أقوال العلماء في طاعة الله وطاعة الأمير

أقوال العلماء في طاعة الله وطاعة الأمير

جعفر ابن الحاج السلمي أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان
جعفر ابن الحاج السلمي أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

بِسمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم.

وَصَلّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلى سَيِّدِنا وَمَولانا مُحَمَّد، وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرين، وَصَحابَتِهِ الأَكرَمين.

لا شكّ أَنَّ المَذهَبَ المالِكِيَّ لأَجل تاريخِهِ الطَّويلِ العَريضِ وَمُلابَسَتِهِ لِلواقِعِ البَشَرِيِّ الدُّنيَوِيِّ في المَسجِدِ وَالمَحكَمَةِ وَالسّوقِ وَالمَزرَعَةِ، وَدارِ الحَربِ وَديوانِ الحُكم، كانَ مِن أَكثَرِ المَذاهِبِ السُّنِّيَّةِ إدراكًا لِخُطورَةِ وَعُمقِ ثُنائيَّةِ «طاعَةِ اللهِ وَطاعَةِ الأَمير»، وَجَدَلِيَّةِ الواقِعِ التّاريخِيِّ وَالنَّظَرِيَّةِ الفِقهِيَّة، وَصُعوبَةِ تَحقيقِ مَناطِها، مُنذُ عَهدِ الإمامِ مالِك، رَحِمَهُ اللهُ وَرَضِيَ عَنه، وَلِأَهَمِّيَّتِها في حَياةِ المُسلِمِ الدّينِيَّةِ وَالدُّنيَوِيَّةِ وَالأُخرَوِيَّة، وَخُطورَةِ سوءِ تَأويلِ مَبدَإ الأَمرِ بِالمَعروف، وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَر، وَسُهولَةِ الاِنزِلاقِ بِهِ إلى إحداثِ الفِتنَةِ وَالخُروجِ عَن طاعَةِ مَن وَلاّهُمُ اللهُ أَمرَ الأُمَّة، مِنَ الأَئمَّةِ وَالخُلَفاءِ وَالمُلوكِ وَالأُمَراء.

فَعلى الرَّغمِ مِن عَدَمِ استِقرارِ الأَحكامِ الشَّرعِيَّةِ حَتّى القَرنِ الثّاني لِلهِجرَة، وَعَدَمِ استِقرارِ المَذاهِبِ السُّنِّيَّةِ مِن حَيثُ هِيَ طَرائقُ اجتِهادِيَّةٌ رِوائيَّةٌ وَدِرائيَّةٌ في التَّفكيرِ الدّينِيِّ الإسلامِيّ، مَبنِيَّةٌ عَلى تَأويلٍ شَرعِيٍّ سُنِّيٍّ مَضبوطٍ لِلنُّصوصِ الشَّرعِيَّة، فَإنَّ الإمامَ مالِكا، رَحِمَهُ الله، قَد وَضَعَ بِرِواياتِهِ وَتَوَجُّهاتِهِ وَسُلوكِهِ ضَوابِطَ شَرعِيَّةً لِلعَلاقَةِ الرّابِطَةِ بَينَ مَبدَإ «طاعَةِ اللهِ» وَمَبدَإ «طاعَةِ الأَمير»، وَأَورَثَها أَهلَ مَذهَبِه.

وَعَلى الرَّغمِ مِن قِلَّةِ ما كَتَبَهُ أَهلُ المَذهَبِ المالِكِيّ، مُقارَنَةً بِالشّافِعِيَّةِ وَالحَنَفِيَّة، في أَمرِ «الإمامَةِ العُظمى»، وَالتَّأصيلِ الدّينِيِّ لِمَشروعِيَّتِها، وَلمَشروعِيَّةِ استِنادِها إلى العُروَةِ الوُثقى الَّتي لا انفِصامَ لَها، عُروَةِ البَيعَةِ الرّابِطَةِ بَينَ جَماعَةِ المُسلِمينَ وَوَلِيِّ أَمرِهِم، فَإنَّنا سَوفَ نَعمَلُ عَلى تَبَيُّنِ قَولِ عُلَمائنا المالِكِيَّة، في هذا الأَمرِ الجَليل، أَمرِ الإمامَةِ العُظمى، إمارَةِ المُؤمِنين، اَلَّتي هِيَ قِيامٌ بِأَمرِ الدُّنيا، وَحِراسَةٌ لِلدّين، وَعَلى رَصدِ هذِهِ الثُّنائيَّةِ في المَذهَبِ المالِكِيّ، ثُنائيَّةِ «طاعَةِ اللهِ وَطاعَةِ الأَمير»، اِبتِاءً مِن عَمَلِ الإمامِ مالِكٍ وَتَلامِذَته، لِأَجلِ وَصفِ ما يُمكِنُنا أَن نُسَمِّيَهُ بِـ»عَمَلِ أَهلِ المَذهَبِ»، أَي طَريقَةِ أَهلِ المَذهَبِ في التَّفكيرِ في حُدودِ العَلاقَةِ بَينَ الأَميرِ وَالفَقيه، وَمُمارَسَتِها كَذلِك، بَعدَ تقرر الأَحكامُ الشَّرعِيَّة، وَوَصفِ حُدودِ عَلاقَةِ العُلَماءِ بِالسِّياسَة، وَبِحِراسَةِ الدّين، وَقِيامِهِم بِبَيعَةِ القائمينَ بِأَمرِ الدُّنيا، لِأَجِلِ صَلاحِ الدّينِ وَالدُّنيا مَعا.

1- اَلإمامُ مالِكٌ وَالحِرصُ عَلى اجتِماعِ كَلِمَةِ جَماعَةِ المُسلِمينَ:

كانَ الإمامُ مالِك، (ت 179ﻫ) أَعلَمَ عُلَماءِ المَدينَة، إلَيهِ الرِّحلَةُ في الفِقهِ وَالحَديثِ مِن أَقطارِ الأَرض. لَم يُخَصِّصِ الإمامُ مالِكٌ في مُوَطّئهِ بابًا لِلإمامَةِ العُظمى. وَذلكَ بَيِّنٌ في رِواياتِ «المُوَطّإ» الَّتي وَصَلَتنا. وَالظّاهِرُ أَنَّ ذلِكَ راجِعٌ إلى أَمرَينِ اثنَين:

الأمر الأول: أن هذا الكِتاب الفِقهِي الحَديثِي، هُوَ أَقدَمُ كُتُبِ الإسلامِ الَّتي وَصَلَتنا، أَو مِن أَقدَمِها. وَلَم يُخرِج فيهِ الإمامُ مالِكٌ إلاّ ما صَحَّ عِندَه، أَوِ استَكانَت إلَيهِ نَفسُه، وَقَوِيَ فيهِ حُسنُ ظَنِّه، وَشَأنُ المُتَقَدِّمِ أَن يَترُكَ البابَ مَفتوحًا عَلى مِصراعَيهِ لِلاّحِق، فَيَزيد عَلَيهِ وَيَستَدرِك. وَكانَ هذا أَيضًا شَأنَ الأَئمَّةِ مِن مُعاصِريه، وَمَن جاءَ بَعدَه. فَلَم يَجمَع أَحَدٌ أَحاديثَ الإمامَة، إلى أَن جَمَعَها جَمعًا وافِيًا الإمامُ مُسلِم، في كِتابِ الإمارَةِ مِن «صَحيحِه»[1]، فَصارَ المُنتَهى إلى صَنيعِه.

ثُمَّ إنَّ المَدينَةَ المُنَوَّرَة، لَم تَكُن دارَ الخِلافَةِ وَالإمامَةِ مُنذُ عَهدِ مُعاوِيَةَ بنِ أَبي سُفيانَ بَعدَ الأَربَعينَ مِنَ الهِجرَة، وَإنَّما كانَت دارُ الخِلافَةِ دِمَشقَ ثُمَّ بَغداد. فَيَظهَرُ أَنَّ عُلَماءَ الحِجازِ انصَرَفوا إلى رِوايَةِ ما كانَ عِندَهُم مِنَ الحَديثِ وَالسُّنَنِ وَتَقريرِ عَمَلِ أَهلِ المَدينَةِ فيها.

وَعَلى الرَّغمِ مِنَ الاِنقِلاباتِ السِّياسِيَّةِ العَنيفَةِ في القَرنِ الثّاني لِلهِجرَة، قَرنِ الإمامِ مالِك، وَما تَخَلَّلَها مِنِ انتِقالِ الخِلافَةِ مِن يَدِ الأُمَوِيّينَ وَالعَبّاسِيّين، وَثَوَراتِ الطّالِبِيّين، وَرُبَّما بِسَبَبِ عَواقِبِ ذلِكَ عَلى البِلادِ وَالعِباد، فَإنَّ الإمامَ مالِكًا قَدِ اختارَ التَّمَسُّكَ بِمَذهَبِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ في ذلِك، وَلَم يَختَرِ الشُّذوذَ وَالاِنحِيازَ إلى مَذهَبِ الخُروجِ عَنِ الجَماعَةِ وَإمامِها الَّذي نادى بِهِ الخَوارِج، عِلمًا مِنهُ بِسوءِ عاقِبَتِهِ عَلى المُسلِمينَ وَجَماعَتِهِم وَخِلافَتِهِم. وَقَد عَقَدَ القاضي عِياضٌ السَّبتِيّ،
(-544ﻫ) بابًا خاصًّا لِهذِهِ المَسأَلَة، فًقال: «بابٌ في أَخبارِ مالِكٍ مَعَ المُلوك، وَوَعظِهِ إيّاهُم، وَحُسنِ مُقامِهِ عِندَ الوُلاة، وَزِيارَتِهِ لَهُم، وَأَخذِهِ مِنهُم جَوائزَهُم»[2].

الأمر الثاني: إنَّ هذا الباب، وَلا شَكّ، فيهِ مِنَ الفِقهِ العَمَلِيِّ الشَّيءُ الكَثير، فَدُخولُهُ عَلَيهِم، وَنَصيحَتُهُ لَهُم، وَقَبولُهُ جوائزَهُم، هُوَ تَقريرٌ عَمَلِيٌّ مُستَنِدٌ إلى نَظَرٍ سُنِّيٍّ خالِصٍ سَديد، أَو قُل هُوَ مِن عَمَلِ أَهلِ السُّنَّةِ في المَسأَلَة. وَيَحتاجُ هذا البابُ إلى تَحليلٍ عَميق، لِتَبَيُّنِ أَبعادِ هذا الفِقهِ العَمَلِيّ، وَمُستَنَدِهِ الشَّرعِيّ، يَضيقُ عَنهُ هذا المَقام.

لَم يَكتَفِ الإمامُ مالِك، رَحِمَهُ الله، بِالدُّخولِ عَلى «المُلوك، وَوَعظِهِ إيّاهُم، وَحُسنِ مُقامِهِ عِندَ الوُلاة، وَزِيارَتِهِ لَهُم، وَأَخذِهِ مِنهُم جَوائزَهُم»، كَما قَد رَأَينا. بَل كانَ يُحاضِرُ في المَسأَلَة، وَفي التَّحذيرِ مِن مَذهَبِ الخَوارِجِ عَنِ الجَماعَة، وَنَقضِ أُطروحَتِهِ الفِكرِيَّة، وَفي وُجوبِ طاعَةِ الأَئمَّة، وَتَركِ الخُروجِ عَلَيهِم، وَلُزومِ جَماعَةِ المُسلِمينَ وَإمامِهِم، فَنَقَلَ ذلِكَ عَنهُ تَلامِذَتُه، وَجَعَلوهُ دُستورًا يُعمَلُ بِه، وَرَأَوْا فيهِ تَجَلِّيًا مِن تَجَلِّيّاتِ مَذهَبِ «أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَة». وَلَنا عَن هذِهِ المُحاضَراتِ العامَّةِ أَكثَرُ مِن تَقريرٍ أَندَلُسِيٍّ دَوَّنَهُ تَلامِذَتُه.

فَفي مُحاوَرَةٍ بَينَ الحَكَمِ الرَّبَضِيّ، (ت 206ﻫ) وَبَينَ طالوتَ بنِ عَبدِ الجَبّارِ القُرطُبِيّ، (كانَ حَيًّا عامَ 204ﻫ) مِن تَلامِذَةِ مالِك، نَجِدَ هذا الفَقيهَ الكَبير، يَشهَدُ أَنَّهُ سَمِعَ الإمامَ مالِكًا يَدعو إلى السَّكينَةِ وَلُزومِ جَماعَةِ المُسلِمين، وَلَو في أَسوَإ الظُّروف، تَحَسُّبًا لِسوءِ عَواقِبِ الفِتنَةِ عَلى جَماعَةِ المُسلِمين. وَنَصُّ كَلامِ الإمامِ مالِك، حَسَبَ رِوايَةِ طالوت: «سُلطانٌ جائرٌ مُدَّة، خَيرٌ مِن فِتنَةِ ساعَة. قالَ الحَكَم: اَللَّهَ تَعالى. لَقَد سَمِعتَ هذا مِن مالِك؟! قالَ طالوت: اَللَّهُمَّ إنّي قَد سَمِعتُه»[3].

وَلِرَأيِ الإمامِ مالِكٍ هذا رِوايَةٌ أُخرى نَقَلَها قَرعوسُ بنُ العَبّاسِ الثَّقَفِيُّ القُرطُبِيّ، (ت 220ﻫ) إذ قال: «سَمِعتُ مالِكًا وَالثَّورِيَّ يَقولان: سُلطانٌ جائرٌ سَبعينَ سَنَة، خَيرٌ مِن أُمَّةٍ سائبَةٍ ساعَةً مِن نَهار»[4].

وَيُمكِنُ الجَمعُ بَينَ الرِّوايَتَينِ في يُسرٍ تامّ، بِافتِراضِ أَنَّ الإمامَ مالِكًا كانَ يُعَبِّرُ عَن هذا الرّأيِ السُّنِّيِّ في مُحاضَراتٍ مُتَعَدِّدَة، وَبِأَلفاظٍ مُختَلِفَة، فَنَقَلَ النّاقِلونَ عَنهُ ما سَمِعوهُ مِن أَلفاظِه. وَظاهِرٌ أَنَّ الإمامَ مالِكًا لَم يَنفَرِد في زَمَنِهِ بِهذا الرّأي، بَل شارَكَهُ فيهِ غَيرُهُ مِن عُلَماءِ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَة، وَلا سِيَما الفَقيهُ المُجتَهِد، سُفيانُ الثَّورِيّ. (ت161ﻫ).

وَيَظهَرُ كَذلِكَ أَنَّ الإمامَ مالِكًا لَم يَفتَأ يَعمَلُ عَلى جَمعِ جَماعَةِ المُسلِمينَ عَلى إمامِ وَقتِهِم، زِيادَةً عَلى مُحاضَراتِهِ العامَّةِ في مَسجِدِ رَسولِ الله، صلى الله عليه وسلم في أَحاديثِهِ الشَّخصِيَّة، وَوَصاياهُ لِتَلامِذَتِهِ الأَندَلُسِيّينَ وَغَيرِ الأَندَلُسِيّين، شَأنَ المُخلِصينَ المُتَبَصِّرينَ مِمَّن يُطابِقُ سِرُّهُم عَلانِيَتَهُم، فَها نَحنُ نَراهُ يوصي تِلميذَهُ يَحيى بنَ يَحيى القُرطُبِيَّ الأَندَلُسِيّ، (ت 234ﻫ) بِما كانَ يُعلِنُ بِهِ في مُحاضَراتِه. «قالَ يَحيى: لَمّا وَدَّعتُ مالِكًا سَأَلتُهُ أَن يوصِيَني، فَقالَ لي: عَلَيكَ بِالنَّصيحَةِ لِلَّهِ وَلِكِتابِهِ وَلِأَئمَّةِ المُسلِمينَ وَعامَّتِهِم. ثُمَّ قَدِمتُ عَلى اللَّيث، فَلَمّا حانَ فِراقي إيّاه، قُلتُ لَهُ مِثلَ مَقالتي لِمالِك، فَقالَ لي مِثلَ قَولِهِ سَواء»[5].

وَيَظهَرُ أَنَّ الإمامَ مالِكًا بَنى رَأيَهُ هذا، اَلقائمَ عَلى النَّظَرِ لِلمُسلِمين، وَالاِحتِياطِ لَهُم، وَالتَّبَصُّرِ في العَواقِب، وَلُزومِ قاعِدَةِ أَخَفِّ الضَّرَرَين، عَلى أَصلَينِ جَليلَينِ مِن أُصولِ مَذهَبِهِ الكَثيرَة، وَهُما: سَدُّ الذَّرائع، وَمُراعاةُ المَآل[6].

لَقَد قَرَّرَ هذانِ الفَقيهانِ الأَندَلُسِيّانِ بِرِوايَتَيهِما هاتَينِ عَنِ الإمامِ مالِك، أَمرًا في غايَةِ الأَهَمِّيَّةِ في المَذهَبِ المالِكِيّ، فَجَرى بِهِ «عَمَلُ الفُقَهاءِ» في الأَندَلُس، وَمِن وَرائها المَغرِبُ الأَقصى، وَهُوَ تَركُ الخُروجِ عَنِ السُّلطان، اِتِّقاءً لِلفِتنَة، وَما تَجُرُّ مِنَ الوَيلات. صَحيحٌ أَنَّ طالوتَ بنَ عَبدِ الجَبّارِ المَعافِرِيّ، لَم يُسنِد هذا الكَلامَ حَديثًا عَنِ الإمامِ مالِك، إلى رَسولِ الله، صلى الله عليه وسلم وَإنَّما وَقَفَهُ عَلى إمامِهِ مالِك. بَيدَ أَنَّ آراءَ الإمامِ مالِكٍ وَخُلاصَةَ تَجرِبَتِهِ السِّياسِيَّةِ صارَت مَعَ الزَّمَنِ دُستورًا «جَرى بِهِ العَمَل»، وَآلَ الأَمرُ إلى «استِقرارِ الأَحكامِ»، بِتَعبيرِ الشَّيخِ أَبي عَبدِ الله، مُحَمَّدٍ الطّالِبِ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيِّ الفاسِيّ، صاحِبِ الحاشِيَةِ عَلى مَيّارَة، (ت1273ﻫ) عَلى تَركِ الخُروجِ عَلى السُّلطان، وَتَركِ مُداخَلَةِ «أَهلِ الفِتنَة». ثُمَّ جَرى العَمَلُ بِفاسَ وَغَيرِها مِنَ البِلاد، عَلى أَنَّ طاعَةَ الأَميرِ مِن طاعَةِ اللهِ تَعالى، مَعَ المَحَبَّةِ لَه، وَالدُّعاءِ لَه، وَالتِماسِ الدُّعاءِ مِنه. وَهذا ما سَوفَ نَراه، وَرَأَوا في ذلِكَ نَصيحَةً لِلَّهِ وَلِجَماعَةِ المُسلِمين.

2- المالِكِيَّةِ في المَغرِبِ وَالأَندَلُسِ وَأَزمَةُ المَذهَبِ المالِكِيِّ في عَهدِ المُوَحِّدين

اِستَطاعَ المَذهَبُ المالِكِيّ، بِسَعَةِ أُصولِهِ وَمُرونَتِها، وَما راكَمَ مِن خِبرَةٍ طَويلَةٍ في تَدبيرِ أُمورِ المُجتَمع، وَلا سِيَما في المَغرِبِ وَالأَندَلُس، أَن يَتَمَكَّنَ في هذا المُجتَمَع، فَيُهَيمِنَ هَيمَنَةً كَبيرَةً عَلَيهِ مُنذُ دُخولِه، حَتّى عَرَّضَهُ ذلِكَ إلى مُناوَءَةٍ شَديدَةٍ مِن خُصومِه، وَلا سِيَما ابنُ حَزمٍ الظّاهِرِيّ، (ت458ﻫ) اَلَّذي لَم يَفتَأ يَزعُمُ أَنَّ انتِشارَ المَذهَبِ المالِكِيّ، لَم يَكُن عَنِ اقتِناعِ النّاسِ بِه، وَإنَّما كانَ عَن تَدبيرٍ سِياسِيٍّ فَوقِيّ، فَرضَ عَلى النّاسِ هذا المَذهَبَ فَرضا. قالَ الحُمَيدِيّ، (ت 488ﻫ) وَهُوَ مِن تَلامِذَتِه: «سَمِعتُ الفَقيهَ الحافِظ، أَبا مُحَمَّد، عَلِيَّ بنَ أَحمَدَ [ابنِ حَزمٍ] يَقول: مَذهَبانِ انتَشَرا في بَدءِ أَمرِهِما بِالرِّياسَةِ وَالسُّلطان: مَذهَبُ أَبي حَنيفَة…وَمَذهَبُ مالِكِ بنِ أَنَسٍ عِندَنا، فَإنَّ يَحيى بنَ يحيى كانَ مَكينًا عِندَ السُّلطان، مَقبولَ القَولِ في القُضاة، فَكانَ لا يَلي قاضٍ في أَقطارِنا إلاّ بِمَشورَتِهِ وَاختِيارِه، وَلا يُشيرُ إلاّ بِأَصحابِه، وَمَن كانَ عَلى مَذهَبِه، وَالنّاسُ سِراعٌ إلى الدُّنيا وَالرِّياسَة. فَأَقبَلوا عَلى ما يَرجونَ بُلوغَ أَغراضِهِم بِه…وَكَذلِكَ جَرى الأَمرُ في إفريقِيَةَ لَمّا وُلِيَّ القَضاءَ بِها سُحنونُ بنُ سَعيد، ثُمَّ نَشَأَ النّاسُ عَلى ما انتَشَر»[7] بَيدَ أَنَّ ابنَ حَزم، لَم يُفَسِّر لِلنّاس، وَهُوَ يَزعُمُ التَّأريخَ لتمكن المَذهَبَين، اَلمالِكِيِّ وَالحَنَفِيّ، لِماذا اختارَ السُّلطانُ في الأَندَلُسِ وَإفريقِيَةَ المَذهَبَ المالكِيَّ مَذهبًا رَسمِيّاً دونَ غَيرِه، وَما الدَّواعيَ الَّتي دَعَتهُ إلى اختِيارِ يَحيى بنِ يَحيَى، دونَ فُقَهاءِ الأَوزاعِيَّةِ بِالأَندَلُس، وَلِماذا تَرَكَ السُّلطانُ في إفريقِيَة، وَهِيَ الوِلايَةُ التّابِعَةُ لِلدَّولَةِ العَبّاسِيَّة، اَلمَذهَبَ الحَنَفِيَّ الرَّسمِيَّ بِها، وَمَكَّنَ لِلمَذهَبِ المالِكِيِّ دونَه.

وَمَهما يَكُن، فَقَد تَعَرَّضَ المَذهَبُ المالِكِيُّ في القَرنِ السّادِسِ الهِجرِيِّ إلى قاصِمَةِ الظَّهر، عِندَما سَقَطَت دَولَةُ المُرابِطين، وَريثَةِ المالِكِيَّةِ الأَندَلُسِيَّة، وَعِندَما قَرَّرَ بَعضُ خُلَفاءِ المُوَحِّدينَ مَنعَ المَذهَبِ المالِكِيِّ مَنعًا رَسمِيّا، بِمَنعِ تَدريسِ كُتُبِ فِقهِه، بَل بِتَحريقِ كُتُبِهِ كَذلِك. قالَ ابنُ أَبي زَرعٍ الفاسِيّ، (ت 726ﻫ) «ثُمَّ دَخَلَت سَنَة خَمسينَ وَخَمسِ مِائَة: فيها أَمَرَ أَميرُ المُؤمِنين، عَبدُ المُؤمِن، بِإصلاحِ المَساجِدِ وَبِنائها في جَميعِ بِلادِه، وَتَغييرِ المُنكَر، وَتَحريقِ كُتُبِ الفُروع، وَرَدِّ النّاسِ إلى قِراءَةِ الحَديث. وَكَتَبَ بِذلِكَ إلى جَميعِ طَلَبَةِ المَغرِبِ وَالعُدوَة»[8].

لا نَدري مَدى تَطبيقِ هذا القَرارِ في عَهدِ الخَليفَةِ عَبدِ المُؤمِن، (524-558ﻫ) وَلَرُّبَّما لَم يَتَشَدَّدِ في ذلِكَ عَبدُ المُؤمِنِ بنُ عَلِيّ، مِن بابِ السِّياسَةِ وَحُسنِ تَدبيرِ الشُّؤون، وَلِتَمَكُّنِ المَذهَبِ المالِكِيِّ مِن نُفوسِ النّاسِ وَعُقولِهِم. وَلا نَدري ما كانَ الأَمرُ عَلَيهِ في عَهدِ ابنِهِ الخَليفَةِ يوسُف (ت558-580ﻫ) وَلَعَلَّهُ مارَسَ سِياسَةَ التَّغافُلِ حَتّى لا يَستاءَ مِنهُ العُلَماءُ المالِكِيَّة، وَهُمُ السَّوادُ الأَعظَمُ في دارِ مُلكِه. بَيدَ أَنَّنا نَعلَمُ مِن تَقاريرَ مُستَنِدَةٍ إلى المُعايَنَة، أَنَّ حَفيدَهُ يَعقوبَ المَنصور (ت 580-595ﻫ) تَشَدَّدَ في أَمرِ التَّضييقِ عَلى المَذهَبِ المالِكِيّ، حَتّى قالَ عَبدُ الواحِدِ المُرّاكُشِيّ، ( كانَ حَيًّا عامَ 620ﻫ): «وَفي أَيّامِهِ انقَطَعَ عِلمُ الفُروع، وَخافَهُ الفُقَهاء، وَأَمَرَ بِإحراقِ كُتُبِ المَذهَب، بَعدَ أَن يُجَرَّدَ ما فيها مِن حَديثِ رَسولِ الله، صلى الله عليه وسلم وَالقُرآن، فَفُعِلَ ذلِك. فَأُحرِقَ مِنها جُملَةٌ في سائرِ البِلاد، كَمُدَوَّنَةِ سُحنون، وَكِتابِ ابنِ يونُس، وَنَوادِرِ ابنِ أَبي زَيد، وَمُختَصَرِه، وَكِتابِ التَّهذيبِ لِلبَراذِعِيّ، وَواضِحَةِ ابنِ حَبيب، وَما جانَسَ هذِهِ الكُتُبَ وَنَحا نَحوَها. وَلَقَد شَهِدتُ مِنها، وَأَنا يَومَئذٍ بِمَدينَةِ فاس، يُؤتى بِالأَحمال، فَتوضَعُ وَيُطلَقُ فيها النّار»[9].

كانَ تَحريقُ كُتُبِ المَذهَبِ عِندَ الخَليفَةِ المَنصورِ مُقتَرِنًا بِالعُقوبَةِ الشَّديدَةِ لِلفُقَهاءِ المالِكِيَّةِ إذا ما دَرَّسوا الفِقهَ المالِكِيّ، أَو أَفتَوا بِه، وَبِتَقديمِ بَديلٍ عَنِ المَذهَب، وَهُوَ كُتُبُ الحَديث، دونَ تَدَبُّرٍ لَها، وَلا استِخراجٍ لِفِقهِها. قالَ عَبدُ الواحِدِ المُرّاكُشِيّ: «وَتَقَدَّمَ إلى النّاسِ في تَركِ الاِشتِغالِ بِعِلمِ الرَّأي، وَالخَوضِ في شَيءٍ مِنه، وَتَوَعَّدَ عَلى ذلِكَ بِالعُقوبَةِ الشَّديدَة. وَأَمَرَ جَماعَةً مِمَّن كانَ عِندَهُ مِنَ العُلَماءِ المُحَدِّثينَ بِجَمعِ أَحاديثَ مِنَ المُصَنَّفاتِ العَشَرَة، اَلصَّحيحَين، وَالتَّرمِذِيّ، وَالمُوَطّإ، وَسُنَنِ أَبي داود، وَسُنَنِ النَّسائِيّ، وَسُنَنِ البَزّار، وَمُسنَدِ ابنِ أَبي شَيبَة، وَسُنَنِ الدّارَقُطنِيّ، وَسُنَنِ البَيهَقِيّ، في الصَّلاةِ وَما يَتَعَلَّقُ بِها…»[10].

وَرَأى عَبدُ الواحِدِ المُرّاكُشِيُّ في الأَمرِ مَشروعًا مُوَحِّدِيُّا طَويلَ النَّفَس، يَسعى إلى اجتِثاثِ المَذهَبِ المالِكِيّ، وَتَعويضِهِ بِالمَذهَبِ الحَزمِيِّ أَو مَذهَبِ أَهلِ الحَديث. قال: «وَكانَ قَصدُهُ في الجُملَةِ مَحوَ مَذهَبِ مالِك، وَإزالَتَهُ مِنَ المَغرِبِ مَرَّةً واحِدَة، وَحَملَ النّاسِ عَلى الظّاهِرِ مِنَ القُرآنِ وَالحَديث. وَهذا المَقصَدُ بِعَينِهِ كانَ مَقصدَ أَبيهِ وَجَدِّه، إلاّ أَنَّهُما لَم يُظهِراه، وَأَظهَرَهُ يعقوبُ هذا»[11].

3 – ابنُ زَرقونَ وَأَبو إسحاقَ البِلِّفيقِيُّ وَ»الغَندورِيَّة»

كانَ لِعُلَماءِ المالِكِيَّةِ مَوقِفُهُم مِن قَرارِ الخَليفَةِ المَنصورِ تَغييرَ المَذهَبِ الرَّسمِيّ، وَقَدِ اختَلَفَتِ الإجاباتُ المالِكِيَّةُ في هذِهِ المِحنَة، لكِنَّها كانَت مُتَقارِبَةً جِدّا. فَهذا ابنُ زَرقونَ الإشبيلِيّ، (ت620ﻫ) كانَ عالِمًا مالِكِيًّا كَبيراً شَغَلَهُ طَلَبُ الفِقهِ عَنِ التَّبَحُّرِ في عِلمِ الحَديث. وَيَظهَرُ أَنَّهُ كانَ بِضاعَتَهُ الوَحيدَة، فَلَم يَكُن في مُكنَتِهِ إلاّ أَن يُدَرِّسَ عِلمًا كانَ يُتقِنُه، وَهُوَ الفِقهُ المالِكِيّ، إذ لَم يَكُن في مُكنَتِهِ أَن يُدَرِّسَ عِلمًا يُقَصِّرُ فيه، وَهُوَ عِلمُ الحَديث. اِختارَ ابنُ زَرقونَ الاِستِمرارَ في تَدريسِ الفِقه، لِأَنَّهُ هو ما كانَ يُتقِن، وَلِأَنَّ الفِقهَ المالِكِيّ، مَهما تَكُن مَطاعِنُ خُصومِه، هُوَ ثَمَرَةُ الاِستِنباطِ مِنَ القُرآنِ وَالسُّنَّة. قالَ عَنهُ ابنُ الأَبّار، (ت 658ﻫ): «وَكانَ فَقيهًا مالِكِيًّا حافِظًا مُبَرَّزا، مُتَعَصِّبًا لِلمَذهَب، قائمًا عَلَيه، حَتّى امتُحِنَ بِالسُّلطانِ مِن أَجلِه، وَاعتُقِلَ مُدَّةً بِسَبتَة. وَمِن تَواليفِه: «اَلكِتابُ المُعَلّى، في الرَّدِّ عَلى المُحَلّى وَالمُجَلّى»، لِأَبي مُحَمَّدٍ ابنِ حَزم، وَكِتاب: «قُطبُ الشَّريعَة»، في الجَمعِ بَينَ «الصَّحيحَين»، وَمِنها اقتِضابُهُ لِكِتابِ «الأَموال»، لِأَبي عُبَيد، وَغَيرُ ذلِك. وَلَهُ كِتابٌ في الفِقه، لَم يُكمِله، سَمّاه: «تَهذيبَ المَسالِك، في تَحصيلِ مَذهبِ مالِك»…وَلَم يَكُن لَهُ بَصَرٌ بِالحَديث، وَكانَ يَعتَرِفُ بِالقُصورِ عَنه. وَعَلى ذلِك، عُنِيَ النّاسُ بِالسَّماعِ عَنه…وَعادَ إلى تَدريسِ الفِقهِ وَتَعليمِ الرَّأي…»[12].

وَمَعَ هذا التّضييقِ عَلى المَذهَبِ المالِكِيّ، لَم يَرَ ابنُ زَرقونَ الإنكارَ عَلى الخَليفَة، بَلهَ أَن يُحَرِّضَ عَلَيهِ العامَّة، أَو أَن يَنضَمَّ إلى أَعدائهِ المَيّورقِيّين. بَلِ اختارَ الصَّبرَ وَالتَّحَمُّلَ في هُدوء، إذ شَأنُ العُلَماءِ أَن يَسعَوا في جَمعِ شَملِ الجَماعَة، وَتَوحيدِ كَلِمَتِها، وَلَو تَنازَلوا عَن جُزءٍ مِن حُقوقِهِم، أَو مَسَّهُم أَذى في أَنفُسِهِم، وَلا سِيَما أَنَّ الزَّمَنَ زَمَنُ ما يُسَمّيهِ الإسبانِيّونَ زَمَنَ «حُروبِ الاِستِرداد»، وَزَمَنُ الاِستِعدادِ لِمَعرَكَةِ الأَرَك. (ت591ﻫ).

وَقَريبٌ مِن هذا المَوقِف، مَوقِفُ الشَّيخِ أَبي إسحاقَ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيِّ البِلِّفيقِيّ، (ت 616ﻫ) اَلَّذي «كانَ عالِمًا عامِلا، فَقيهًا أَديبا، شاعِرًا مُحسِنا، سَهلَ العِبارَة، لَطيفَ الإشارَة، صوفِيًّا سُنِّيّا، طاهِرًا سَرِيّا، عالِيَ الهٍمَّة، كَريمَ العِشرَة، صادِقَ الفِراسَة، عَظيمَ الجاهِ في القُلوب، سامِيَ الرِّئاسَة، شَديدَ الاِلتِزامِ لِمَذهَبِ مالِك، رَضِيَ اللهُ عَنه، لا يَسمَحُ مِن مُخالَفَتِهِ في شَيء، قَلَّما لازَمَهُ أَحَدٌّ إلاّ وَحَسُنَت حالُهُ في دينِهِ وَدُنياه، وَلا دَعا لَهُ إلاّ ظَهَرَت بَرَكَةُ دُعائهِ في عَقِبِهِ وَعُقباه»[13].

وَلَعَلَ شِدَّةَ التِزامِ الشَّيخِ أَبي إسحاقَ لِلمَذهَبِ المالِكِيّ، وَتَصَوُّفَهُ وَاجتِماعَ النّاسِ عَلَيهِ في أَلمِرِيَة، كانَ يَدعو إلى التَّشَكُّكِ في أَمرِه، فَكانَ يُعلِنُ في مُحاضَراتِهِ وَلاءَهُ لِلسُّلطان، وَلَو لَم يَكُنِ السُّلطانُ مالِكيّا، قَطعًا لِأَلسِنَةِ السّوء، وَاتِّقاءً لِأَن يُمتَحَنَ هُوَ أَو أَصحابُه، وَعَمَلاً بِتَوجيهاتِ الإمامِ مالِكٍ لِتَلامِذَتِه.

قالَ ابنُ خاتِمَة، (ت770ﻫ): «وَكانَ الشَّيخُ أَبو إسحاقَ يَقول: كُلُّ مَن نالَ مِن عِرضي ما نال، فَأَنا أُحَلِّلُهُ مِن ذلِك، وَأَغفِرُ لَه، ما عَدا مَن رَماني بِالقِيامِ عَلى السُّلطان، فَإنّي لا أَغفِرُ لَه، حَتّى أُخاصِمَهُ بَينَ يَدَيِ اللهِ تعالى، فيما رَماني بِهِ مِنَ البِدعَةِ الشَّنعاء، وَالمَعصِيَةِ الكُبرى، وَالدّاهِيَةِ الدَّهياء. وَلَو رَماني بِالزِّنا ما كانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِمّا رَماني بِه، وَيَذكُرُ مِن فَظاعَةِ هذِهِ الفَريَةِ عَلَيه، وَشَناعَتِها لَدَيه»[14].

وَلَقَدِ استَمَرَّ هذا التَّوَجُّهُ المالِكِيُّ القائمُ عَلى مَبدَأَي سَدِّ الذَّريعَة، وَمُراعاةِ المَآل، جارِيًا العَمَلُ بِهِ في المَغرِبِ وَالأَندَلُس، حَتّى انتَهى إلى نَبذِ كُلِّ عالِمٍ مالِكِيٍّ يَنتَهِكُ حُرمَتَه، فَيَتَدَخَّلُ في الفِتَن، وَيَكونُ هُوَ طَرَفًا فيها، وَذلِكَ بِتَركِ الصَّلاةِ وَراءَه، وَلَو بَلَغَ مِنَ العِلمِ ما بَلَغ. فَهذا عَبدُ العَزيزِ بنُ موسى الوَرياغلِيّ، (ت880ﻫ) خَطيبُ جامِعِ القَرَوِيّين، قالَ عَنهُ ابنُ القاضي: (ت 1025ﻫ) «وَهُوَ الَّذي ثارَتِ العامَّةُ عَلى يَدِهِ عَلى عَبدِ الحَقِّ المَرينِيِّ الأَصغَر. وَكانَ الوَلِيُّ العالِمُ الصّالِح، أَحمَدُ بنُ أَحمَدَ البَرنوسِيّ، اَلشَّهيرُ بِزَرّوق، يَترُكُ الصَّلاةَ خَلفَه، لِفَعلَتِهِ هذِه»[15] وَفي رِوايَةٍ أُخرى عَنه، عِندَ ابنِ القاضي نَفسِه: «اَلفَقيهُ الخَطيبُ بِالقَرَوِيّين، مِن فاسَ المَحروسَة، صاعِقَةُ الزَّمان. وَهُوَ الَّذي كانَ عَلى يَدِهِ القِيامُ عَلى عَبدِ الحَقِّ المَرينِيّ…وَكانَ أَبو العَبّاس، أَحمَدُ زَرّوق، تَرَكَ الصَّلاةَ خَلفَهُ لِفِعلِه، وَكانَ يَقول: عَبدُ العَزيزِ الغَندور، أَيِ الشُّجاع، لا آمَنُهُ عَلى صَلاتي»[16] فَكانَ تَركُ الصَّلاةِ وَراءَ «الغَندور»، وَكُلِّ غَندور، رَفضًا قاطِعًا عَمَلِيًّا لِلغَندورِيَّة، أَي مُداخَلَةِ العالِمِ لِأَهلِ الفِتنَةِ وَالقِيامِ عَلى الأُمَراءِ الشَّرعِيّين، لِما يَتَرَتَّبُ عَلى ذلِكَ مِنَ المَفاسِد، فَقَد جَرى العَمَلُ المالِكِيّ، كَما يُعَبِّرُ عَنهُ الشَّيخُ سَيِّدي عَبدُ القادِرِ الفاسِيّ، (ت1091ﻫ) عَلى أَنَّ «في مُنازَعَتِهِ وَالخُروجِ عَلَيه، [أَيِ الإمامِ الأَعظَم] اِستِبدالَ الأَمنِ بِالخَوف، وَإراقَةَ الدِّماء، وَانطِلاقَ أَيدي الدَّهماء، وَشَنَّ الغاراتِ عَلى المُسلِمين، وَالفَسادَ في الأَرض»[17]. كَما جَرى العَمَلُ بِقَولِ سَهلٍ التَّستُرِيّ، (ت283ﻫ) اَلصّوفِيِّ الشَّهير، كَما نَقَلَهُ عالِمُ فاسَ المَذكور، الشَّيخُ سَيِّدي عَبدُ القادِرِ الفاسِيّ، أَي إنَّ «مَن أَنكَرَ إمامَةَ السُّلطان، فَهُوَ زِنديق، وَمَن دَعاهُ السُّلطان، فَلَم يُجِب، فَهُوَ مُبتَدِع، وَمَن أَتاهُ مِن غَيرِ دَعوَة، فَهُوَ جاهِل»[18].

4 – استِقرارُ الأَحكام، وَطاعَةُ اللهِ بِطاعَةِ الأَمير

كانَ تاريخُ الإسلامِ في القَرنِ الأَوَّلِ تاريخَ إقامَةٍ لِلخِلافَةِ الرّاشِدةِ في المَدينَةِ المُنَوَّرَة، ثُمَّ الأُمَوِيَّةِ في دِمَشق. وَفي كِلتا الحالَتَين، كانَت هذِهِ الخِلافَة، أَوِ الإمامَةُ العُظمى، سُنَّةً مِن سُنَنِ الصَّحابَةِ ارتَضَوها وَقامَ إجماعُهُم عَلَيها. وًقَد تَخَلَّلَ هذا فِتَنٌ وَثَوَراتٌ كانَ عَلى عُلَماءِ المَذهَبِ المالِكِيِّ تَفسيرُها، وَأَخذُ العِبرَةِ مِنها، وَلا سِيَما ما كانَ شَديدَ الإشكالِيَّة. وَقَد مَيَّزوا بَينَ مَرحَلَةِ «استِقرارِ الأَحكامِ» الشَّرعِيَّة، بِاتِّخاذِ المَذاهِبِ وَانضِباطِ شُؤونِها، وَمَرحَلَةِ ما قَبلَ استِقرارِها، حَيثُ كانَ الاِجتِهادُ الفَردِيُّ لَهُ مِنَ السَّعَةِ ما قَد يُؤَدّي إلى ضَربٍ مِنَ الفَوضى في صُفوفِ المُسلِمين، وَافتِراقِ جَماعَتِهِم، وَلا سِيَما في الأُمورِ السِّياسِيَّة.

وَبَعدَ نِقاشاتٍ طَويلَةٍ بَينَ العُلَماءِ المالِكِيَّةِ وَغَيرِهِم، اِنتَهى الأَمرُ بِتَحريمِ الخُروجِ عَن وَلِيِّ أَمرِ المُسلِمينَ مُطلَقا، سَدًّ لِلذَريعَة، وَمُراعاةً لِلمَآل.

لًقَدِ انعَقَدَ الإجماعُ مُنذُ القَرنِ الثّاني عَلى الأَقَلّ، بِظُهورِ المَذاهِبِ السُّنِّيَّةِ المُعتَبَرَة، وَصارَ عَلى العُلَماءِ أَن يُعينوا وُلاةَ الأُمورِ عَلى ما هُم بِصَدَدِهِ مِنَ القِيامِ بِحِراسَةِ الدّينِ وَتَدبيرِ أُمورِ الدُّنيا، وَجَرى العَمَلُ عِندَهُم بِالدُّعاءِ لَهُم عَلى المَنابِرِ دونَ نَكير، وَفي أَعقابِ الصَّلَوات، وَفي غَيرِ هذا مِنَ المَواقِفِ وَالمَقامات، لِما في ذلِكَ مِن صَلاحِ البِلادِ وَالعِباد، وَلَو كانَ هؤُلاءِ العُلَماءُ مِنَ المَيّالينَ إلى الزُّهدِ في الدُّنيا، وَالمُقبِلينَ عَلى الآخِرَة. ذلِكَ أَنَّ هذا الزُّهدَ وَهذا الإقبالَ عَلى طاعَةِ الله، لا يُنافِيانِ طاعَةً أُخرى لِلَّه، هِيَ طاعَةُ الأَميرِ فيما يَحتاجُهُ مِنَ العُلَماءِ لِإصلاحِ أَمرِ الدُّنيا، وَلا سِيَما في القَضاءِ بَينَ النّاس، بَل هِيَ مِنها، وَلا شَكّ، وَهُما في هذِهِ الحالَةِ وَجهانِ لِشَيءٍ واحِد. وَهكَذا نَقرَأُ في تَرجَمَةِ قاضي فاس، أَبي العَبّاس، أَحمَدَ ابنِ الحاجّ، (ت1102ﻫ): «وَلِيَ خُطَّةَ القَضاءِ أَواخِرَ عُمُرِه، عَلى رَغمٍ مِنهُ في طاعَةِ اللهِ تَعالى بِطاعَةِ أَميرِه، بِالمَدينَةِ البَيضاء، فَأَقامَ الحَقُّ بِها وَلَهِج…»[19]، وَلا سِيَما أَنَّ الإمامَةَ المَغرِبِيَّةَ العَلَوِيَّة، قَدِ اجتَمَعَت فيها كُلُّ الشُّروطِ الشَّرعِيَّة: كَالقُرَشِيَّةِ وَتَدبيرِ الأُمور، وَاَلوَحدَةِ وَعَدَمِ التَّعَدُّد، وَيَقومُ بِبَيعَتِها أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ مِنَ العُلَماءِ وَالرُؤَساءِ وَوُجوهِ النّاس،[20] وَهُوَ ما تَعكِسُهُ وَثائقُ البَيعَةِ عَبرَ القُرون [21].

بيبليُغرافِيَة

  1. اَلأَجوِبَةُ الحِسان، في الخَليفَةِ وَالسُّلطان، أَو رِسالَةٌ في الإمامَةِ العُظمى، لِأَبي مُحَمَّد، أَبي السُّعود، عَبدِ القادِرِ بنِ عَلِيِّ بنِ يوسُفَ القَصرِيِّ الفاسِيِّ الفِهرِيّ. (ت1091ﻫ) تَحقيقُ المَهدِيِّ المِصباحِيّ. مَنشوراتُ وِزارَةِ الأَوقافِ وَالشُّؤونِ الإسلامِيَّة. اَلرِّباط. 1435ﻫ ـ 2014م.
  2. أَزهارُ الرِّياض، في أَخبارِ عِياض، لأِبي العَبّاسِ المَقرِيِّ التِّلِمسانِيّ. (ت1041ﻫ) ج. 1ـ3: تَحقيقُ مُصطَفى السّقّا، وَإبراهيمَ الأَبيارِيّ، وَعَبدِ الحَفيظِ شَلَبِيّ. مَنشوراتُ المَعهَدِ الخَليفِيِّ لِلأَبحاثِ المَغرِبِيَّة. اَلقاهِرَة. 1358 ﻫ ـ 1393م. ج.4ـ5: تَحقيقُ سَعيدٍ أَعراب، وَمُحَمَّدِ ابنِ تاويت، وَعَبدِ السَّلامِ الهَرّاس. مَنشوراتُ اللَّجنَةِ المَغرِبِيَّةِ المُشتَرَكَةِ لِنَشرِ التُّراثِ الإسلامِيِّ بَينَ المَغرِبِ وَالإماراتِ العَرَبِيَّة. اَلرِّباط. 1398ـ1400ﻫ ـ 1978ـ1980م. 5 أَجزاء.
  3. اَلأَنيسُ المُطرِب، بِرَوضِ القِرطاس، في أَخبارِ مُلوكِ المَغرِبِ وَتاريخِ مَدينَةِ فاس، لاِبنِ أَبي زَرعٍ الفاسِيّ. (ت 726ﻫ) دارُ المَنصور. اَلرِّباط. 1973م.
  4. اَلإشراف، عَلى بَعضِ مَن بِفاسَ مِن مَشاهيرِ الأَشراف، لأِبي عَبدِ اللَّه، مُحَمَّدٍ الطّالِبِ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيِّ المِرداسِيّ. (ت1273ﻫ) تَحقيقُ جَعفَرِ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيّ. مَنشوراتُ جَمعِيَّةِ تِطّاوُنَ أَسمير. سِلسِلَةُ تُراث. 11. تِطوان. 1424ـ1425 ﻫ ـ 2004م. جُزءان.
  5. اَلبَيعَة ميثاقٌ مُستَمِرٌّ بَينَ المَلِكِ وَالشَّعب، لِبَهيجَةَ سيمو. مُديرِيَّةُ الوَثائِقِ المَلَكِيَّة. اَلرِّباط. 2011م.
  6. تَرتيبُ المَدارِك، وَتَقريبُ المَسالِك، لِمَعرِفَةِ أَعلامِ مَذهَبِ مالِك، لِلقاضي عِياض. (ت544ﻫ) تَحقيقُ مُحَمَّدِ ابنِ تاويتَ الطَّنجِيّ، وَعَبدِ القادِرِ الصَّحراوِيّ، وَمُحَمَّدِ ابنِ شَريفَة، وَسَعيدٍ أَعراب. مَنشوراتُ وِزارَةِ الأَوقافِ بِالرِّباط. 1383ـ1403ﻫ ـ 1965ـ1983م. 8 أَجزاء.
  7. اَلتَّكمِلَة، لاِبنِ الأَبّار. (ت658ﻫ) تَحقيقُ بَشّارٍ مَعروف. سِلسِلَةُ التَّراجِمِ الأَندَلُسِيَّة. 7. دارُ الغَربِ الإسلامِيّ. تونُس. 2011م. 4 أَجزاء.
  8. جَذوَةُ الاِقتِباس، في ذِكرِ مَن حَلَّ مِنَ الأَعلامِ مَدينَةَ فاس، لاِبنِ القاضي المِكناسِيّ. (ت1025ﻫ) دارُ المَنصور. اَلرِّباط. 1973م. جُزءان.
  9. جَذوَةُ المُقتَبِس، في ذِكرِ وُلاةِ الَأَندَلُس، لأِبي عَبدِ اللَّه، مُحَمَّدِ بنِ فُتوحٍ الحُمَيدِيّ. (ت488ﻫ) تَحقيقُ مُحَمَّدِ ابنِ تاويتَ الطَّنجِيّ. مِن تُراثِ الأَندَلُس. 1. مَكتَبَةُ الخانجي. اَلقاهِرَة. د.ت.
  10. حاشِيَةُ أَبي عَبدِ اللَّه، مُحَمَّدٍ الطّالِبِ بنِ حَمدونَ ابنِ الحاجّ، (ت1273ﻫ) عَلى شَرحِ مُحَمَّدِ بنِ أَحمَدَ مَيّارَةَ الفاسِيّ، لِمَنظومَةِ عَبدِ الواحِدِ ابنِ عاشِرٍ المُسَمّاةِ بِالمُرشِدِ المُعين، عَلى الضَّرورِيِّ مِن عُلومِ الدّين. اَلمَطبَعَةُ الكُبرى الأَميرِيَّة. اَلقاهِرَة. ت1319 ﻫ. جُزءانِ في مُجَلَّد.
  11. رِياضُ الوَرد، فيما انتَمى إلَيهِ هذا الجَوهَرُ الفَرد، لأِبي عَبدِ اللَّه، مُحَمَّدٍ الطّالِبِ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيِّ المِرداسِيّ. (ت 1273ﻫ) تَحقيقُ جَعفَرِ ابنِ الحاجِّ السُّلَمِيّ. ج. 1: مَطبَعَةُ الكاتِبِ العَرَبِيّ. دِمَشق. 1413ﻫ ـ 1993م. ج. 2: مَنشوراتُ جَمعِيَّةِ تِطّاوُنَ أَسمير. سِلسِلَةُ تُراث. 8. وَمَنشوراتُ كُلِّيَةِ الآدابِ بِتِطوان. 1420ﻫ ـ 1999م.
  12. صَحيحُ مُسلِم. (ت261ﻫ) دارُ إحياءِ التُّراثِ العَرَبِيّ. بَيروت. 1420ﻫ ـ 2000م.
  13. المُوَطّأ، لِمالِكِ بنِ أَنَس. (ت179ﻫ) تَحقيقُ فاروقٍ سَعد. دارُ الآفاقِ الجَديدَة. بَيروت. 1401 ﻫ ـ 1981م.
  14. المُعجِب، في تلخيصِ أَخبار المَغرب، لِعَبدِ الواحِدِ المُرّاكُشيّ. (ت 647ﻫ) دارُ الكِتاب. الدّارُ البَيضاء. د.ت.

الهوامش

[1] – صَحيحُ مُسلِم: 821-442.

[2] – تَرتيبُ المَدارِك: 2/95.

[3] – اَلمُعجِب: 38.

[4] – تَرتيبُ المَدارِك: 3/326.

[5] – تَرتيبُ المَدارِك: 3/383.

[6] – حاشِيَةُ الشَّيخِ الطّالِبِ ابنِ الحاجّ: 1/16.

[7] – جَذوَةُ المُقتَبِس: 360-361.

[8] – اَلأَنيسُ المُطرِب: 195.

[9] – اَلمُعجِب: 400.

[10] – اَلمُعجِب: 401.

[11] – اَلمُعجِب: 401.

[12] – اَلتَّكمِلَة: 2/325. ع. 1637.

[13] – أَزهارُ الرِّياض: 4/105-106.

[14] – أَزهارُ الرِّياض: 4/114.

[15] – جَذوَةُ الاِقتِباس: 2/452. ع. 489.

[16] – دُرَّةُ الحِجال: 3/127-128. ع. 1070.

[17] – اَلأَجوِبَةُ الحِسان: 164.

[18] – اَلأَجوِبَةُ الحِسان: 194.

[19] – رِياضُ الوَرد: 2/10.

[20] – اَلأَجوِبَةُ الحِسان: 155.

[21] – اُنظُر في هذا الصَّدَدِ كِتاب: اَلبَيعَة ميثاقٌ مُستَمِرٌّ بَينَ المَلِكِ وَالشَّعب، لِبَهيجَةَ سيمو.

 

كلمات مفتاحية : ,