ليلة القدر: فضلها وميقات رجائها وكيف نحييها في الظرفية الاستثنائية زمن كورونا؟

ليلة القدر: فضلها وميقات رجائها وكيف نحييها في الظرفية الاستثنائية زمن كورونا؟

ليلة القدر فضلها وميقات رجائها وكيف نحييها في الظرفية الاستثنائية زمن كورونا
ليلة القدر فضلها وميقات رجائها وكيف نحييها في الظرفية الاستثنائية زمن كورونا

ليلة القدر فضلها وميقات رجائها وكيف نحييها في الظرفية الاستثنائية زمن كورونا

الدكتور محمد التمسماني، عميد كلية أصول الدين بتطوان.

الحمدُ للهِ الذِي تفضل علينا بِمواسم الخيرات، وأكرمنا بالليالي العشر الأخيرة المباركات، وخصها بليلة القدر فجعل قيامها مكفرا للذنوب والسيئات، وأشهد أن لاَ إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه المبين ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾، والقائل ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ والصلاة والسلام على الهادي الأمين سيدنا محمد القائل فيما صح عنه: ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه [1]“.

فإن من أعظم الفرص: الحرص على العشر الأواخر من رمضان. وذلك لما اشتملت عليه من فضائل جليلة، وأجور وفيرة؛ حري بكل مسلم أن يغتنمها، اقتداء بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان عليه الصلاة والسلام يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر. ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله [2]“. وعن عائشة رضي الله عنها: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره [3]“.

وإن أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه في هذه العشر: التماس ليلة القدر، ومن المقرر لدى علمائنا: أن أفضل اعتكاف ما كان في العشر الأواخر وذلك لأجل طلب ليلة القدر. لاختصاص العشر بها.

يؤيد ذلك ما جرى عليه العمل في المدونات الفقهية، حيث يوردون الاعتكاف عقب كتاب الصوم، أو يختمونه بها. وكل ذلك لمعنى: طلبها.

ليلة القدر من شعائر الإسلام كسائر الشعائر، هي: ليلة مصطفاة، ليلة اختارها الله سبحانه وتعالى للسلام، وجعلها أفضل ليالي السنة وأجلها، عرفت بهذا الاسم.

وقد اجتهد أئمتنا في شرح معانيها، وبيان عظمتها.

ولا شك أننا جميعاً نرغب في الفوز بشرف إحيائها. ولعل الأسئلة التي تشغل بال عموم المواطنين هي: ماذا ورد فيها من فضل؟ وما هو ميقات رجائها؟ وكيف نحييها خارج المسجد في ظل التدابير والاحترازات من منع التنقل ونحوها؟

فضل ليلة القدر

في السورة الكريمة نص اقتضى ما دل على تعظيمها، قال تعالى: ﴿وما أدراك ما ليلة القدر[4]﴾ فهو بيان صريح في فضلها [5]“.

ومن فضائلها[6]:

– نزول القرآن فيها: ففيها أنزل الله كلامه من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من السماء نجما بعد نجم على قدر الحاجة [7] أي مفرقا بحسب الوقائع والأحوال والحوادث.

والمقصود ابتداء إنزاله فإن كل آية أو آيات تنزل من القرآن فهي منضمة إليه، انضمام الجزء للكل، ومجموع ما يبلغ إليه الإنزال في كل ساعة هو مسمى القرآن إلى أن تم نزول آخر آية من القرآن، فجعل الله لنظيرتها من كل سنة فضلا عظيما لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان، كرامة لذكرى نزول القرآن، وابتداء رسالة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.

فتعظيم الليلة تعظيم لما أنزل فيها، وتعظيم للرسول وتعظيم للأمة.

– نزول سورة كاملة في فضلها، وقد سُمِّيت باسمها.

– العمل بما يرضي الله تعالى فيها من صلاة وغيرها خير من العمل في غيرها، أو العمل فيها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

وهذا فضل لا يوازيه فضل، ومنة لا يقابلها شكر. فإن الله سبحانه وتعالى رحمة بعباده وتفضله عليهم، جعل العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، أو العبادة فيها أفضل من عبادة ألف سنة ليس منها ليلة القدر، وفي الموطأ باب ما جاء في ليلة القدر: أنه صلى الله عليه وسلم: “أري أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر “. وهذا يشمل معاني كثيرة[8].

– قيامها يكفر الذنوب: لحديث أبي هريرة رضي الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه[9] “. زاد في بعض الروايات عند النسائي وغيره: “وما تأخر”. وفي هذه الزيادة كلام استوعبه الحافظ في كتاب “الخصال المكفّرة للذنوب المقدمة والمؤخرة”.[10] فالسعيد من وفقه الله إلى إدراك فضلها.

– أن وقتها من أرجى أوقات إجابة الدعاء: يقول الإمام ابن عبد البر: ” وفي هذه الأحاديث الحض على التماس ليلة القدر وطلبها بصلاة الليل، والاجتهاد بالدعاء [11]

– شهود العشاء يكفي في إحيائها: يقول الإمام الباجي رحمه الله تعالى: ” وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: من شهد العشاء ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها ” ومعنى ذلك والله أعلم، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ” فيكون من شهد العشاء هنا كأنه قام نصفها عند سعيد بن المسيب والله أعلم [12]

ومقتضى ما تقدم هو تعظيم حرمة الليلة شكرا لله على هذه النعمة. يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: “هذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني، وأيام نعم الله عليهم، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى، قال تعالى ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ[13] ﴾ فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن[14]“.

ولقد استحب العلماء في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر: التنظف، والتزين والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن. كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد[15].وليلة القدر قد ترى لمن وفقه الله سبحانه وذلك برؤية أماراتها، وعلاماتها. وكان الصحابة رضي الله عنهم يستدلون عليها بعلامات، ولكن عدم رؤيتها لا يمنع حصول فضلها، لمن قامها إيمانا واحتسابا.

ميقات رجاء ليلة القدر

حث الشارع الحكيم على تحريها وطلبها. واستحب النبي صلى الله عليه وسلم التماسها في العشر الأواخر. ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر[16] “. كما حذر عليه الصلاة والسلام من الغفلة عنها، وإهمال إحيائها، فيحرم المسلم من خيرها وثوابها.

وبالرجوع الى شراح المتون الحديثية، والمدونات الفقهية لدى أئمة المذهب، نجدهم قد اختلفوا في تعيينها، وفي ميقات رجائها اختلافا كثيرا. وسبب اختلافهم: اختلاف الأحاديث الواردة في الباب[17].

والراجح عند المحققين، وهو المعتمد في المذهب المالكي[18]: أنها في الوتر من العشر الأواخر. للحديث الصحيح:” تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”[19]. وأن أرجاها: ليلة السابع و العشرين، وهو مذهب الجمهور. لما أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن زر بن حبيش قال: ” سألت أبي بن كعب رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: رحمه الله أراد ألا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين. ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها تطلع يومئذ، لا شعاع لها [20]“.

فأخفى الله ليلة القدر بين ليالي العشر. و الحكمة: ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لأقتصر عليها. وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس أن رجلاً قال: “يا رسول الله، إني شيخ كبير عليل يشق عليَّ القيام، فمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر؛ قال: عليك بالسابعة[21]

إحياء ليلة القدر في زمن كورونا

وبما أن إحياءها هذه المرة يختلف، بسبب هذا الوباء (فيروز كورونا مرض كوفيد19) الذي عم البلدان، وما اتخذته دولتنا تحت القيادة الرشيدة لمولانا أمير المؤمنين نصره الله من التدابير والاحترازات. اقتضى الأمر أن نراعي في إحيائها الوضع الخاص (لزوم البيت) وما يناسب وقت الشدة والمحنة مما نص عليه علماؤنا من تعاليم، وآداب الاحتراز من الوباء، ودفع البلاء، وهو أمر عني بشرحه من كتب في الموضوع[22]. فالحال لا يختلف إلا من جهة البعد عن المسجد، وكوننا نعيش هذه الإجراءات الوقائية المانعة من التنقل، والموجبة للزوم البيت، هو في حد ذاته فرصة ومنحة عظيمة، لوفرة الوقت، وقلة الشغل، فعلى الجميع أن يراجع حاله، ويصحح علاقته بربه. ولنعش لحظات مع الله بما تسير من الزمن.

ويتم إحياؤها بـ:

  • تمثل معانيها الكبرى
  • أداء شعائرها وأحكامها

تحيى بتمثل معانيها الكبرى، ومن أهمها:

أولا – الرحمة

فهي ليلة الرحمة: وهذا المعنى أفصح عنه القرآن الكريم في سورة الدخان. قال سهل رحمه الله: ” سميت بذلك لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين[23] ” وتأكد بقوله تعالى: ﴿ إنا كنا مرسلين رحمة من ربك [24]﴾ أي كنا مرسلين لأجل رحمتنا أي بالعباد المرسل إليهم.. قالوا: ويجوز أن يكون ” رحمة ” حالا من الضمير المنصوب في ” أنزلناه “… وفائدة الإظهار: الإشعار بأن معنى الربوبية يستدعي الرحمة بالمربوبين.

وفي إضافة الرب إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوصل إلى حظ له في خلال هذه التشريعات بأن ذلك كله من ربه، أي بواسطته، فإنه إذا كان الإرسال رحمة، كان الرسول رحمة. قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين[25]﴾ ويعلم من كونه رب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رب الناس كلهم، إذ لا يكون الرب رب بعض الناس دون بعض، فأغنى عن أن يقول: رحمة من ربك وربهم. [26]“، وقيل في تفسير الروح بأنها: الرحمة، ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها. بدليل قوله تعالى: ﴿ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده[27]﴾ أي بالرحمة فيها [28]

ثانيا – البركة

قال تعالى: ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة ” بمعنى أن الخير فيها ثابت ودائم، لأن البركة في اللغة الثبات والدوام[29]. ولأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة[30].

وبركةُ الليلة التي أنزل فيها القرآن، بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن؛ ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها ملابِسا لوقت مبارك؛ فيزداد بذلك فضلا وشرفا، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها. والظاهر أن الله أمدها بتلك البركة في كل عام، كما أومأ إلى ذلك قوله سبحانه: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [31]﴾إذ قاله بعد أن مضى على ابتداء نزول القرآن بضع عشرة سنة [32]

وهذا المعنى يؤكده: أن لهذا الشهر الكريم بركات كثيرة، مصداق ذلك في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: قَال عليه الصلاة والسلام: ” أَتاكم شهر رمضان، شهر مبارك… الحديث ”

ومن أهم تجليات البركة: مضاعفة الأجر والثواب ﴿خير من ألف شهر﴾، وعظم قدرها هذا خارج عن دائرة إدراك الإنسان، ولا يعلم هذا القدر العظيم ولا يعلمه للخلق إلا الله سبحانه وتعالى. ولذا قال موضحاّ﴿ وما أدراك ما ليلة القدر ﴾معناه: التعجب بها والتعظيم لها، قال سفيان بن عيينة والفراء وغيرهما: ” وما كان في القرآن من قوله: ” وما أدراك ” فقد أدراه [33]

بل ومن خصائص الأمة مضاعفة الأجور وتيسير أمر العبادات.

ثالثا – السلام

إنها ليلة السلام، قال تعالى:﴿ سلام هي حتى مطلع الفجر[34]﴾ وتقديم الخبر للحصر والإخبار بالمصدر للمبالغة، أي ما هي إلا سالمة جدا كأنها عين السلامة[35] وتؤولت على معنى السلامة والخير، فهي سلام من كل أمر مخوف، لا شر فيها حتى مطلع الفجر، أو ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة.

قال مجاهد: ” هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوء أو يعمل فيها أذى ” وقال قتادة: ” هي خير كلها ليس فيها شر إلى طلوع الفجر ” وقال ابن عباس: ” إن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر، وذلك أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها [36]” وفي هذا بشارة للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، إذ أخبر سبحانه أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير[37].

وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها وجعلت عين التسليم للمبالغة أيضا[38].

ويجوز أن (سلام هي) أريد به الطلب والأمر، أي سلموا سلاما، والمعنى: اجعلوها سلاما بينكم.

فعلى ملتمسها أن يحرص على تمثل هذه المعاني الجليلة والقيم العظيمة في حياته، ويعمل على حمايتها، وتدعيمها، وإفشائها، ونشرها، ومعلوم أن الملاحاة والمخاصمة كانت سببا في رفع تعيينها. ففي الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال: ” خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين. فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم [39]” وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد ” فجاء رجلان يختصمان معهما الشيطان[40]

فبين الحديث أن تلاحي الرجلين كان سببا في ألا يعرفها أحد على وجه التعيين، فعمت العقوبة بجدالهما المسيء والمحسن. قال تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة[41][42]

وتحيى كذلك بأداء شعائرها وأحكامها، ومن أهمها:

أولا: الانقطاع الى الله بتفريغ القلب له سبحانه، و شغل النفس بذكره عز وجل. والاجتهاد في الطاعات والقربات من: صلاة و صدقة و تلاوة القرآن، وابتهال واستغفار وخشوع، وإعانة المحتاج، و رد الحقوق وغيرها، ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره[43] “.مع الحرص على أدائها على وجه التمام و الكمال، ولأجلها شرع الاعتكاف في المسجد، فقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – الاعتكاف في العشر الأواخر في رمضان، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم أعتكف أزواجه من بعده “[44].: وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين[45].”

وإنما كان يعتكف النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعاً لأشغاله، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم حتى يَتِمَّ أنسه بالله – تعالى -، وَلَمّ شعث القلب بالإقبال على الله تعالى، وذلك بالانقطاع التام إلى العبادة. وجعل من أهم الأبواب والأسباب وأفضلها:

– تلاوة القرآن، فقراءة كتاب الله في الشهر الذي انزل فيه القرآن، وفي الليلة التي ابتدئ نزوله فيها، من أجل القربات وأسناها، و أفضل الطاعات وأسماها وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ قراءة مرتَّلةً، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوَّذ، فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكُّر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.

ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن،[46]“.

– الجود والإحسان: والإحسان مندوب في رمضان عامة، وفي العشر الأخيرة خاصة، فمن خصائص هذا الشهر المبارك الكريم أنه شهر الخير والبركة و الإحسان، عندما يمسك الصائم عن الطعام و الشراب، فليس ذلك قبضاً و إمساكاً بالحفظ و الادخار، بل بسطاً و سخاء بالبذل و الإيثار.

فلنحرص على الصدقة في هذه الليلة ؛ إذ إنّ الصدقة في شهر رمضان أفضل من الصدقة في غيره من الشهور؛ بسبب تفاضل الأزمان، كما أنّ الصدقة في العشر الأواخر أفضل ممّا سواها؛ لِما ورد من تفضيل العمل والعبادة فيها، وخاصّةً في ليلة القدر التي تعد خيراً من ألف شهرٍ.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس، و كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، و كان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، و كان صلى الله عليه و سلم أجود بالخير من الريح المرسلة[47]“.

والإحسان ليس بقاصر على المال، بل يكون به وبكل ما يحقق النفع والخير من الكلمة الطيبة والفعل الحسن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة[48].”

وفي رواية قالوا: ” يا رسول الله فمن لم يجد؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: يرفع عظماً عن الطريق.

قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: فليعن ضعيفا، قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: فليدع الناس من شره.[49]

ومما تجدر الإشارة إليه:

أن أفضل الإحسان: ما حقق النفع العام، ونحن في هذه الظروف الخاصة أحوج ما نكون إلى: تضامن وتشارك أفراد المجتمع في المحافظة على المصالح العامة والخاصة، ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه – إلى جانب الحقوق التي له – أن عليه واجبات للآخرين، وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة. وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم[50].

ويشمل التضامن: المصابين شفاهم الله، والمتضررين بالوضعية.

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ” قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:” مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم. مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[51]

وأجمع علماء الإسلام على: أن الأمة مطالبة في كل زمان ومكان بالتكافل والتساند ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، وتبادل الود والرحمة والشفقة، والتعاون الشامل في الصالح العام، والتعاون الكامل في حالتي الشدة والرخاء.

وقد قال أهل العلم: ليلة القدر ونهارها سواء في الاجتهاد.

ثانيا – الاجتماع على العبادة

ومنها: الحرص على أداء الصلوات المكتوبة جماعة في أوقاتها (في المسجد حسب ما هو مسموح به، وفي البيت مطلقا)، وكذا التراويح (في البيت)، وإيقاظ الأهل للتهجد، ففي الحديث الصحيح، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلوات الله وسلامه عليه: ” كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان[52]

فالمحافظة على الصلوات المكتوبات في جماعة مع الأهل من أسباب إدراك فضل ليلة القدر. وإنها لمناسبة لعقد مجالس مدارسة القرآن الكريم في بيوتنا. وإن تيسر ختم القرآن كما جرى به العمل فهو حسن.

ثالثا –الابتهال بالاجتهاد في الدعاء والاكثار منه، وإخلاصه لله عز وجل

أكثر أيها الملتمس الطالب لفضلها من الدعاء، ولا يفتر لسانك عنه. لأن الدعاء فيها مظنة الإجابة، فلنحرص عليه، ولا نغفل عنه، خاصة في الأوقات الفاضلة: (دبر الصلوات المكتوبة / عند الفطر/ عقب الفراغ من صلاة التراويح /عند التهجد)

ومن السنة الإكثار من طلب العفو والعافية. أخرج الإمام ابن ماجه في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: تقولين ” اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني [53]وما أحوجنا الى الدعاء في هذه الأيام، فهو سبب لرفع الوباء وقدر يدفع البلاء حتى قالوا: ( قدر البلاء يدفعه قدر الدعاء ) وفي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي: ” لا يرد القضاء إلا الدعاء.[54]” ولنكثر من أدعية دفع الكرب الواردة في السنة، في هذه الليلة وفيما تبقى من العشر الأواخر، ومنها:

 ما أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن. فقال: ” اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي. إلا أذهب الله همه، وحزنه، وأبدله مكانه فرجا “. قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: ” بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها[55] “.

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: “لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم”[56].

وأخرج الإمام الترمذي في سننه وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له”[57].

فلنحمد الله ونشكره على نعمة هذه الليلة المباركة، ولنعقد العزم على إحيائها بالقيام والذكر والدعاء وتلاوة القرآن والتنافس في كثرة الأعمال. فالأعمال بخواتيمها.

اللهم لا تحرمنا جميعا من إدراك فضل هذه الليلة، اللهم عجل بالفرج، اللهم ادفع البلاء وارفع الوباء.

والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

[1] متفق عليه

[2] متفق عليه

[3] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مع إكمال المعلم كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد في في العشر الأواخر من شهر رمضان (ح:1175)

[4] سورة القدر: 2

[5] جنى الجنتين في شرف الليلتين: (ص:79)

[6] يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: ” ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر ” التحرير والنوير (30/461) وانظر على سبيل المثال: المسالك: (4/264) والجامع لأحكام القرآن (20/115-120) وجنى الجنتين في شرف الليلتين (ص: 75-82) والتحرير والتنوير (25/277) و(30/455-465)

[7] يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى: ” وفي التعبير عن القرآن بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد، فهو في قوة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين، وتأكيد الجملة ” روح المعاني (30/189)

[8] يقول العلامة محمد الطاهر ابن عاشور: ” وتفضيلها بالخير على ألف شهر، إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة، واستجابة الدعاء، ووفرة ثواب الصدقات، والبركة للأمة فيها ” (30-459)

[9] متفق عليه

[10] غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وشهر رمضان ضمن الموسوعة (12/91-92)

[11] الاستذكار( 10/328 )

[12] سنن الصالحين وسنن العابدين (1/245) والمنتقى (3/119) يقول شيخنا العلامة سيدي عبد الله ابن الصديق رحمه الله تعالى: ” أقل ما يحصل به قيام الليل -قال مالكٌ في “الموطأ”: بلغني أنَّ سعيد بن المسيِّب قال: من شهد العشاء ليلة القَدْرِ –يعني في جماعة– فقد أخذ بحظِّه منها. وقال الشافعيُّ في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القَدْرِ فقد أخذ بحَظِّه منها. وأخرج أبو الشيخ الأصبهانيُّ، ومن طريقه أبو موسى المدينيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا: مِن صلَّى العشاء الآخِرة جماعةً في رمضان فقد أدرك ليلة القَدْرِ. وروى ابن أبي الدنيا عن أبي جعفر محمد بن عليِّ مُرسلًا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن أَتَى عليه رمضانُ صَحِيحًا مُسْلِمًا صامَ نَهارَهُ وصَلَّى وِرْدًا مِن لَيْلِهِ وغَضَّ بَصَرَهُ وحَفِظَ فَرْجَهُ ولِسَانَهُ ويَدَهُ وحافَظَ على صَلاتِهِ في الجماعَةِ وبَكَّر إلى الجُمُعَةِ، فقد صَامَ الشَّهْرَ واسْتَكْمَلَ الأَجْرَ وأَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ وفَازَ بجَائِزَةِ الرَّبِّ». وهو حديثٌ ضعيفٌ أيضًا.

وعلى كلٍّ ففضل الله واسِعٌ، ومَن شَهِد العِشاء والصبح جماعةً طول شهر رمضان فالرجاء ألَّا يُحرَم مِن ليلة القَدْرِ، وبالله التوفيق ” غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وفضل شهر رمضان ضمن الموسوعة (12/93-94) ويقول الإمام ابن مرزوق: ” ومن هذا الباب ما رويناه عن سعيد بن المسيب في الموطأ بلاغا عنه أنه كان يقول: ” من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظ منها ” ولا يقال ذلك رأيا ” جنى الجنتين في شرف الليلتين: (ص: 82)

[13] إبراهيم: 5

[14] التحرير والننوير: (30/462 )

[15] انظر: غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وشهر رمضان ضمن الموسوعة (12/ 94-95)

[16] صحيح مسلم مع إكمال المعلم باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها؟؟؟

[17] جنى الجنتين (ص:86)

[18] وهو مبين في المدونات الفقهية ولدى شراح متون الحديث.

[19] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب فضل ليلة القدر. باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر (ح:2017)

[20] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه مع إكمال المعلم كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، وبيان محلها، وأرجى أوقات طلبها.

[21] رواه أحمد في مسنده (2149) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ” رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ” (3/176)

[22] انظر على سبيل المثال: كتاب أقوال المطاعين في الطعن والمطاعين للعلامة المشرفي (ص: 253-273)

[23]الجامع لأحكام القرآن: (20/116)

[24]الدخان: 4-5

[25]الأنبياء: 106

[26]التحرير والتنوير بتصرف: (25/281-282)

[27]النحل: 2

[28]جنى الجنتين (ص:84)

[29]المقدمات الممهدات: (1/263)

[30]الجامع للإمام القرطبي (20/116) يقول الإمام القاضي عياض رحمه الله تعالى في إكمال المعلم: ” وكما قال: ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة ” فسماها بهذا لنزول القرآن جملة فيها إلى سماء الدنيا، وثبات خيرها ودوامُهُ، وهو معنى البركة.” أكمال المعلم: (4/142) وقالوا في وجه تسميتها: والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة والخير كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.

[31]البقرة: 184

[32]التحرير والنوير (25/278)

[33]المسالك: (4/264)

[34]القدر: 5

[35]روح المعاني: (29/197)

[36] الاستذكار (10/330)

[37] التحرير والتنوير (30/465)

[38] روح المعاني( 29/197). يقول الإمام ابن مرزوق: ” والقول بالسلام الذي هو بمعنى التحية هو الذي توافقه الأخبار الواردة في الباب، وقد ذكرها غير واحد من الأئمة ” جنى الجنتين (ص:85)

[39]أخرجه الإمام البخاري في كتاب فضل ليلة القدر باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس (ح:2023)

[40]صحيح مسلم (ح:1167)

[41]الأنفال: 25

[42]المسالك: (4/269)

[43] متفق عليه

[44] متفق عليه

[45] صحيح البخاري كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان (ح: 1939 )

[46] متفق عليه

[47] متفق عليه

[48] متفق عليه

[49] قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: ” رواه كله البزار، ورجاله رجال الصحيح ” (3/104-105)

[50] المجتمع المتكافل في الإسلام للدكتور عبد العزيز الخياط: (ص: 61) و التكافل الاجتماعي في الإسلام للشيخ أبي زهرة: (ص: 7)

[51] متفق عليه

[52] أخرجه الإمام الترمذي في أبواب الصوم 72 باب منه (ح:792) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[53] سنن ابن ماجه كتاب الدعاء باب الدعاء بالعفو والعافية (ح:3850)

[54] أخرجه الإمام الترمذي في أبواب القدر باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (ح:2225)

[55] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (ح:3712)

[56] متفق عليه

[57] أخرجه الإمام الترمذي في أبواب الدعوات 85باب (ح:3572)