أقوال العلماء في الأصول التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه

أقوال العلماء في الأصول التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه

ذ. محمد المهدي رمح أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة بفاس.
ذ. محمد المهدي رمح أستاذ التعليم العالي بكلية الشريعة بفاس.

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

أقوال العلماء في عدد هذه الأصول  

تعتبر أقوال العلماء في إحصاء الأصول الشرعية لمذهب السادة المالكية أسطولا علميا، يصدر النتائج العلمية المستقرأة من تقريرات العلماء المحققين في علوم الشريعة. ومن يلحظ ما حظي به الفقه الإسلامي والمذهب المالكي على وجه الخصوص من أصول وفروع، يدرك بعد نظر تلك العقول، وكيف شاركت في نسج المنظومات الحاكمة، والموجهة لتصرفات الناس في عباداتهم ومعاملاتهم. فساهمت أصولهم وقواعدهم وضوابطهم، من خلال دراسة نصوص الشريعة، وتفعيل أدوات الاستنباط وآلياته للخروج بالحلول العلمية والعملية لنوازل الناس وحوادثهم، وأجادوا في تحقيق المناطات العام منها والخاص. فتولد عن ذلك فقه بأصوله، حقق مقاصد الشارع، وراعى أحوال المكلفين.

لم ينص الإمام مالك على كل أصوله، لكن المالكية ممن جاؤوا بعده اعتنوا ببيان الأصول التي كان مالك- رحمه الله- يصدر عنها اجتهاده الفقهي، والتي تعد أسسا في المرجعية التدليلية لمذهبه. وكان الأساس الذي اعتمد في عملية الوقوف على هذه الأصول؛ هو استقراء الفروع والاستدلالات الجزئية والنظر فيها لتلمح أصول المذاهب؛ واستخلاص المنهج الاجتهادي للإمام من خلال مصنفاته، مكن المالكية من جملة أدلة وأصول، نسبوا لمالك وأصحابه كونها الأعمدة التدليلية التي بني المذهب عليها.

ولقد اهتم غير واحد من المالكية بتعداد الأدلة التشريعية، التي بني عليها مذهب مالك؛ لكن الناظر في إحصاء هذه الأصول لدى المالكية، يلحظ اختلافا في عدد الأصول التي عزوها لمذهبهم.

ولعل الأمر يرجع إلى أسباب، أجملها فيما يلي:

1- أن بعض المالكية في تعدادهم لأصول المذهب، لم يلتزموا الاستيعاب ولا قصدوه؛ وإنما كان غرضهم ذكر أهم الأصول وأجلاها في المذهب.

2 – بعض المالكية؛ يجعل بعض الأصول عامة، بحيث تشمل أصولا أخرى مفردة عند غيرهم؛ فمثلا نجد أن ابن العربي عد من جملة الأصول: «الاجتهاد»؛ وهو شامل- ولا شك- لكثير من الأصول، كالاستحسان وغيره.

ومن العلماء من يعد «الاستدلال المرسل» من جملة القياس، فذكر القياس في أصول مالك، يجزئ عن ذكر «الاستدلال المرسل» مفردا؛ لأنه من مشمولاته.

ومثل ذلك من جعل «مراعاة الخلاف» من قبيل «الاستحسان»؛ فذكر «الاستحسان» في جملة أصول مالك، مغن عن التنصيص على «مراعاة الخلاف».

وهذا يرجع إلى تطور المعطيات في علم أصول الفقه، والاتجاه إلى التمييز- ما أمكن– بين المعاني المختلفة، ولو كان الاختلاف جزئيا.

فالمتقدمون- مثلا- يطلقون مصطلح «الرأي» على الاجتهاد الذي خرج عن الاستدلال المباشر من الكتاب والسنة والاجماع. وهو عند المتأخرين يشمل أصولا كثيرة؛ كالاستصلاح، والاستحسان، وسد الذرائع.

3 – ومن جملة هذه الأسباب، الاختلاف بين المالكية في الاعتداد ببعض الأصول، وعدها من جملة أدلة الشرع، وعدم الاعتداد بها.

فمن جعلها دليلا من أدلة الشرع في المذهب، أدخلها في سلك أصول المالكية. ومن خالف لم يدرجها في إحصائه؛ مثل قول الصحابي.

4 – ومن بينها أيضا القصور في الإحصاء من بعض العلماء في تعداد أصول المالكية، فليس من التزم الاستيعاب في الاحصاء تم له ذلك؛ لأن للتقصير مدخلا في عملية الإحصاء، إذ هي عملية اجتهادية تتعلق بالنظر.

وعموما يمكن إجمال الأقوال كالآتي:

أ- قال القاضي ابن العربي: «فأصول الأحكام خمسة؛ منها أربعة متفق عليها من الأمة؛ الكتاب والسنة، والاجماع، والنظر والاجتهاد؛ فهذه أربعة، والمصلحة، وهو الأصل الخامس الذي انفرد به مالك رضي الله تعالى عنه دونهم، ولقد وفق فيه من بينهم»[1]؛ عدها أبو بكر بن العربي (ت.543ﻫ) عشرة، كما نقله عنه ابن هلال.[2]

وعدها القاضي عياض (ت.544ﻫ ) أربعة؛ الكتاب، والسنة، والقياس، وعمل أهل المدينة.[3] قال القاضي عياض: «وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة، ومآخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع. وجدت مالكا (رضي الله عنه) ناهجا في هذه الأصول مناهجها، مرتبا لها مراتبها ومدارجها؛ مقدما كتاب الله، ومرتبا له على الآثار، ثم مقدما لها على القياس والاعتبار، تاركا منها ما لم تتحمله الثقات العارفون لما تحملوه، أو ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه»[4].

ويؤخذ من نص القاضي عياض، أن أصول مالك أربعة: كتاب الله؛ الآثار من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عمل أهل المدينة، القياس والاعتبار؛ وهذا الأصل مما يجمع أصولا أخرى، إذ يدخل في مفهوم الاعتبار مطلق الاجتهاد؛ كالاستدلال المرسل، والاستحسان.

والذي يظهر من كلام القاضي عياض، أنه لم يقصد إلى حصر الأدلة التي يرجع إليها مالك في اجتهاده، وإنما ذكر أبرز الأدلة وأهمها؛ وقد أهمل هذا الاحصاء ذكر أصل الاجماع؛ وهو من الأصول المتفق عليها في المذهب المالكي.

وذكر الشيخ أبو صالح محمد الهسكوري الفاسي (ت.653ﻫ)، أن الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر[5]: نص الكتاب، وظاهر الكتاب «وهو العموم»، ودليل الكتاب «وهو مفهوم المخالفة» ، ومفهوم الكتاب «وهو المفهوم بالأولى»؛ وتنبيه الكتاب «وهو التنبيه على العلة»، كقوله تعالى: (فإنه رجس، أو فسقا). ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة؛ فهذه عشرة. والحادي عشر: الإجماع؛ والثاني عشر: القياس؛ والثالث عشر: عمل أهل المدينة؛ والرابع عشر: قول الصحابي؛ والخامس عشر: الاستحسان؛ والسادس عشر: الحكم بسد الذرائع. واختلف قوله في السابع عشر: وهو مراعاة الخلاف؛ فمرة يراعيه، ومرة لا يراعيه. قال أبو الحسن: ومن ذلك الاستصحاب. وكذلك عدها سبعة عشر الشيخ حسن المشاط.

ولما قسم القرافي (ت.684ﻫ) الأدلة قال: إنها تسعة عشر بالاستقراء، وهي: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال، والاستحسان، والأخذ بالأخف، والعصمة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع العترة، وإجماع الخلفاء الأربعة[6].

وقال الحجوي: إنها بلغت عشرين؛ وأضاف- عند ذكره «قول الصحابي»- «المصالح المرسلة» و»شرع من قبلنا»؛ وقال: فصارت الأصول عشرين؛ وهذا إنما تلقفه عن القرافي في الفروق.

وقال ابن السبكي: «إن أصول مذهب مالك، تزيد على الخمسمائة؛ قال الحجوي: ولعله يشير إلى القواعد التي استخرجت من فروعه المذهبية. فقد أنهاها القرافي في فروقه إلى خمسمائة وثمانية وأربعين؛ وغيره أنهاها إلى ألف والمائتين؛ كالمقري وغيره». وكلام السبكي فيه مبالغة وإجمال، ويحتاج لتأمل.

وعلى العموم فقد ظلت العلاقات الإفريقية على عهد المملكة المغربية الشريفة حميمية قوية، وفية للتاريخ والمصير المشتركين لهذه الدول الشقيقة. ومن مظاهر عمق العلاقة الروحية بين المغرب وإفريقيا، ما تمت ترجمته في العقود الأخيرة، وجسدته المبادرات التي ربطت الحاضر بالماضي وآخت بين الأشقاء.

وفي عهد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، توالت المبادرات وتعددت الإنجازات بشكل لم يسبق له نظير؛ ويكفي في مجال الصلات العلمية، الإشارة إلى مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.

وهذه الإطلالة على العلاقات المتينة بين الأشقاء الأفارقة، لا يزيدها الزمان إلا قوة ورسوخا؛ وذلك من خلال هذا الثابت الذي اخترته محورا لمداخلتي؛ كأحد القواسم الدينية المشتركة بينها، على أمل أن تتظافر الجهود من أجل تعميق البحث في كل المحاور المبسوطة في هذه الندوة المباركة.

وخلاصة القول، فإن مذهب مالك – رحمه الله – النجم الساطع والنور اللامع، له جذور متجذرة آيلة إلى فقه الصحابة، وأقضية الخلفاء الراشدين، وخاصة أقضية عمر بن الخطاب. ومن ثم، يمكن للمرء أن يجزم بأن فقه الفقهاء السبعة بالمدينة موروث، امتزج فيه النص بالفتوى وبالقضاء، وبالعرف الذي جرى عليه العمل.

وهذا كله يجعل المرء إذا أراد استجلاء حقيقة المذهب المالكي، أن يحيط بهذا الموروث من شتى جوانبه، دراية ورواية، وشرحا وتعليلا. وعليه، فهو محفوظ بأدق موازين الحفظ ووسائله، وفهمه يتطلب معرفة أمرين اثنين:

أولهما: عقلية نصية تدرك منطلقاته، التي هي النصوص بمعناها الواسع.

وثانيهما: إدراك عللها ومقاصدها، التي بدونها لن يفهم شيء من ذلك الموروث.

فإذا صح لنا أن ندعي بالحجة أن مذهب مالك ليس مذهبا فرديا، وإنما هو مذهب جماعي، توالت على تأسيسه واستقلاله فيما بعد أفهام عديدة، أدركنا قيمة هذا المذهب؛ لأن تراكم الأفهام وتواردها على معنى واحد، يجعل المرء مطمئنا.

وجملة القول، فإن مذهب الشافعي ومذهب أحمد ابن حنبل رحمهما الله، ليسا إلا وجها من أوجه المذهب المالكي في أصوله وفروعه.

ذلك أن الإمام الشافعي لم ينبل بين الورى، ولا أشرقت شمسه إلا بعدما أخذ الموطأ سماعا من الإمام مالك، وتتلمذ له، وهو أجل تلامذته، وأجل من روى عنه الموطأ. والقصد بهذا كله، أن نعرف مدى تأثر الشافعي بمالك في أصوله وفروعه، التي بنى عليها مذهبه. فيصح أن نجزم، بأن مذهبه ما هو إلا امتداد لمذهب الإمام مالك.

ومن جهة أخرى، فإن الإمام أحمد بن حنبل هو الآخر من أجل تلامذة الشافعي، وأكثرهم ملازمة له، وأخصهم به. وكان من شدة إعجابه به، يقول: ما كنا ندري ما الكتاب والسنة، حتى سمعنا من الشافعي الكتاب والسنة والإجماع.

فإذا كان فقه الشافعي لم يؤل إلى أفضل من الإمام أحمد، فمعنى ذلك أنه أقام غالب مذهبه على مذهب الشافعي؛ والشافعي أقام غالب مذهبه على مذهب مالك؛ فصح أن هذين المذهبين يرجعان إلى فقه مالك، الراجع إلى فقه أهل المدينة النبوية.

ثانيا: الرد على من قال بأن مالكا لم يدون الأصول التي بنى عليها مذهبه

من ساقط القول وسفسطته أن يقال: إن الإمام مالكا لم يدون الأصول التي بنى عليها مذهبه. كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بقوله: والحق أن الإمام لم يصرح بأنه التزم فيما كان يستنبطه من أحكام أصولا وقواعد، اعتمدها أساسا في الاستنباط والاستنتاج، إلا ما يفهم من صنيعه في اعتماده على الأصلين، وعمل أهل المدينة، وما يستشف من عمله في الموطأ، من أنه كان يعتمد أحيانا على القياس، إلا أن عمله هذا يبقى دون إعطاء منهجية واضحة المعالم تنهض دليلا على ما ذهب إليه ابن العربي في «القبس»، وعياض في «المدارك».

ومن ثم، يجوز القول: إن ذلك يبقى من عمل أتباعه الذين جاءوا إلى الفروع فتتبعوها ووازنوا بينها، فاستنبطوا منها ما صح لديهم أنه دليل قام عليه الاستنباط؛ فدونوا تلك الأصول، وأضافوها إلى الإمام مالك تساهلا، فقالوا: «كان مالك يأخذ بكذا، ويستدل بكذا»، وهي كما علمت- ليست أقوالا رويت عنه، وإنما هي عمل أتباعه الذين حددوها بناء على ما فهموه من طريقته في استنباط الأحكام.

ولعل هذا الكلام يحتاج إلى أزمة تضبطه؛ لأن أول ما يؤخذ عليه، أنه قلب الأمر الطبعي رأسا على عقب، إذ كيف يقبل ساذج، فضلا عن ذكي، أن يكون مذهب فقهي قائم على أصول لم ينص عليها صاحبها، ولا أرشد إليها؟

وكأنا بالقائل يريد من الإمام مالك أن يقول له بصريح العبارة: «قد بنيت مذهبي على كذا وكذا، وراعيت قاعدة كذا وكذا، ولم أراع قاعدة كذا».

فمثل هذا الأسلوب يستعمل مع العوام والسذج، أما الأذكياء، فهم في غنى عن هذه السطحية.

فإذا كان الإمام مالك لم يدون أصوله، فماذا دوّن في الموطأ، وهو كتاب تمحض للرواية لم يشب بشيء من الفقه قط؟ والمعلوم لدارسي الموطأ- بل هو مجمع عليه- أن الموطأ كتاب حديث وفقه، والفقه لابد له من أصول يستنبط منها.

ومالك رحمه الله لم يقصد من تأليف الموطأ إلا تمهيد طرائق الفقه، وبيان دلائله، ومسائل استنباطه، وبذلك يكون أول كتاب مدون في الحديث، وفي الفقه وأصوله.

وأي فرق بين التصريح بأن هذه أصول اعتمدتها في الاستنباط، وبين ممارستها عمليا، وتكريرها، والتأكيد عليها؛ فمن يفرق بين الأمرين، فهو كمن يفرق بين السنة القولية والفعلية، وينكر هذه الثانية.

وعلى العموم، فلا شك في أن الإمام مالك– رحمه الله– ليس من أصل موضوعه التصدي لتعريف أصول مذهبه، وتحقيق الآراء الأصولية، واستيعابها في مجالسه، وإنما هي جزئيات فقهية وأصولية توجد متناثرة في مصنفاته، ومن بين طيات عباراته، تعرض لذكرها عند احتياجه إليها للمناقشة في الفقهيات.

فعياض؛ وابن العربي، أقعد بمذهب مالك وأعرف بخباياه، وأحوط بزواياه من القائل الذي لو درس الموطأ بعناية لعدل عن رأيه.

ولولا أن مثل هذه الأقاويل تعلق بأذهان بعض طلبة العلم، لكان إسقاطها وعدم حكايتها أجدى، ولكن لما سطرت وقررت في مؤلفات أصحابها، تعين بيان بطلانها.

فإذ تقرر بالدليل القطعي أن مالكا- رحمه الله- أصل أصولا في موطئه وفي فتاواه عليها يسير في الاستنباط والاستدلال، فما عدد هذه الأصول؟ وكيف رتبت عند مالك؟ وماذا يلحظ منها بكثرة؟ وماذا يستعمل منها بقلة؟

وبالرجوع إلى نقطة البداية، فإننا نتلمس أن الإمام مالك– رحمه الله- قد ألمح إلى بيان الأصول التي بنى عليها مذهبه، وإلى تقسيمها إلى قسمين؛ وذلك فيما رواه عنه ابن وهب (ت.197ﻫ)، ونصه: «قال لي مالك: الحكم الذي يحكم به بين الناس حكمان؛ ما في كتاب الله أو أحكمته السنة، فذلك الحكم الواجب الصواب، والحكم الذي يجتهد فيه العالم برأيه، فلعله يوفق»[7].

وقد اشتمل هذا النص على نوعين من الأدلة، ففي قوله: «ما في كتاب الله، أو أحكمته السنة»؛ إشارة إلى الأدلة النقلية من كتاب أو سنة أو ما يلحق بهما. وفي قوله: «والحكم الذي يجتهد فيه العالم برأيه، فلعله يوفق»؛ إشارة إلى الأدلة العقلية.

خصائص ومميزات المذهب المالكي والدراسات التي تناولت أصول المذهب المالكي

أولا: خصوصيات المذهب المالكي كثابت من ثوابت المملكة الشريفة على مستوى أصول فقهه.

يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول فقهه بعدة مزايا وخصوصيات، من أهمها:

1– وفرة مصادره وكثرة أصوله، المتمثلة في: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وعمل أهل المدينة، والقياس، والاستحسان، والاستقراء، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، والأخذ بالأحوط، ومراعاة الخلاف.

بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها، والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف ومائتي قاعدة، تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته.

هذه الكثرة، أغنت الفقه المالكي، ومنحته قوة وحيوية، ووضعت بين أيدي العلماء من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد، ويمكنهم من ممارسته، ويسهل عليهم مهمته.

2– تنوع هذه الأصول والمصادر، حيث إنها تتراوح بين النقل الثابت، والرأي الصحيح المستمد من الشرع، والمستند إليه؛ كالقياس.

هذا التنوع في الأصول والمصادر، والمزاوجة بين العقل والنقل، والأثر والنظر، هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن غيره، وهي سر وسطيته وانتشاره، وبالتالي الإقبال الشديد عليه، وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.

3– توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا، مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد، عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط.

4– رحابة صدره وانفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية، والشرائع السماوية السابقة، واعترافه بالجميع، واستعداده للتعايش معهم، والاستفادة منهم، بفضل قاعدة «شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ»؛ التي اتخذها مالك أصلا من أصوله، التي بنى عليها مآله، وأسس عليها فقهه.

5– قابليته للتطور والتجديد ومواكبة العصر، في ظل الشريعة الإسلامية، وتحت مراقبتها، وداخل إطارها الفقهي. وقد أثبتت التجربة المغربية نجاعة هذا الأسلوب وفائدته في فقه العمليات، أو ما يعرف «بما جرى به العمل».

6– المرونة في معالجة كثير من القضايا الشائكة والحالات المستعصية، والعمل على حل المشاكل الطارئة، بفضل مبدأ مراعاة الخلاف، الذي اتخذه أصلا من أصوله الفقهية، التي بنى عليها فقهه.

7– السماحة والتيسير في أحكامه وآرائه، رائده في ذلك الكتاب والسنة، وما استنبط منهما، للوصول إلى أيسر الحلول، وأخف الأحكام وأسهلها.

8– الوسطية والاعتدال في أحكامه ومواقفه وفي أصوله وفروعه. لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تشديد، ولا غرابة ولا شذوذ، ولا جمود ولا تعقيد، ولا تمرد ولا تكفير.

9– البعد المقصدي؛ لأنه أعمق المذاهب الفقهية فهما لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وأبعدها نظرا واعتبارا لمآلاتها. وأكثرها التزاما بمراعاة حكمها وأسرارها عند استنباط الأحكام من نصوصها، وتفريع الفروع عليها، وخاصة فيما يتعلق بالضروريات.

10– البعد العلمي والمعرفي بنصوص الشريعة الإسلامية وروحها، كما يؤخذ من الحديث الشريف: «فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة».

11– البعد الاجتماعي والمصلحي في توجهاته وأحكامه، بفضل اتخاذه المصالح المرسلة والعادات الحسنة أصلا من أصوله الفقهية، ومصدرا من مصادره التشريعية، التي بنى عليها فقهه.

12– المنطقية والعقلانية والواقعية في أحكامه؛ لا تجد فيه ما يناقض العقل السليم، أو يخالف المنطق الصحيح. كما أن نوازله وفروعه في مختلف الأبواب، موضوعاتها تتراوح بين ما هو واقع، وما يمكن وقوعه.

لكل ما ذكر، تفاعل المغاربة مع مذهب يحمل كل هذه الخصائص. وقد وسم شخصيتهم الجماعية بهذا الوسم، وجعل من فهمهم للدين وتدينهم به، وتنزيله على واقعهم بمختلف تمظهراته، رافدا وحاملا نحو هذا الأفق الديني السني، الذي أصبح العام والخاص يتبنى تميزه، ويطلعون من خلاله على: إسلام الجمال والتسامح والإخاء.

ثانيا: الدراسات التي تناولت أصول المذهب المالكي.

يمكن تصنيفها بحسب قصد أصحابها إلى نوعين:

أولا: دراسات عامة.

وهي دراسات شاملة لأغلب جوانب أصول المذهب المالكي، حيث تناولت جميع الأصول بالدراسة والتحليل، مع تفاوت بينها، ومنها:

أ- إيصال السالك إلى أصول مذهب مالك، للولاتي.

ب- الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، للعلامة حسن المشاط. حققه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان.

ج- الفكر السامي في تاريخ التشريع الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الفاسي.

د- مالك بن أنس، حياته وعصره وآراؤه وفقهه، لأبي زهرة.

ﻫ- المدخل إلى أصول الفقه المالكي، للدكتور محمد المختار ولد اباه.

و- أصول مالك في الموطأ، للأستاذ عبد العزيز الناصر.

ز- أصول المذهب المالكي وقواعده، للدكتور عمر الجيدي.

ح- أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، للدكتور محمد رياض.

ط- مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني، للدكتور محمد بلتاجي.

ثانيا: دراسات متخصصة.

وهي دراسات اعتنت ببيان بعض الأصول في المذهب المالكي، ومن بينها:

1 – دراسات تناولت الأصول المتعلقة بالأثر والنظر، أو الأصول التي انفرد بها المذهب المالكي واشتهر، ومنها:

أ = أصول فقه مالك النقلية – د/ عبد الرحمن الشعلان؛ دكتوراه بالرياض.

ب = الأدلة العقلية عند الإمام مالك بن أنس – ذ/ فاديغا موسى؛ ماستر بالرياض.

ج = الأصول التي اشتهر انفراد إمام دار الهجرة بها – د/ فاتح زقلام؛ الشريعة والقانون- مصر.

2 – دراسات اختصت بدراسة أصول معينة، فأفردتها بالبيان والتحليل، ومنها:               

أ = الاستدلال بعمل أهل المدينة عند الامام مالك وموقف الفقهاء منه – د/ عمر الجيدي.

ب = المصالح المرسلة في المذهب المالكي وبقية المذاهب – د/ يوسف الكتاني.

ج = الاستصحاب وأثره في الفروع الفقهية – ذ/ الخضر علي إدريس.

د = المصالح المرسلة – الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي.

ﻫ = العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب – د/ عمر الجيدي.

و = عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين- د/ أحمد أنور يوسف.

ز = خبر الواحد إذا خالف عمل أهل المدينة – ذ/ حسان فلمبان.

ح = قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي- د/ هشام البرهاني.

ط = قاعدة مراعاة الخلاف – ذ/ صالح السندي.

وجملة القول: يلاحظ المستقري أن أصول المذهب المالكي، لا تختلف عن أصول المذاهب الأخرى، من حيث الأسس والقواعد؛ قد تختلف التسميات، فالاستحسان عند مالك يختلف في مفهومه عن مفهوم الاستحسان لدى أبي حنيفة.

فهو عند الإمام مالك يعني المصلحة، وكلمة الاستحسان عند «مالك» تعني حكم المصلحة عند عدم وجود نص شرعي، ولهذا فقد كان مالك يترك القياس إذا خالف المصلحة الملائمة لمقاصد الشارع.

ومن هنا نلاحظ، أن طريقة عرض أصول المذهب، تختلف بين فقيه وآخر؛ فالبعض يعرضها مفصلة، والبعض يقسم الأصول بحسب مصادرها. ولهذا، فإن الإمام الشاطبي، قد لخص أصول مالك بأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والرأي.[8]

وليس هناك خلاف حول هذه المصادر والأصول، إلا أننا نلاحظ اختلافا في مفهوم هذه الأصول ودلالاتها.

فالرأي عند الإمام مالك يشمل كل ما يثبت عن طريق العقل؛ كالاستحسان، والمصلحة، والعرف، والاستصحاب، وسد الذرائع.

أما عمل أهل المدينة وأقوال الصحابة، فلا يعتبره من الرأي، وإنما يعتبره من السنة؛ لأن أقوال الصحابة أو عمل أهل المدينة، لابد من أن يكون معتمدا على دليل؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يقول بحكم دون أن يستند إلى رواية سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا، فقد يقدم قول الصحابي على القياس، وأحيانا على خبر الآحاد.

وكان مالك يأخذ بعمل أهل المدينة ويعتبره حجة[9]، ويقدمه على الخبر والقياس؛ لأن عمل أهل المدينة يعبر عن العمل الذي كان قائما في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم انتقل بعد ذلك إلى الأجيال اللاحقة، وهو أكثر دلالة على الحكم من الخبر والقياس. وكان يخالف الفقهاء الذين كانوا يخالفون ما عليه العمل في المدينة، وقد أرسل رسالة إلى «الليث بن سعد» فقيه مصر قال له فيها: «بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت- في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدنا وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك- حقيق بأن تخاف على نفسك وأن تتبع ما ترجو النجاة باتباعه. فإنما الناس تبع لأهل المدينة التي بها نزل القرآن»؛ ثم قال: «فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه»

وقد رد الليث عليه برسالة قال فيها، بأن الناس تبع لأهل المدينة الذين مضوا، لأن القرآن نزل بين ظهرانيهم، أما بعد أن خرج الكثير من السابقين في الجهاد وتفرقوا في الأمصار، واختلفوا في أمور كثيرة، فلم يعد ما عليه أهل المدينة مصدرا، يترك لأجله الخبر والقياس.[10]

من تعريف مفردات أصول المذهب المالكي، يمكن الوصول إلى التعريف المركب، فنقول: «أصول المذهب المالكي؛ هي مصادر الاستنباط التي تستقى منها الأحكام الفرعية، وطرائق الاستدلال، وفق منهج الإمام مالك بن أنس، الذي حدده أصحابه من بعده.

مصادر معرفة أصول الإمام مالك

البحث عن أصول مذهب ما، تجده غالبا فيما يكتبه الإمام بنفسه؛ كالشافعي الذي بين أصوله في كتابه «الرسالة». أما إذا لم يدون الإمام أصوله بنفسه، كالإمام مالك، فإنك تجد الحديث عن أصوله فيما يكتبه عنه أتباعه؛ كابن القصار، وأبي الوليد الباجي، والمازري، وابن العربي، وغيرهم.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الهوامش

[1] – القبس في شرح موطأ مالك بن أنس- ابن العربي– 2/683؛ المسالك في شرح موطأ مالك بن أنس- 5/436.

[2] – نوازل ابن هلال- 8 ملزمة 29.

[3] – ترتيب المدارك- 1/89.

[4] – ترتيب المدارك- 1/94؛ الديباج المذهب– ابن فرحون– 1/16.

[5] – الموافقات- 4/150؛ شرح التحفة- مخطوط رقم 9856- لوحة 2.

[6] – شرح تنقيح الفصول، ص:445.

[7] – جامع بيان العلم وفضله- 2/25؛ البيان والتحصيل– 2/25.

[8] – الاعتصام– الإمام الشاطبي– 2/141.

[9] – تاريخ المذاهب الإسلامية– الشيخ محمد أبو زهرة– 2/216.

[10] – مناهج الاجتهاد في الإسلام- د. محمد سلام مذكور، ص: 634.

كلمات مفتاحية : ,