العقيدة الأشعرية في التراث الإفريقي

العقيدة الأشعرية في التراث الإفريقي

ذ. محمد النور أحمد لحلو عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية تشاد
الشيخ محمد النور أحمد لحلو عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية تشاد

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول الله تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين﴾[1]. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».

مشاركتي في هذا الملتقى المبارك: «قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية»، تندرج في المحور الثاني: «العقيدة الأشعرية، قول العلماء في مرجعيتها من الكتاب والسنة»، وتحمل العنوان الآتي: «العقيدة الأشعرية في التراث الإفريقي».

لما كانت هذه العقيدة المباركة هي السبيل الوحيد العاصم للمسلمين من جميع القواصم تحدثت فيها عن شيئين من متعلقات هذا المذهب السني.

الأول: أساس هذا المذهب الذي بني عليه، وأعني به الكتاب والسنة والإجماع. والإسهامات التي ساهم بها علماء المغرب وإفريقيا عموما في تأصيل هذه الشؤون.

والثاني: ماهية الإيمان والفرق بينه وبين العمل.

لا يخفى عليكم أيها السادة أن طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- التي حررها وناضل في سبيلها، هي الطريق الأمثل لسلامة الفرد والمجتمع من الانحراف والزيغ عن سواء السبيل. وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فما من أمة صارت خلف هذا المنهج واتخذته قدوتها إلا صارت أمة آمنة مطمئنة مستقرة، لا تخاف ولا يُخاف منها، كما هو حال هذا البلد المغرب؛ لأنه مذهب أساسه الذي قام عليه وبني عليه هو الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة والإجماع المقطوع به، وهو مُحصن بهذه المصادر، ولهذا حاز المنتمون إليه لقب أهل السنة والجماعة، وهذا هو السر في انتساب جل أئمة الإسلام إلى المذهب الأشعري. وفيهم يقول الإمام السبكي رحمه الله في طبقاته الكبرى: «هؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري –رحمه الله- لا يحيد عنها إلا رعاء من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورعاء من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية فلم نر مالكيا إلا أشعري العقيدة».

ويقول الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابه «التبيين»:

إن اعتقاد الأشعري مسدد

وبه يقول العالمون بأسرهم

والمدعون عليه غير مقاله

فذر التعامي واعتصم بمقاله

وارفض ملامة من نهاك بجهله

وإذا لحاك العاذلون فقل لهم

إن كان من ينفي النقائص كلها

وترونه ذا بدعة في عقله

لا يمتري في الحق إلا ممتري

من بين ذي قلم وصاحب منبر

ما فيهم إلا جهول مفتري

واعلم يقينا أنه القول السري

عما يراه لأنه لم يشعر

قول امرىء في دينه مستبصر

عن ربه ترمونه بتمشعر

فليشهد الثقلان أني أشعري

هذا المذهب العتيق، ما من مسألة ثبتت نسبتها إليه أصلية كانت أو فرعية إلا وتجد هؤلاء الأئمة الذين مر ذكرهم حرروا أدلتها من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وخاصة أبناء إفريقيا في الزمن المتأخر كالإمام ابن عرفة والإمام أبي الحجاج الضرير والإمام السنوسي والإمام ابن زكري، وغيرهم من فطاحل علماء القارة الإفريقية، فبينوا عدم صحة كلام من نعت هذا المذهب السني بالمذهب العقلي، وأنه لم يبن إلا على العقليات، وأن الأشاعرة يقدمون العقل على النقل، يقصدون بذلك أنهم يقدمون مدركات عقولهم على مدلول الكتاب والسنة، حتى سمعت أحدهم يقول: الأشاعرة مذهبهم مبني على ثلاثة أشياء: تقديم العقل على النقل. ثانيها: عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة. ثالثها: تأويل المتواتر ليوافق العقل.

والواقع أن هذا الكلام بهذا التصور المبتور غير صحيح، إنما حملهم عليه عدم الإنصاف أو الجهل بمذهب أهل السنة والجماعة الأشاعرة؛ لأنه لا يوجد أحد منهم قال إن العقل عندنا مقدم على النقل بهذا الاعتبار. وإنما الذي قالوه: «إذا تعارضت الظواهر الظنية مع القواطع العقلية حملت الظواهر الظنية على ما دلت عليه القواطع العقلية». على اعتبار أنه لا تعارض –عند إمعان النظر- بين صريح العقل وصحيح النقل. فالعقل عند أهل السنة إنما هو آلة لفهم النص وخادم له؛ إذ به مناط التكليف إجماعا، وهذا بين جدا، وهو ما عناه الإمام محمد بن عاصم بقوله في كتابه «المرتقى»:

«إذ ليس للعقل مجال في النظر** إلا بقدر ما من النقل ظهر»

على أن من استدل بالأدلة العقلية على وجود الباري سبحانه وتعالى وعلى صفاته لم يخرج عن هدى الكتاب والسنة المطهرة بل هو على الصراط المستقيم. وهذا القسم يسميه الإمام السنوسي بالبرهان.

وإنما قلنا إن فاعل ذلك لم يخرج عن هدي الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه المجيد: ﴿وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم﴾[2]. ويأتي الدليل على ذلك بما بعده وهو قوله عز وجل: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار﴾[3]. إلى قوله سبحانه: ﴿لآيات لقوم يعقلون﴾[4]. ففتح الله جل وعلا لعباده باباً للاستدلال على الوحدانية بالعقل واختصاص الهداية بمن عقل فاستدل على وجود الصانع بالمصنوع. وأيضا أيد العقل الذي هُدي إلى الوحدانية بدلالة التمانع فقال سبحانه: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾[5]. وحض سبحانه وتعالى خلقه على التدبر فقال: ﴿أفلم يسيرو في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾[6]. وذم قوما على عدم التدبر والاستدلال بالعقل والغفلة عن النظر، فقال سبحانه: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون﴾[7]. ثم أردف سبحانه عاتبا عليهم بقوله: ﴿أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء﴾[8]. إلى أن قال: ﴿فبأي حديث بعده يؤمنون﴾[9]. فكثيرا ما جاءت الآيات في كتاب الله تعالى تحض على الاهتداء بنور العقل إلى إثبات الذات والصفات، وقد أخبر سبحانه عن حال قوم لم يهتدوا بأخبار الأنبياء ولا بعقولهم إلى توحيد الله عز وجل، فقال سبحانه: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾[10] فثبت بهذا كله بما لا يدع مجالا للشك أن المستدل بالعقل على حدوث العالم ووجود الصانع سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته وصفاته كلها وإثبات ما يجب له وما يستحيل عليه، لم يأت منكرا ولا ارتكب محظورا بل إنما أتى بما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أبداه الإمام السنوسي والذين شرحوا كتبه، فما العقل إذن إلا مشكاة تضيء للإنسان ظُلم الإلباس. قال تعالى: ﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون﴾[11]. ورحم الله شيخ الإسلام سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام حيث قال في رده على بعض من عاصره في رسالته المشهورة بما نصه: «وأما قوله سبحانه وتعالى: ﴿إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون﴾ فلا خلاف بين أئمة العربية أنه لابد من كلمة محذوفة يتعلق بها قوله: ﴿في كتاب مكنون﴾، ويجب القطع بأن ذلك المحذوف تقديره: (مكتوب في كتاب مكنون)، لما ذكرناه، ولما دل عليه العقل الشاهد بالوحدانية وبصحة الرسالة، وهو مناط التكليف بإجماع المسلمين.

وإنما لم نستدل بالعقل على القوم وكفى به شاهدا؛ لأنهم لا يقبلون شهادته، مع أن الشرع قد عدّل العقل وقبل شهادته، واستدل به في مواضع من كتابه الكريم، كالاستدلال بالإنشاء على الإعادة، وكقوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾[12]. وقوله تعالى: ﴿وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض﴾[13]. وقوله تعالى: ﴿أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء﴾[14]».

ثم قال رحمه الله: «فيا خيبة من رد شاهداً قبله الله تعالى، وأسقط دليلاً نصبه الله تعالى».

هذه الشواهد كلها ذكرها أولئك الأبرار أمثال الإمام السنوسي رحمه الله تعالى، والذين قاموا بشرح كتبه وحشوا تلك الشروح.

أما مسألة أخبار الآحاد التي اعترض بها بعض الناس على مذهب الأشاعرة فهي قضية قتلها العلماء بحثا. وحاصل البحث فيها باختصار أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن في ثبوتها. والعقيدة مطالبها لا تكون إلا يقينية كما بين ذلك الإمام السنوسي رحمه الله ممن أثرى التراث الإفريقي بهذه العقيدة السنية، يقول رحمه الله في هذا السياق: إن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن في ثبوتها، والعقيدة مطالبها لا تكون إلا يقينية، واليقين لا يثبت إلا بما يفيد اليقين. ومن هنا قبلت أخبار الآحاد في العمل إن صحت إسنادا دون أصول الاعتقاد.

قال ناظم كبرى السنوسي:

«يثبت بالبراهين العقلية**ذا العلم والقواطع العقلية

إذ ليس يكفي فيه إلا العلم**لا ينفع الظن به والوهم»

ثم هناك مسألة أخرى وهي: حقيقة الإيمان.

هنالك من مزج بين الإيمان وبين العمل، وبسبب ذلك حصلت الفتن الواقعة الآن بين المسلمين.

إن ماهية الإيمان عند أهل السنة هي التي جاءت في حديث سيدنا جبريل عليه السلام الذي رواه الشيخان، قال: «فأخبرني عن الإيمان». قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». وفي حديث آخر أيضا –رواه الإمام البخاري-: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل، فقال: «ما الإيمان؟» قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث».

هذا التعريف لحقيقة الإيمان بهذا الحديث النبوي الصحيح مهم ينبغي تحريره بشرح وافر يزيل كل لبس، إذ منه يتبين أن عمل الجوارح سواء كان من قبيل الطاعات أو من قبيل المنكرات لا دخل له في ماهية الإيمان وحقيقته، إلا من حيث زيادته ونقصانه. فالأعمال شرط كمال في الإيمان فقط وليست جزءا مقوما لماهيته؛ أي بها يزيد الإيمان وبها ينقص. ومقتضى هذا التأصيل أن زوال الأعمال كليا لا يزيل الإيمان من أصله، بل يبقى المؤمن مؤمنا حتى وإن قصر في الطاعات أو اقترف المعاصي والسيئات، ولا يصح أن يطلق عليه لفظ الكفر بحال من الأحوال ما دام محتفظا بالاعتقاد القلبي الذي هو حقيقة الإيمان. وهذه المسألة بالتحديد هي فيصل ما بين عقيدة أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من أهل الحديث، وبين غيرهم ممن يجعلون الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، ثم يقررون بعد ذلك بأن من ارتكب كبيرة فقد زال إيمانه وصار كافرا خارجا عن الملة. وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لسفك الدماء وسلب الأموال مما يقع اليوم في عدد من مناطق العالم.

فالمذهب السني الفارق بين الإيمان والعمل هو المذهب الذي درج عليه جماهير الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها الطويل واختلاف طبقاتها المتعددة، وهو المذهب الوحيد الذي يضيق دائرة التكفير ويقطع الطريق على المتنطعين الذين لم ينتبهوا إلى أن النصوص من الكتاب والسنة دلت على ثبوت الإيمان قبل الأوامر والنواهي كما في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾[15]. فإنه يفيد أن الإيمان كان قبل الصيام؛ لأن الله تعالى قال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ثم قال سبحانه: ﴿كتب عليكم الصيام﴾. ولقد عطف القرآن الكريم في مكان آخر العمل على الإيمان عطف مغايرة وذلك في قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾[16]. وهنالك آيات أخرى كثيرة بهذا المعنى تؤصل لنا هذه القاعدة مما يقطع بيقين أن مرتكب الكبيرة مؤمن عاص ولا يجوز تكفيره.

فهذا هو المذهب الذي اختاره علماء الإسلام قاطبة وسارت عليه المؤسسات الدينية الكبرى في العالم مثل جامعة القرويين في المغرب، والأزهر الشريف في مصر، والزيتونة في تونس، وغير هذه المؤسسات من العالم الإسلامي، وهو الذي يتم به تحصين شباب المسلمين من شوائب التكفير والتفجير الذي اكتوت به الأمة في هذا الزمن بسبب تلك المفاهيم الخاطئة.

وختاما: أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يحفظ أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، وأن يمتعه بالصحة التامة، وأن يحيطه وسائر من انتمى إلى تلك الدوحة الشريفة بحفظه ورعايته من كل سوء.

كما أسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلد المغرب، هذا البلد الكريم المعطاء حكومة وشعبا، إنه البر الرحيم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهوامش

[1] – سورة يوسف، الآية: 108.

[2]– سورة البقرة، الآية: 163.

[3] – سورة البقرة، الآية: 164.

[4] – سورة البقرة، الآية: 164.

[5] – سورة الأنبياء، الآية: 22.

[6] – سورة الحج، الآية: 46.

[7]– سورة الأعراف، الآية: 179.

[8] – سورة الأعراف، الآية: 185.

[9] – سورة الأعراف، الآية: 185.

[10] – سورة الملك، الآية: 10.

[11] – سورة الأنعام، الآية: 122.

[12] – سورة الأنبياء، الآية: 22.

[13] – سورة المؤمنون، الآية: 91.

[14] – سورة الأعراف، الآية: 185.

[15] – سورة البقرة، الآية: 183.

[16] – سورة الكهف، الآية: 107.