثار أو قرآن، وهذا ما فعله عند الإشارة إلى حظوظ الورثة من التركة، فهو لم يصدر الموضوع بآيات قرآنية ويشفعها بالسنة أو الإجماع، ولكنه عكس، حيث قال: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا في فرائض المواريث أن ميراث الولد من والدهم… إلخ.

حتى إذا انتهى من تقرير الموضوع، أورد آية النساء: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الاُنثيين” [سورة النساء/الآية: 11].

ومن الصيغ والمصطلحات التي وردت في هذا المصدر الذي صحت نسبته إليه، ونقل بالتواتر، قوله أحيانا:

– أحسن ما سمعت في هذه الآية…

– تفسير ذلك في ما نرى والله أعلم…

– وذلك أحسن ما سمعت…

– أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية…

– وذلك أحب إلي… (يقول هذا بعد إيراده تفسير الصحابي أو التابعي).

وتارة أخرى يقول بعد أن يذكر تفسيرا معينا:

– … فيما نرى، والله أعلم، وقد سمعت ذلك من أهل العلم.

– وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك.

وهكذا، على أن الحديث عن منهجه بالتفصيل في هذا التفسير، ومميزات تفسيره، وعرض نماذج منها من خلال المحاولة الرابعة، قد يكون محور ورقة أخرى تلي هذه بحول الله حتى يكتمل الموضوع. والحمد لله الذي بفضله ونعمته تتم الصالحات.

*الدكتور حميد لحمر، جامعة سيدي محمد بن عبد الله /فاس


الهوامش

1. كتاب الفهرست لابن النديم، ص:51.

2. هو عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم، المعروف بالصائغ كنيته، أبو محمد، روى عن مالك وتفقه به وبنظرائه، تولى الإفتاء بعد مالك بالمدينة، قال: صحبت مالكا أربعين سنة من ما كتبت منه شيئا، وإنما كان حفظا أتحفظه، له تفسير للموطأ، توفي بالمدينة سنة 186ﻫ. انظر: ترتيب المدارك: 3/128، والديباج: 1/409، وشجرة النور الزكية: 55.

3. المصيصي، نسبة إلى مصيصة، مدينة على ساحل البحر ينسب إليها كثير من العلماء، وأبو عبد الله ولد باللاذقية، ونشأ بالمصيصة، ثم انتقل إلى صور، توفي سنة 540ﻫ بدمشق، انظر: سير أعلام النبلاء: 20/320.

4. كتاب القبس شرح موطأ الإمام مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي: 3/1047-1048.

5. سماه المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره، وهو كتاب في حكم المفقود، وقد ذكر في مجموعة من المصادر منها: ترتيب المدارك: 4/738. وطبقات المفسرين للداودي: 2/232، ووفيات الأعيان لابن خلكان: 5/275-276. والديباج المذهب لابن فرحون: 1/72، وشذرات الذهب: 3/261. ودرء تعارض العقل مع النقل لابن تيمية: 6/262-261.

6. انظر المدارك: 1/81، وانظر طبقات القراء لابن الجزري: 2/35-36، والديباج: 1/77.

7. نفسه، 2/90-91-92.

8. نفسه، 1/81 و3/87، وانظر أيضا: الديباج، 1/77. وبه في الهامش: ما رأيت أسرع بيانا من كلام مالك.

9. انظر التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر القرطبي، 1/74-75.

10. انظر تزيين الممالك في مناقب الإمام مالك للسيوطي، 40، وكتاب الوسائل إلى معرفة الأوائل للسيوطي، ص: 150.

11. نقلا عن ندوة الإمام مالك بن أنس، 1/270، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.

12. انظر كتاب: “صلة الخلف بموصول السلف” للروداني، 171.

13. انظر كتاب: “نشأة التفسير في الكتب المقدسة”، 44.

14. كتاب: “الوسائل إلى معرفة الأوائل” للسيوطي: 150.

15. انظر كتاب: “المدخل لعلوم القرآن وتفسيره”، 95-96.

16. تفسير ابن كثير، 1/456.

17. نفسه، 3/432.

18. نفسه، 3/46.
19. نفسه، 4/151.

20. نفسه، 2/531-540.

21. نفسه: 2/66.

22. انظر الدر المنثور، 5/4.

23. نفسه، 8/146.

24. انظر روح المعاني، م: 7، ج: 19/58.

25. يعني بذلك كتابه الذي ألفه في مشكل الحديث، وهو من الكتب المفقودة التي لا زلنا لم نعثر عليها بعد.

26. انظر القبس شرح موطأ مالك بن أنس، 3/1047.

27. كتاب التقريب لحد المنطق، 10-11.

28. مقدمة عبد الرحمن بن خلدون، ص: 1026-1027، باب المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف. وقد نظمه بعضهم في قوله:

ألا فاعلمن أن التأليف سبعة *** لكل سبب في النصيحة خالص
فشرح لإغلاق وتصحيح مخطئ *** وإبداع حبر مقدم غير ناكص
وترتيب منثور وجمع مفرق *** وتقصير تطويل وتتميم ناقص

من كتاب السمر السمير في نوادر الفرزدق وجرير لمجهول، ص: 7-8 مخطوط خاص.

29. القبس شرح موطأ مالك بن أنس، 3/1047، كتاب التفسير.

يشكك أمين الخولي في هذا التفسير، يقول في كتاب الأعمال الكاملة، مالك بن أنس: “… ويسوق عياض سنده في رواية هذا التفسير لمالك على عادته فيما نسبه من المؤلفات للإمام فينتهي سنده إلى خالد بن عبد الرحمن المخزومي، هذا ونلتمس شيئا، عن هذا الذي انفرد برواية تفسير غريب القرآن عن الشيخ -يعني مالكا- فلا نجده يذكر بين أصحاب مالك الذين ترجم لهم المؤلفون في حياته، ولا طبقات رجال المذهب -على ما عرفت- ونلتمس الخبر عن حاله في كتب الرجال، فلا نرى ما يرضي، إذ هم يذكرون عن خالد المخزومي هذا قول البخاري فيه: إنه ذاهب الحديث، وقول أبي حاتم: تركوا حديثه، أو يذكرون قول القوم فيه جملة: متروك، وبمثل ذلك، بل بدونه، تهتز الثقة بشخص انفرد -فيما نقل- برواية تفسير مالك لغريب القرآن، وتهتز الثقة بهذا التفسير، إن وصلنا” 448.

30. هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار أبو محمد القيسي، كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنا لذلك، توفي سنة 437ﻫ، انظر الصلة، 2/631.

وكتابه الهداية، حقق كاملا من طرف مجموعة من الأساتذة، تحت إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي، وهو يطبع حاليا، قريب الدخول إلى سوق الكتب بحول الله.

31. وهي التي قام بها صاحب المقال، والعمل كان عبارة عن رسالة علمية لنيل دبلوم الدراسات العليا في شعبة الدراسات الإسلامية، وتحت إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، ونوقشت الرسالة سنة 1990م.

المراجع

  • القرآن الكريم برواية ورش.
  • تفسير القرآن العظيم لابن كثير الطبعة الأولى 1984م، طبعة أولى دار الفكر، لبنان بيروت.
  • ترتيب المدارك للقاضي عياض، تحقيق مجموعة من الأساتذة، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية مطبعة فضالة المحمدية/المغرب، 1982-1983م.
  • الأعمال الكاملة/مالك بن أنس لأمين الخولي الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م، الطبعة الأولى.
  • التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر القرطبي تحقيق مجموعة من الأساتذة، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية مطبعة فضالة.
  • الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1983م.
  • درء تعارض النقل والعقل لابن تيمية طبع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
  • الديباج المذهب لابن فرحون دراسة وتحقيق مأمون بن محي الدين الجنان، طبع دار الكتب العلمية، بيروت لبنان 1995 م.
  • روح المعاني في تفسير القرآن للألوسي، طبعة بدون تحقيق، دار الفكر بيروت، 1978م.
  • شجرة النور الزكية في طبقات علماء الملكية لمحمد مخلوف الطبعة الأولى، 1349 دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
  • سير أعلام النبلاء للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1988.
  • شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي عبد الحي الحنبلي، بيروت، لبنان.
  • صلة الخلف بموصول السلف للروداني، تحقيق محمد حجي، طبعة 1988م.
  • طبقات المفسرين للداودي، دار الفكر لبنان، بيروت 1983م.
  • طبقات المفسرين لجلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
  • الفهرست لابن النديم طبعة دار المعرفة بيروت، لبنان بدون تاريخ.
  • القبس شرح موطأ الإمام مالك بن أنس للقاضي أبي بكر بن العربي الإشبيلي تحقيق الدكتور عبد الله ولد كريم طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1992 ط/1.
  • المدخل لعلوم القرآن وتفسيره للعلامة علال الفاسي مكتبة المعارف، الرباط، المغرب.
  • ندوة الإمام مالك بن أنس، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الرباط، طبعة 1980م.
  • نشأة التفسير في الكتب المقدسة للدكتور أحمد خليل، الطبعة الأولى 1954م.
  • الوسائل إلى معرفة الأوائل تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي تحقيق عبد القادر أحمد عبد القادر دار الوفاء المنصورة، الطبعة الأولى 1990م.
  • وفيات الأعيان، لابن خلكان، تقديم محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان 1997م. 

 

كلمات مفتاحية : ,