قول العلماء في إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية

قول العلماء في إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية

ذ. محمد اوالسو رئيس المجلس العلمي المحلي لإقليم صفرو
ذ. محمد اوالسو رئيس المجلس العلمي المحلي لإقليم صفرو

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عنوان هذا العرض هو: «قول العلماء في إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية».

ويأتي هذا العرض ليجمع جل ما انتثر من أقوال العلماء في سياق عناية الدين بإمارة المؤمنين، إذ هي المنوطة بها سياسة الدنيا وحراسة الدين، وإنما أحاول أن أجمع جل ما استنبطوه من كتاب رب العالمين وأحاديث رسوله النبي الأمين.

تعد إمارة المؤمنين الحصن الحصين للوطن والدين واستمرارا  للإمامة العظمى حماية لشؤون الدين والدنيا، فهي من مفاخرنا المغربية وخصائصنا الحضارية، وهي منبع أمجادنا في الحال والماضي والمآل، فمنذ بيعة العقبة الأولى والثانية كما ثبت في السيرة النبوية انطلقت في الإسلام الولاية العامة النبوية مؤصلة لإمارة المؤمنين التاريخية القائمة على البيعة الشرعية، ففي سياق عناية الوحي بإمارة المؤمنين كتابا وسنة نلفي مثلا نصوصا شرعية متضافرة كقول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾[1]، فأمر بطاعته، وثنى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وثلث بطاعة أولي الأمر. ومن قوله تعالى: ﴿أولي الأمر﴾، جاء وصف أمير المؤمنين؛ إذ القاعدة أن «من قام به وصف اشتق له منه اسم». وهي من القواعد المشتركة بين أصول الدين وأصول الفقه.

وفي السنة النبوية أحاديث شريفة تتناول مكانة أمير المؤمنين في الدين والدنيا، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله». الحديث. وهذا الحديث أفرده بعض علمائنا بالتأليف. وفي رواية أخرى أكثر تفصيلا عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أكرم سلطان الله في الدنيا أكرمه الله يوم القيامة». الحديث. وفي مسند البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررت ببلدة ليس فيها سلطان فلا تدخلها، إنما السلطان ظل الله في الأرض ورمحه في الأرض». ودلالة الحصر في أسلوب هذا الحديث بينة المعنى واضحة المغزى. وقد تحدث العلماء عن هذا الثابت الأصيل من ثوابتنا الدينية؛ أعني إمارة المؤمنين وأنها الركن المتين من أركان الاستقرار والأساس المكين للاستمرار، فبينوا قواعد هذا الثابت ووضحوا خصائصه وأظهروا مزاياه وخرائده فقربوا نوادره وشواهده، ولمزيد من العناية أفردوه بالتأليف ضمن ما يعرف بالأحكام السلطانية فبينوا حقوق الراعي على الرعية وكل ما يترتب على فريضة البيعة الشرعية.

إمارة المؤمنين عماد ثوابت الوطن والدين؛ ذلك لأنها الحصن الحصين لباقي الثوابت فنجد الأئمة من علماء العقيدة[2]، يتحدثون عن إمارة المؤمنين ضمن كتب العقائد وذلك لأمرين؛ أولهما: لإظهار أنها أساس العمل بمقتضيات الإيمان وما يتصل به من الأحكام العملية والسلوكية. والآخر: للرد على بعض المغالطات من بعض الفرق الكلامية التي تحدثت عن الإمامة العظمى بما لا يصح علما ومنهجا.

ولاستشراف بعض هذه الجهود نتناول إمارة المؤمنين تصورا وتصديقا.

1 – قول العلماء في التعريف اللفظي لإمارة المؤمنين

إمارة المؤمنين أو الإمامة العظمى مصطلحان وحقيقتان شرعيتان مترادفتان تناولهما الفقهاء وعلماء الكلام والمؤرخون على السواء، فقد قال ابن خلدون: “تسمى خلافة وإمامة والقائم بها خليفة وإمام، وسماه المتأخرون سلطانا. فأما تسميه إماما فتشبيها بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به ولهذا يقال: الإمامة الكبرى”. فإمارة المؤمنين حقيقة شرعية ذات مدلول عند أهل الشرع فقد نشأ هذا اللقب الشرعي في زمن الإمام عمر رضي الله عنه بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي ذلك يقول العلامة الألوسي في تفسيره: “وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك كان يدعى إلى أن توفي، فلما وُلي عمر قالوا: خليفة خليفة رسول الله. فعدل عن ذلك اختصارا إلى أمير المؤمنين”.

وأشار ابن خلدون إلى سبب التسمية وأول من دعا الإمام عمر رضي الله عنه بلقب أمير المؤمنين قائلا: “واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين. فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به. ويقال: إن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش. إلى أن قال: وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين…”

والوصف بلقب الأمير ثابت منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدلول أخص مما ذكر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني».

 

2 – قول العلماء في التعريف الاصطلاحي لإمارة المؤمنين

تحدث علماء الكلام عن الإمامة العظمى في كتب العقائد، كما تحدث بعض الفقهاء عنها وعن تفاصليها في كتب الفروع. وبين هذين المنهجين ناقش العلماء موقع البحث العلمي في إمارة المؤمنين أهو من مباحث علم الكلام أو من مباحث الفقه؟

بعد اتفاق العلماء أن الإمامة منصب شرعي واجب بالشرع، وقد أشار علماء العقائد إلى أسباب إدراجها ضمن كتبهم وجعلها خاتمة المباحث العقدية، ومن ذلك ما بينوه من نصوص بعضهم الآتية: ففي “شرح المقاصد” يقول صاحبه: “وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لابد للأمة من إمام يحيي الدين ويقيم السنة وينتصر للمظلومين ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها”. ونقل العلامة سيدي عبد القادر الفاسي رحمه الله في كتابه “الأجوبة الحسان في الخليفة والسلطان” أن مباحث الإمامة من الفقهيات، لكن لما زعمت الإمامية وبعض المعتزلة ما زعموا وشاع بين الناس في الإمامة ما شاع أدرجوها ضمن كتب العقائد. ثم أشار إلى أن تلك المباحث ألحقت بالكلام وأدرجت في تعريفه عونا للقاصر وصونا للأئمة المهتدين عن مطاعن المبتدعين.

لكن هناك إشارة ذكية لابن عرفة استنبطها من الحديث المشهور الصحيح: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». ومن حديث: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية». قال ابن عرفة: “إن هذين الحديثين يشيران إلى كونها من المعتقدات لا من الفروع لارتباطها ولكونها فاصلا بين الموت على الجاهلية أو الموت على الإسلام”. ولذلك صرح في مختصره الكلامي بشيء من ذلك فقال: “وحكم ثبوت الإمامة في علم الكلام والحديث”.

أنتقل إلى قول العلماء في تصوير إمارة المؤمنين؛ أعني تعريفها بالطريقة المعتمدة عند علمائنا في تعاريفهم.

قال العلامة الماوردي: “الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا”. وبمثل ذلك عبر ابن خلدون رحمه الله إذ قال: “فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”. وجاء في كلامه أيضا: أنها “نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا”. وفي تعبير الماوردي بحراسة الدين وتعبير ابن خلدون بحفظ الدين، دليل على أن الدين محل أطماع فرق وجهات تحرفه وتستغله وتؤوله وفق مصالحها الخاصة؛ وهم الغالون والجاهلون والمبطلون كما في الحديث المشهور على الألسنة.

وفي الغياثي: “الإمامة رئاسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا”. وقال اليفرني في شرح البرهانية: “الإمامة عبارة عن رئاسة في الدين والدنيا عامة لشخص من الأشخاص”. ثم قال: “وقيل: هي عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة قواعد الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة”. وفي كلامه إشارة إلى تعريف الآمدي بطريق ما يسمى عند علمائنا بالتنكيت.

ثم قال ابن عرفة في تعريفها: “الأقرب أنها صفة حكمية توجب امتثال مستطاع أمر موصوفها”. إلى آخر كلامه.

ونقل العلامة التاودي بن سودة عن المتيطي في النهاية أنها “رئاسة في الدين والدنيا لشخص واحد”.

مما سبق يتبين أن إمارة المؤمنين صفة شرعية قائمة على حفظ الدين وسياسة الدنيا، ولذلك فهي من مفاخر المغاربة منذ أكثر من 13 قرنا، تمثل السند الشرعي التاريخي للمغاربة وصلة وصل لهم بالبيعة النبوية التاريخية منذ بيعة العقبة الأولى والثانية.

وبعد ما ذكر من التعاريف المتضمنة لحقيقة إمارة المؤمنين ومكانتها الشرعية وضرورتها في الاستقرار الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، نتناول قول العلماء في حكم إمارة المؤمنين. ونعني بالحكم هنا الحكم التكليفي لا الحكم السياسي.

3 – قول العلماء في حكم إمارة المؤمنين

إمارة المؤمنين فريضة شرعية وواجبة باتفاق العلماء المعتبرين؛ إذ هي أساس الاستقرار والاستمرار، وفي ظلالها يعبد الله بالاختيار.

وفيما يلي بعض أقول لعلماء الأمصار وفقهاء الأقطار باختلاف الأعصار:

قال الماوردي: “وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع”. ومعلوم أن الإجماع حجة قطعية عند علماء الأصول وخرقه حرام كما نص عليه غير واحد، وهو يستلزم وجوب البيعة الشرعية كما سيأتي.

وقال العلامة أبو الحجاج يوسف بن موسى الضرير -وهو شيخ القاضي عياض- قال في كتاب “التنبيه”:

وأمر الله جميع الأمة***بالسمع والطاعة للأئمة

فكان أمره على الإلزام *** فوجبت إقامة الإمام

وقال العلامة القرافي رحمه الله: “وأن نصب الإمام في الأمة واجب مع القدرة، وأنه موكول لأهل الحل والعقد دون النص، وأنه من فروض الكفاية”.

4 – قول العلماء في البيعة الشرعية

البيعة الشرعية عنها تنشأ إمارة المؤمنين ابتداء ببيعة النبي صلى الله عليه وسلم كما في مصادر السيرة النبوية وما بعد ذلك من بعث الخلفاء، ولذلك فإن مما نعتز به في هذا البلد الأمين التمسك بهذا الإرث النبوي الذي سار عليه أئمتنا منذ قرون.

ولكون البيعة سببا شرعيا لإمارة المؤمنين تحدث العلماء عن معناها ومبناها. قال ابن الأثير في معنى البيعة بعد إيراده حديث: «ألا تبايعوني على الإسلام؟». قال: “عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره”. قال ابن خلدون: البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي “بيعة” مصدر “باع”، وصارت المبايعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة وعهود الشرع، وهو المراد في الحديث.

وقال القرطبي بعد كلام: “…وذلك أن المبايعة للإمام يتلزم أن يقيه بنفسه وماله، فكأنه بذل نفسه وماله لله تعالى، وقد وعد الله تعالى على ذلك بالجنة، فكأنه حصلت له المعاوضة فصدق على ذلك اسم البيعة والمبايعة…” إلى أن قال: “وهذا أحسن ما قيل في البيعة”.

إن البيعة الشرعية فريضة وهي عهد الله، قال الله تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾[3]. الآية. جاء في تفسير ابن جرير: “أنزلت هذه الآية في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم”. وقال الألوسي: “ظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا، فالمراد بعهد الله تلك البيعة كما نص عليه غير واحد”. وقال صاحب التراتيب: “وقد عظم الله شأن البيعة وحذر من نكثها فقال: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما﴾[4].

وترجم الإمام البخاري: باب كيف يبايع الإمام الناس؟ قال العلامة ابن حجر: “المراد بالكيفية الصيغ القولية لا الفعلية، فذكر فيها البيعة على السمع والطاعة”. وقال العلامة أبو العباس القرطبي: “ثم هي واجبة على كل مسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»”.

الهوامش

[1] – سورة النساء، الآية: 59.

[2] – قبل مدة ما كنا في حاجة إلى تقييد العقيدة بكونها أشعرية لأنها عقيدة أمة، واليوم مع ما شاع من أفكار وتيارات دخيلة بدأنا نسمع العقيدة موصوفة بالأشعرية مع أن العقيدة الأشعرية هي العقيدة بإطلاق هي عقيدة جماهير الأمة كما هو مقرر في مصادر علمائنا منذ قرون.

[3] – سورة النحل، الآية: 91.

[4] – سورة الفتح، الآية: 10.

 

كلمات مفتاحية : ,