مصطلح السلفية: التحول الدلالي وعلاقته بالمرجعية الفكرية

مصطلح السلفية: التحول الدلالي وعلاقته بالمرجعية الفكرية

سعيد بيهي رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الحي الحسني بالدار البيضاء - المملكة المغربية
سعيد بيهي رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الحي الحسني بالدار البيضاء – المملكة المغربية

ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 2829 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 78 نونبر 2018م بمدينة مراكش.

تمهيد

كان مصطلح السلفية عبر التاريخ يحمل شحنة عاطفية تدغدغ الوِجْدَان، وتدفع إلى انعطاف الجَنَان، وذلك بسبب ما يُوحِي به مِن شريف الانتساب إلى السلف الصالح الذين يمثلون الأنموذج الأمثل في التدين، ولذا مَنْ مِنَ الأمة لا يحب أن ينتسب إلى أولئك السلف؟!!، فهذا صاحب جوهرة التوحيد لم يكن يتصور أن يأتي زَمانٌ يُحرم فيه بنوعٍ من الإقصاء مِن شرف ذلك الانتساب بسبب أشعريته، وهو القائل:

فكل خَيْرٍ في اتِّباعِ مَنْ سَلَف   وكل شَرٍّ في ابْتِداعِ مَن خَلَفْ[1]

لقد صارت السلفية تحمل نَفَساً إقصائيا لاعتقاد انحصار الحق في مرجعيتها، وتَعَيُّنِ الانتساب إليها، والقَبُولِ مِمَّن انتسب إليها كما قال ابن تيمية: « لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه واعتزى إليه؛ بل يجب قبول ذلك منه، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلا حقاً »[2]، وحيث إن الأمر كذلك فإنهم يُحَاكِمُون كل من لم ينتسب إليها بمخالفته للسلف الصالح، ومِن ثَمَّ لمنهج أهل السنة والجماعة الذي يمثل دون غيره مسلك الطائفة المنصورة؛ قال ابن تيمية: « فعُلِم أن شِعارَ أهل البدع: هو تَرْكُ انْتِحال اتِّباعِ السلف» [3]، بل ويُحاسبون حتى من ينتسب إلى السلفية عند مخالفته لاختيارات معينة بزعم أن انتسابه مجرد ادعاء، حتى آل بهم الأمر إلى اعتقاد أنه انتساب لم تتحقق بحقيقته إلا فئة محدودة؛ بحيث يُخرجون منها – في جرأة عجيبة – غالبية علماء الأمة، ومن هنا توالت رسائلهم حتى الجامعية منها في بيان الأخطاء العقدية بزعمهم لكبار العلماء ممن لهم قبول عام في الأمة!!

ولما تحولت السلفية إلى مصطلح مُشْكِلٍ بسبب صيرورة ما يُدَّعى مِن مدلولاتها معياراً لمنهج التدين الحق؛ فقد تعينت ضرورة البحث عن حقيقة مدلولاتها تلك؛ هل هي مدلولات موضوعية يمكن أن يُسَلِّم الجميعُ بها؛ بحيث يُؤَسَّسُ عليها فهم الشريعة والعمل بها تَأْسيساً يمكن أن ينضبط حتى وإن لم يُلْحَظ انضمام مناهج الفهم التي استقر عمل أهل العلم عليها، والتي اقتصرت على الاحتجاج بإجماع السلف دون أقوال أفرادهم لاختلافهم وعدم عصمتهم؟! أم أن هناك عناصر ذاتية تدخلت في مدلولاتها عبر مراحل من التحول التاريخي؛ بحيث صارت تُمَثِّلُ في صورتها الأخيرة التي استقرت عليها اختياراتٍ لا صلة لها بالسلف أنفسهم، اختياراتٍ تختلف من زمن إلى آخر بحيث تَضيق أو تَتَّسِع مَشْمولاتُها؟

إن مصطلح السلفية بمدلولاته المعاصرة التي لحقتها معانٍ بواسطة الاختيار عبر محطات تاريخية محددة؛ لم يكن معيارا في يوم من الأيام تنضبط به أفهام أهل العلم، إلا ما كان من فئات محدودة تَحَوَّل اختيارُها ذلك إلى مسلك عام في التدين نتيجة قوة الترويج من جهة، وغفلة ورثة مناهج العلماء من جهة أخرى.

السلفية والتحول المرجعي الإقصائي

إن السلفية لغة مصدر صناعي اشْتُقَّ من اسم السَّلَف للدلالة على الخصائص الموجودة في ذلك الاسم الذي أُخِذَت منه؛ خصائص يُمكن تَلَمُّسُ ما يعنينا منها في معاني مادة سلف التي ترجع جميعها إلى معنى ما تَقَدَّم ومَضى؛ يقول ابن فارس: «السين واللام والفاء أصل يدل على تَقَدُّمٍ وسَبْقٍ؛ مِن ذلك السَّلَف: الذين مضوا، والقوم السُّلَّاف: المتقدمون، والسُّلَاف: السائل مِن عصير العنب قبل أن يُعْصَر، والسُّلْفَة: المُعَجَّل مِن الطعام قبل الغَذاء» …[4].

أما اصطلاحا فقد صار اسم السلف يُطلق على القرون الثلاثة الأولى من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين الذين يحصل الشرف بالانتساب إليهم؛ قال السمعاني ت 562: «السَّلَفي – بفتح السين واللام وفي آخرها فاء – هذه النسبة إلى السلف وانتحال مذاهبهم على ما سُمعت منهم»[5]، وهو معنى مُسْتَفادٌ مِن قول النبي ﷺ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»…[6]، وهو معنى مشترك بين أتباع المدارس السنية من أثرية وأشعرية وماتريدية[7]، والذين قال فيهم العلامة محمد السفاريني الحنبلي: « أهل السنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي» [8].

غير أن السلفيين المعاصرين لم يكتفوا بذلك المعيار الزمني الذي هو القرون الثلاثة الأولى؛ حتى شفعوه بمعيار إضافي فيه من الإجمال ما يُساعدهم على احتكار الانتساب للسلف بحسب ما يَتَمَثَّلُونَه مِن مناهجهم؛ بحيث يُخْرجون مَن سِوى المدرسة الأثرية بحسب تصورهم لها؛ فيجعلون السلفي هو من التزم الطريقة التي كان عليها السلف بشرط أن لا يكون مِمَّن رُمِيَ ببدعة أو شُهِّر بِلَقَبٍ غيرِ مَرْضيٍّ[9]، والتي تصدق عندنا جميعا على الخوارج والروافض والمعتزلة والمرجئة…، وتصدق عندهم وحدهم على الأشعرية والماتريدية والصوفية كذلك بدعوى مخالفتهم لمناهج السلف بناءً على اختيارات معينة ادُّعِيَ أنها مذاهب للسلف.

ورغم أن تعريفات السلفيين لـلسلفية تتفق على أنها يُراد بها: «العودة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف»، إلا أن تَمَثُّلاتِهم لـها متفاوتة تفاوتا عظيما بسبب اختلافهم في المرجعية التي يزعم كل فريق أنها تمثل المنهجية السلفية؛ ما بين سلفية علمية تحمل مشروعا علميا في قضاياه ومناهجه وأعلامه آل بها إلى نسبة أعلام الأمة إلى الانحراف عن مناهج السلف في قضيتي التوحيد تجريدا والمتابعة إخلاصا بما هما أساس الدين المحقق لمعنى الشهادتين…، وسلفية تصنيفية اشتغلت بتصنيف الناس من خلال بيان مدى قربهم أو بعدهم عن الالتزام بالمنهج السلفي كما تتصوره هي؛ بِحَيْث تَحَوَّل غُلواؤُها ذلك إلى الطعن في غالبية العلماء حتى ممن ينتسبون للمنهج السلفي، وسلفية صَحْوِيَّة  مزجت بين المنهج السلفي في قضايا الاعتقاد والمنهج، وبين مناهج الإخوان المسلمين في الحركة والدعوة شعارها «سلفية المنهج، عَصْرِيَّةُ المُواجهة»…، وسلفية جهادية توسلت بالقوة التي تسميها جهاداً، مُنازَلَةً لمن تعتقد كفرهم ورِدَّتَهُم مع اختيارِ تَغْليبِ عَدَمِ عذرهم بالجهل؛ خاصة حكام المسلمين لعدم حكمهم بالشريعة، بل سرى تكفيرها للحكام إلى سائر الرعية بدعوى رضاهم؛ فتحولت بلدان المسلمين في رؤيتها إلى دار حرب وجهاد تجري فيها عمليات التفجير بعد التكفير.

إن السلفية في واقع الأمر ليست سلفية واحدة بل هي اختيارات منهجية مختلفة تمثل سلفيات متعددة، ولذا فمصطلح السلفية لا يدل بالضرورة على أن من يحملونه يتبعون السلف الصالح؛ ذلك لأنه مصطلح وإن حصل توافق السلفيين على الاعْتِزَاءِ إليه إلا أن اختلاف المنتسبين إليه في تَمَثُّلِه بسبب اختلافهم في مركزية القضايا التي يُؤَسِّسُون عليها اختياراتهم – جهاداً كانت أو حَرَكِيَّةً أو تَصْنيفاً… -، وما تَسْتَتْبِعُه مِن طريقة النظر إلى غيرها من القضايا المؤسسة للمنهج زحزحة لها عن موقع المركزية؛ يجعلنا أمام منظومة مرجعية غير متجانسة في الفكر وفي القيادات العلمية التي تمثلها، منظومة أصحابها مختلفون في مدلول السلف، مخالفون لحقيقة ما عليه السلف، وإن كانوا متفقين في مرجعية الإقصاء لكل من خالفهم، بل امتد به الأمر إلى أن يرمي بعضهم بعضا بالبدعة المغلظة إرجاءً أو خوارجية…

إلا أنهم رغم اختلافاتهم وتناقضاتهم العلمية تمكنوا من تحويل شعار السلفية إلى معنى عاطفي يسهل معه حشد الأتباع، حشداً يُلْحَظُ فيه أنه لا ولاء إلا ببراء؛ أي لا ولاء عندهم لمناهج السلف إلا بالبَراءِ المُحَقِّقِ لإقصاء المخالفين، ومِن ثَمَّ مُفاصَلَتِهم بالهَجْرِ في صُورةٍ تُعَمِّقُ الفُرْقَةَ في الأمة؛ فأشبهوا في ذلك أهل التَّشَيُّع في جعلهم مصطلح آل البيت شعارا يحشدون به الأتباع حَشْداً يَشْتَرِطُ البَراءَةَ مِن سائر الصحابة لتصح لهم موالاة أهل البيت؟!!

إن السلفية الإقصائية انطلقت أولا مِن معيار مَطَّاطٍ يتمثل في التحديد الزمني لمفهوم السلف، التحديدِ المحصور في القرون الثلاثة الأولى، لكنها لما رأت أن السلف ليس لهم فهم واحد للكتاب والسنّة بل أفهام متعددة؛ بدليل أنه نُقِل عنهم من الاختلاف في مسائل الشريعة ما يشمل قضايا الاعتقاد مسائل ومناهج؛ مَيَّعَت هذا المعيارَ الزَّمَنِي فجعلت المراد بـالسلف مُمْتَدّاً ليشمل مَن بَعْدَ قَرْنِ أَتْباعِ التابعين، وذلك مِن خلال توسيع مفهومه ليشمل «أئمة الدين ممن شُهِد له بالإمامة، وعُرِف عِظَمُ شَأْنِهِ في الدين، وتَلَقَّى الناسُ كلامَهم خَلَفاً عن سَلَف»[10]، امتداداً وصل إلى قرون متأخرة ليدخل فيه مَن شَهِدُوا له بالإمامة لِيُرَشِّحُوه مرجعية قيادية علمية يُعتد بها ويُرجع إليها؛ مثل ابن تيمية ومدرسته، وكذا محمد بن عبد الوهاب ومدرسته كما تدل عليه منهجية تلقيهم واستدلالهم المقتصرة عليهما غالبا، والتي إن تجاوزتهما إلى مَن فَوْقَهُما مِن المدرسة الأثرية خاصة الحنبلية؛ فمن خلال طريقة تَمَثُّلِ ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب لها!!

ولما كان تمييع المعيار الزمني بإدخال مَن ليس مِنَ السلف فيهم سَيُوَسِّع الدائرة مما يُؤْذِن بدخول أعلامٍ آخرين هم أئمة؛ انتقلت السلفية الإقصائية إلى معيار مُضَيِّقٍ يعتمد على الاختيار لقضايا جَعَلَتْها مركزية فيما أَصْطَلِحُ عليه بـمرجعية الفكرة المُنَظِّرَة؛ من مثل ما سمته تجريد التوحيد وإخلاص الاتباع ومقتضياتهما من الولاء والبراء وغيرهما، وما يستتبعه ذلك من الاختيار لزعامات علمية حصرت فيها تَمْثِيلَ المنهج الحق والمُنافَحَةَ عنه فيما أَصْطَلِحُ عليه بـمرجعية الأشخاصِ المُجَسِّدَة؛ بحيث آلت إلى انتقائية تنحصر في ممثلي المدرسة الحديثية خاصة من غُلاة منتسبي الحنبلية تحديدا[11]، وذلك بسبب أن الحنبلية في نشأتها الأولى كانت مذهبا عقديا صرفا انتسب إليه وتَتَرَّسَ خَلْفَهُ مَن يتطلع لتزكية موقفه العقدي؛ بسبب أن صاحبه نافح عن مذاهب السلف في مقابلة انحرافات المعتزلة خاصة في قضية محنة خلق القرآن. ..

المرجعية السلفية الإقصائية؛ مسالك ومضامين

إن انتقائية السلفية الإقصائية في تأسيس مرجعيتها تتم من خلال مسلكين على أساسهما تتصور تحقيق مقتضى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله تجريدا للتوحيد الخالص، وشهادة أن محمدا رسول الله ﷺ تجريدا للمتابعة التامة، ومن خلالهما ستتمكن السلفية الإقصائية من إخراج من تشاء وقتما تشاء، مسلكين اثنين هما:

مسلك البناء العقدي والمنهجي

وذلك بالاقتصار على ما تختاره مِن المسائل والمناهج اعتمادا على تُراث منتسبي المدرسة الحنبلية؛ مثل عبد الله بن أحمد والمروذي والدارمي قبل المائة الثالثة، ثم تلامذتهم كالخلال والبربهاري بعد المائة الثالثة، ثم تلاميذهما كابن بطة العكبري قبل المائة الرابعة، ثم تلاميذه كابن حامد على رأس المائة الرابعة، ثم تلاميذه كالقاضي أبي يعلى الفراء، وهم مِمَّن غَلَبَ عليهم الغلو في الإثبات حتى خرجوا به إلى نوع من التشبيه.

وعلى اتجاههم – الذي يُريد دَمْغَ المدرسة الحنبلية باختياراتِ الكَرَّامِيَّةِ – حَمَلَ العلامة ابن الجوزي الحنبلي في كتابه «دَفْعُ شُبَهِ التَّشْبيه بأَكُّفِ التَّنْـزِيه» ردا على غلوهم؛ حيث قال: « ورأيت مِن أصحابنا مَن تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانْتَدَب[12] للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني؛ فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصِّفاتِ على مُقْتَضَى الحِسِّ »[13]. شَيْنُ مَذْهَبٍ قال فيه أبو محمد التميمي بحسب ما نقله عنه ابن الأثير: « لقد شان أبو يعلى الحنابلة شَيْناً لا يغسله ماء البحار» [14]، ومِن صُوَر شَيْنِه لمذهب الحنابلة ما نقله عنه أبوبكر بن العربي في العواصم؛ حيث قال: « أخبرني مِن أثق به مِن مشيختي أن القاضي أبا يعلى الحنبلي كان إذا ذكر الله سبحانه يقول فيما ورد من هذه الظواهر في صفاته تعالى:« ألزموني ما شئتم فإني التزمه إلا اللحية والعورة»… »[15].

ثم بناءً على الامتدادات التيمية والوهابية لاختيارات غلاة الحنبلية تَمَّ تَرْسيمُ مسلك الإثبات ذلك مُمَثِّلاً للمرجعية السلفية في منهجية التعاطي مع الصفات التي يُقَدِّرُون أن الله وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله ﷺ، منهجية إثبات يلخصون طريقة مقاربتها في لازمتهم المشهورة ألا وهي: «من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل»[16]!!، غير أنها سعت في تطوير تلك المرجعية برفض ما كان عليه أولئك الحنابلة الأوائل مِن طريقة التعامل مع قضايا القبور والتبرك بآثار الصالحين والتوسل بهم[17]؛ فانتقلت من مُساهلتهم فيها إلى اختيار تحريمها وإلحاقها بذرائع الشرك بل بالشرك نفسه، وذلك بسبب إخلالها بـتوحيد الألوهية الذي تحولت عناية امتدادُ الحَنْبَلِيَّةِ التَّيْمِي والوَّهابِي به – باعتباره القضية المركزية في العقيدة – إلى هَوَسٍ؛ إذ لا سلفية بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون توحيد بمفهومه التيمي الذي وسع فيه محمد بن عبد الوهاب في رسائله التي صارت مع رسائل ابن تيمية مراجع لكل الاتجاهات السلفية على اختلافها، مراجع تتوزع على مراحل التحصيل السلفي للعقيدة والمنهج، يُلَخِّصُها السلفي بكر أبو زيد في كتابه «حلية طالب العلم»[18] وهو يبين كيفية الطلب والتلقي قائلا: » وقد كان الطلب في قُطْرِنا[19] بعد مرحلة الكتاتيبِ والأخذِ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحلَ ثلاثٍ لدى المشايخ في دروس المساجد: للمبتدئين، ثم المتوسطين، ثم المتمكنين:

ففي التوحيد: «ثلاثةُ الأُصولِ وأدلتها»، و»القواعدُ الأربع»، ثم «كشْفُ الشُّبهات»، ثم «كتاب التوحيد»؛ أربعتُها للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، هذا في توحيد العبادة.

وفي توحيد الأسماء والصفات: «العقيدة الواسطية»، ثم«الحَمَوية»، و»التَّدْمُرِية»؛ ثلاثَتُها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فـ»الطحاوية» مع «شرحِها» »[20].

ثم يُعتمد تَوَسُّعاً في تقرير معانيها على باقي مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورسائل أئمة الدعوة النجدية من تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده؛ وفي بيان ذلك يقول بكر أبو زيد: » … ويركزون على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، وكتب أئمة الدعوة[21] وفتاويهم، لاسيما مُحَرَّراتهم في الاعتقاد» [22].

إنه تطوير للمرجعية السلفية في المنهجية الفكرية وفي أعلامها؛ تَضَخَّمَ معه من جهة اعتقادُ تَلَبُّسِ جُمهور العلماء المخالفين بالجهل بأصل الدين الذي هو التوحيد الشامل، وذلك بسبب زعم اقتصارهم على توحيد الربوبية الذي تحقق به مشركو العرب وغيرهم، اقتصارا أدى في رؤيتهم إلى تضييع توحيد الألوهية باعتباره غاية بعثة الرسل، مما آل إلى سهولة وقوعهم في الشرك، فكيف بالعامة الذين يتبعونهم؟!!، مع ما رُتِّبَ على ذلك مِن تضخيمِ قضايا القبور – وإن لم يصحبها اعتقادٌ في ربوبية غير الله – بالارتقاء بها من دائرة الفقه إلى دائرة العقيدة، والخَطَأِ في تحديد مفهوم العبادة التي يقع بصرفها لغير الله الشركُ اكتفاءً بالعمل رغم تَجَرُّدِه عن الاعتقاد؛ مما أدى بهم إلى اعتقاد وقوع العالم الإسلامي فعليا تحت أنظار علمائه في الشرك[23]، مع ما رَتَّبُوه على ذلك مِن تَضْخِيمِ موقع العمل من الإيمان بصيرورته إما شطرا؛ أي ركنا في الإيمان، أو شرطا لصحته لا شرطا لكماله فقط؛ بحيث يحصل الكفر بالأعمال شأن مذهب الخوارج لا يختلفون عنهم إلا في تسميته شركا مع أنه ليس بشرك.

كما تضخم معه من جهة أخرى قضية تجريد الاتباع التي تحولت إلى قضية مركزية في التعامل مع قضايا الشريعة من حيث التلقي؛ فصار الاتباع مع لازمه ترك الابتداع في المرجعية السلفية – باعتبارهما من مقتضيات توحيد الحاكمية المستلزم لتوحيد الألوهية – أصلا منهجيا يستدعي ضرورة بناء أحكام الشريعة على الدليل باعتباره هو المُجَلِّي لحكم الله الذي دل عليه الكتاب الكريم وبينته السنة النبوية المشرفة، ومن هنا شعار: «الرجوع إلى الكتاب والسنة» الذي حملته الدعوة السلفية، والذي آل إلى تصور المذاهب بِدَعاً منهجية تُنافي الاتباع والتَّسَنُّن رغم تعلقها بالاجتهاد المشروع في ظنيات الشريعة؛ بحيث صُوِّرَت كأنها تشريع للحكم من دون الله يتخذ أصحابُه الأئمةَ أَرْباباً مِن دون الله؛ فهذا محمد بن عبد الوهاب عَقَدَ في كتابه «التوحيد» بَاباً في تقرير ذلك فقال: « بابُ مَن أطاع العلماءَ والأمراءَ في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله؛ فقد اتخذهم أربابا من دون الله» [24]، ومما أورد فيه قولة الإمام أحمد: «عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته؛ يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ﴿  فَلْيَحْذَرِ اِ۬لذِينَ يُخَالِفُونَ عَنَ اَمْرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌۖ ﴾ [النور: 61]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فَيَهْلِك[25] »[26]، ومما شرحه به حفيده عبد الرحمن بن حسن صاحب «فتح المجيد» قوله: «وقد عَمَّت البلوى بهذا المنكر خصوصا ممن انتسب إلى العلم؛ نصبوا الحبائل فَي الصَّدِّ عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصَدُّوا الناس عن مُتابعة النبي ﷺ وتَعْظيمِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ؛ فمن ذلك قَوْلُهمَ: لا يَسْتَدِلُّ بالكتاب والسنة إلا المجتهدُ والاجتهادُ قد انقطع. ويقول: هذا الذي قَلَّدْتُه أعْلَمُ منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها تَرْكُ مُتابعة الرسول ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتمادُ على قولِ مَن يَجُوزُ عليه الخطأ». ..[27].

إن هذا التـأصيل لأمر الاتباع بِانْسِلَاكِه في أبواب التوحيد من أعظم الأسباب التي جَرََّأت حتى العامة على تَطَلُّبِ الدليل مع خُلُوِّهم من آلاته المؤهلة له، وذلك لتحوله إلى قضية عقيدة يتعبدون لله بها، ويرون خلافها ابتداعا قد يصل إلى عدم تحقيق مقتضيات التوحيد، كما جرأتهم على علماء الأمة الذين سلكوا مسلك التفقه على أساس المذهبية برميهم بأشنع الألقاب مع أنهم إنما راعوا طبيعة العلاقة التلازمية الموجودة بين الاجتهاد في الظني وبين حقيقة المذهب؛ ذلك أن المذهب يتعلق بالظني الذي يستلزم بالضرورة الاجتهاد، اجتهادا سَيَّجَه أهلُ العلم بقواعد منضبطة، ولذا لا يمكن أن ينشأ عن استعماله إلا ما هو مذهب حتى عند السلفيين أنفسهم؛ فما الذي يجعل أخذ مذاهبهم الناشئة عن اجتهادهم أئمتهم اتباعا، ويجعل أخذ مذاهب الأئمة الناشئة عن الاجتهاد اتخاذا للأرباب من دون الله؟!. ..

مسلك الدفع العقدي والمنهجي

وذلك بدفع السلفية الإقصائية لما لا تختاره مِن مسائل ومناهج مخالفيها اعتمادا على كتب الردود التي ألفها الخصوم خاصة ممن لا يُؤتمنون على النقل الموضوعي للمذاهب؛ فاضطلعت بالقيام بما تراه ضرورة محاربة الشرك ومظاهره، والتي آلت بها إلى إحياء مسلك الخوارج في استحلال دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ومحاربة الابتداع بعد توسيع مفهومه اعتمادا على أصل الترك وغيره، توسيعا آل إلى اندراج كثير من القضايا التي قرر مشروعيتها أهل العلم في دائرة البدع بما في ذلك المذهبية الفقهية التي لم تر فيها مَسْلَكَ انْضِباطٍ دارجٍ للعلماء في التفقه والتعليم والإفتاء، وإنما تشريعا من دون الله يُخِلُّ بتجريد الاتباع.

وبناءً على ذلك الاختيار نشأت الانتقائية التي بُنِيت بها المرجعية السلفية، والتي يؤسسون لها بالقولة المأثورة: « ليس أحد بعد رسول الله ﷺ إلا يُؤخذ من قوله ويترك »[28]، والتي على أساسها يُضْفُون الحُجِّية متى شاؤوا على أقوال بعض من يُلحقونهم بالسلف بحسب معاييرهم تلك، وينزعونها عنهم متى شاؤوا، فهذا الإمام الطحاوي الذي احْتَفَوْا بعقيدته عُقودا من الزمن – شرحا ونظما – لما واجهتهم بعض أقواله الصريحة في رد اختياراتهم رموه بالتأثر بمناهج أهل الكلام المذموم، وهكذا يصنعون حتى مع الأئمة الذين لهم قبول عام في الأمة؛ مِن مثل ما حصل مِن إخراجهم للإمام أبي حنيفة التابعي الذي له ذلك القبول من دائرة السلف بدعوى تلبسه ببدعة الإرجاء إلى درجة الزعم بأنه يرى أن إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحد!!، ورميه برد حديث الرسول ﷺ اعتمادا منه على الرأي المجرد…، ولذا فإنه ما وُلِد أضر على الإسلام منه، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى رميه بالكفر…؛ مما امتلأ به مِن الوَقيعَةِ الشنيعة كتاب «السنة»[29] لعبد الله بن أحمد بن حنبل باعتباره أحد أهم مراجع الاتجاه السلفي المتأخر.

إنها انتقائيةٌ عَرَفَ معها مصطلح السلفية تطورا في دلالاته عبر تاريخ الاستعمال بين مُوَسِّعٍ لمدلوله، وبين مُضَيِّقٍ له بحسب فترات من التاريخ أُبرزت فيها قضايا معينة صارت مَحَلَّ نَظَرٍ أكثر من غيرها…، فنشأت مرجعية فكرية سلفية جديدة لها أعلامها المميزون عن أعلام الأمة، مرجعية لا صلة للسلف بها، تأسست على مدلولاتها تلك قضية الولاء والبراء، والتي جَرَّأَت على مفاصلة أهل العلم بهجرهم والطعن فيهم بدعوى بيان ما هم عليه من الانحراف تحذيرا للأمة من الانجرار وراءهم، مفاصلة أدت إلى صيرورة السلفية خنجرا مسموما في خاصرة جسم الأمة تُوالي فيه الضَّرَبَات وتُثْخِنُ فيه الجِراحات…

هذا وإن مقاربة مصطلح السلفية بإبراز ما حصل في واقع أمرها مِن التَّحَوُّلِ في مضامينها لا صلة له بإقصاءٍ لأي جهة، كما لا صلة له بتجريح مَن يَتَلَبَّسُ بتلك المضامين من فضلاء العلماء المؤهلين بسبب تأويلٍ قد يُعْذَرُون به، وإنما هو تجلية للحقيقة التي تدعو الحاجة إليها قياما بما أوجب الله على عدول العلماء مِن نَفْيِ الآفات التي تُفْسِدُ مناهج التدين كما أخبر عنها النبي ﷺ بقوله: « يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِن كل خَلَفٍ عُدولُه؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[30].

وقد يشتمل ذلك الواقع على أمور قادحة حصل التَّلَبُّسُ بها فعلا؛ فيكون نقلها بالوصف – باعتبار طبيعته التابعة لا المتبوعة – كاشِفاً عن واقع موجود، وليس مُنْشِئاً لأمر مفقود، ولذا فالبحث ينبغي أن ينصب على التحقق من حصول تلك التحولات في المسيرة السلفية أم لا؟ فإن ثبت حصولها لا يقع اللوم على الوصف الكاشف عن ذلك الحاصل في الواقع، وإنما يقع اللوم على نَفْسِ التَّلَبُّسِ بذلك الوصف القادح ما دامت شواهد الواقع المتكاثرة قائمة على حصوله، وما دامت المقاربة تَتَقَيَّدُ بالموضوعية في الوصف؛ بحيث تحرص على نقل الواقع على ما هو عليه في نفس الأمر دون تَزَيُّدٍ.

الهوامش

[1] تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص 566.

[2] مجموع الفتاوى 4/149.

[3] مجموع الفتاوى 4/155.

[4] معجم مقاييس اللغة 2/567.

[5] الأنساب 3/273.

[6] البخاري رقم 2652، ومسلم رقم 2535.

[7] ينظر شرح جوهرة التوحيد للصاوي ص 430، وشرح الجوهرة للباجوري ص 343، والسراج الوهاج لصديق حسن خان 10/12، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/20.

[8] لوامع الأنوار البهية 1/73.

[9] ينظر العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية 1/16، وكذا ما قاله الشيخ بكر أبو زيد في كتابه «حكم الانتماء»، ص 90: «وإذا قيل السلف أو السلفيون أو لِجَادَّتِهم السلفية؛ فهي هنا نسبة إلى السلف الصالح جميع الصحابة – رضي الله عنهم – فمن تبعهم بإحسان، دون من مالت بهم الأهواء بعد الصحابة – رضي الله عنهم – من الخلوف الذين انشقوا عن السلف الصالح باسم أو رسم .» …

[10] ينظر العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية لأحمد بن حجر آل بوطامي 1/16.

[11] ينظر كتاب «السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة» لمصطفى حمدو عليان الحنبلي.

[12] أي ظَهَر، وكذا سارع .

[13] دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، ص: 97-99.

[14] الكامل 10/52

[15] 2/283

[16] ينظر المحاضرات السنية في شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين 1/49-82.

[17] ينظر كتاب «التبرك بالصالحين بين المجيزين والمانعين» لعبد الفتاح صالح قديش اليافعي، ص 95 فما بعدها؛ فقد عقد «الفصل السادس في ذكر بعض أقوال أئمة الحنابلة في المسألة»، وعلى رأسهم إمام المذهب أحمد ين حنبل، وكذا «السادة الحنابلة واختلافهم مع السلفية المعاصرة» ص 763 فما بعدها   .

[18] كتاب حلية طالب العلم صار دستوراً لغالبية طلبة العلم السلفيين؛ خاصة بعد شرح الشيخ ابن عثيمين له.

[19] يقصد المملكة العربية السعودية، وقد صارت طريقتها في التحصيل العلمي لمشايخها؛ منهجا عاما لكافة الاتجاهات السلفية في العالم لا يكادون يخرجون عنه، بل يتنافسون في التزامه والانتساب إليه.

[20] حلية طالب العلم، ص 28.

[21] يقصد رسائل أئمة الدعوة النجدية التي جمعت في كتاب «الدرر السنية في الأجوبة النجدية»، وهي من المراجع المعتمدة خاصة في المسائل الاعتقادية والمنهجية.

[22] حلية طالب العلم، ص 29.

[23] يُنظر ما ذكره ابن غنام في تاريخه خاصة قسم الغزوات منه، وكذا ما ذكره عثمان بن بشر في «عنوان المجد في تاريخ نجد»، وما اشتملا عليه من تقرير خروج «المسلمين»!! الذين هم أتباع محمد بن عبد الوهاب في غزواتهم المشهورة لقِتَالِ «المشركين»!! في جزيرة العرب مع أنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويستقبلون قبلتنا ويذبحون ذبيحتنا، واسْتِحْلالِ دمائهم وأموالهم ونسائهم بدعوى ارتكاسهم في الشرك.

[24] كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ص 451.

[25] أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى رقم 97.

[26] كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد، ص 454.

[27] فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، ص 455.

[28] جامع بيان العلم وفضله لا بن عبد البر2/926.

[29] ينظر كتاب «السنة »1/184-210.

[30] رواه البزار مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر 1/122-    123، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص: 82، والحديث مشهور صححه الإمام أحمد شرف أصحاب الحديث ص: 29، وابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم 1/308 ،وهو حسن لغيـره لاعتضاد طرقه بعضها ببعض.

كلمات مفتاحية :