قواعد العقيدة الأشعرية وأثرها في الاستقرار الديني والمجتمعي في المغرب

قواعد العقيدة الأشعرية وأثرها في الاستقرار الديني والمجتمعي في المغرب

قواعد العقيدة الأشعرية وأثرها في الاستقرار الديني والمجتمعي في المغرب - الأستاذ إدريس بن الضاوية
قواعد العقيدة الأشعرية وأثرها في الاستقرار الديني والمجتمعي في المغرب – الأستاذ إدريس بن الضاوية*

الحمد لله لا شريك له، والصلاة والسلام على أشرف المرسليـن، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعيـن.

أما بعد،

فمن الخصوصيات الديـنية التي تميز بها المغاربة عن كثيـر من الشعوب الإسلامية، وانفردوا بها عن جمهور اعتقادات الفرق الكلامية، اجتماع قومهم على سنن التـزموا بها، وأصول اجتمعوا عليها لتحقيق واجب الاقتداء بالسلف في ممارستهم لشعائر ديـنهم عبـر القرون، وتثبيت الوحدة في مجموع ربوعهم التي لا يؤثر فيها المفتون، وتحصيـن مواطنيهم من بلية التفرق التي عاش ويلاته بعض بلاد الشرق الإسلامية منذ أيام الخلفاء فمن بعد هم التي تولى كبـرها الخوارج والشيعة والمرجئة، والقدرية والمعتـزلة. ولا زالت آثارها السيئة في مقولاتها البدعية ظاهرة في بعض التكتلات المجتمعية في بعض أقطار العالم الإسلامي إلى الآن.

ومن أبـرز هذه السنن التي اختيـرت على علم للاحتماء من شرور الابتداع، وتحقيق فريضة الألفة والاجتماع: العقيدة الأشعرية، عقيدة الحق الوفية لمعتقد سلف الأمة المنتهية إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة (324هـ)، التي اختارها أهل العلم الذيـن كانوا مرجع الناس في تنويـر قلوبهم، وتلبية احتياجاتهم، والبث بنور الشرع في صنوف نوازلهم والإجابة عن تساؤلاتهم، والانتصار لأصول معتقداتهم.

وقد توارثها المغاربة منذ زمن بعيد على يد ثلة من أهل العلم المتمكنيـن منهم: المهدي بن تومرت[1] وكبار علماء دولته الذيـن أسرعوا إلى إجابته في تثبيت العقائد على ضوء مقررات السلف «مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغاتها مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع[2]».

ومن أبـرز خدام هذه العقيدة الجامعة من أعلام المغرب: القاضي أبو القاسم بن محمد المعافري السبتي أحد أبـرز من جمع بيـن علوم الفقه والحديث والأصول والكلام، ورحل إلى المشرق، ودرس العلميـن الأخيـريـن كثيـرا. ويوسف بن الكلبي الضريـر الذي اشتغل بعلم الكلام على مذهب نظار أهل السنة، وسكن سبتة، ودرس بها وبغيـرها من مدن المغرب. وأبو محمد عبد الغالب السالمي المتكلم، وهو ممن سكن سبتة، ونشر بها علمه. وهؤلاء الثلاثة كلهم من شيوخ القاضي عياض، وهم الطليعة الأولى التي نشرت علم الكلام بالمغرب على مذهب الأشاعرة[3].

ثم مهد لانتشاره في المغرب الإسلامي طائفة خالفة من أهل العلم الأوفياء لوراثتهم الجامعة المتأثرة بعقد الإمام أبي الحسن الأشعري، مثل أبي ميمونة دراس بن إسماعيل (357هـ)، وأبي بكر بن عبد المؤمن، وأبي إسحاق إبـراهيم بن عبد الله القلانسي(361هـ)، وأبي محمد عبد الله بن إبـراهيم الأصيلي (392 هـ)، وعلي بن محمد بن خلف المعافري القيـرواني، أبي الحسن ابن القابسي(403هـ)، وأبي عمران الفاسي(430هـ.)

ثم اتسع انتشاره على يد طائفة أخرى تحققت بسمات مشيخة العلم تحصيلا وتنزيلا، تنمية وحماية مثل: أبي الوليد الباجي القرطبي(474هـ)، وأبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي(489هـ)، وعبد الله بن يحيى التجيبي الإقليشي المعروف بابن الوحشي شارح شهاب القضاعي المتوفى سنة(502هـ)، وأبي محمد عبد الله ابن الوحشي، وأبي الحجاج يوسف الضريـر(520هـ)، وأبي عبد الله المازري(536هـ)، وأبي بكر بن العربي المعافري (543 هـ)[4].

ثم انتصب أحد أبـرز شيوخ العصر العلامة عثمان السلالجي المتوفى سنة(574 هـ) صاحب البـرهانية[5] في عقد الأشاعرة، لما تمثله من الوسطية في الاعتقاد، الحق الموقن بوجود الله تعالى، والمسلم لتدبيـر ملائكته، والمؤمن نزول كتبه وبعثة رسله، والمستحضر لواقعة انتهاء الخلق إلى عدله، والمانع من التخوض في نصوص الصفات بالنفي كحال القدرية والجهمية، أو بالإثبات اعتمادا على ظواهر الألفاظ الموهمة للتشبيه، التي لها مسرح في طريق اللغة كمثل الكرامية[6]  والصفاتية الغالية، اللذيـن حكى الإمام أبو الحسن الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر، وكهمس، وأحمد الهجيمي: أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلميـن المخلصيـن يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض.

وحكى الكعبي عن بعضهم أمرا عجبا في اعتقاد التجسيم والتحديد والتمثيل والتبعيض لا يقوله من فيه مسكة، أو عنده للديـن عقدة، أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا، وأن يزوره ويزورهم. وحكى عن داود الجواربي أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك، وقال: إن معبوده جسم، ولحم، ودم. وله جوارح وأعضاء من يد، ورجل، ورأس، ولسان، وعيـنيـن، وأذنيـن، ومع ذلك جسم لا كالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء. وكذلك سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء، وحكي عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك، وأن له وفرة سوداء، وله شعر قطط[7].نعوذ بالله من ذلك.

وكان من حسنات العقيدة الأشعرية أن ضمنت عبـر القرون وحدة المغاربة ومن اقتفى أثرهم من مسلمي دول إفريقيا خصوصا دول غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبـرى في مسائل الاعتقاد بشقيه: النظري المتعلقة بالذات والصفات، والأفعال، والقرآن، والإيمان، والقدر، وعذاب القبـر، والحوض، والعقاب، والشفاعة، والتأويل، وإمارة المؤمنين. ثم الاعتقاد العملي المتمثل في الإخلاص لله تعالى، وابتغاء وجهه في والتقرب إليه بخيـراته المفتـرضة والتماس محبوبيته بصنوف النوافل المقربة.

وقد حفظهم هذا الاعتقاد بـركنيه من الوقوع في فتنة التعطيل والتشبيه والتشريك، والخروج المكفر بالذنب الذي وقع فيه من زعم أن الإيمان لا يكون إلا بفعل الطاعات المفتـرضة كلها، بالقلب واللسان وسائر الجوارح، وأن من واقع المعصية التي جاء الوعيد عليها في الخبـر الصحيح لا حظ له في الإيمان، ولا خلاق له في الآخرة ولا موقع له في الجنان؛ لأن عقد الأشعري المبارك يـنص على أن أصل الإيمان المعرفة بالله، والتصديق له، وبه ،وبما جاء من عنده بالقلب واللسان، مع الاطمئنان للخضوع لجلاله، والسكيـنة في تنزيل أحكامه، والحب المتفرد لجنابه، والخوف من أليم عقابه، والتعظيم لجماله وكماله ،]واستشعار تدبيـره لأمره في الخلق والخلق والرزق والأجل[مع تـرك التكبـر والاستنكاف والمعاندة، فإذا – المكلف – أتى بهذا الأصل، فقد دخل في الإيمان، ولزمه اسمه وأحكامه ،ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه، وفرعه أخذ الفرائض واجتناب المحارم[8]».

وكان من بـركات عقد هذا الإمام المتناسب في أصوله العامة مع عقيدة الإمام مالك ومواقفه من فتن المتفرقة الضُّلاّل؛ أنه لم يكن في مذهبه لأجل ذلك مبتدع قط، ولم يظهر فيه ولا في بلاد الغرب تثبيته من أهل الأهواء والخوارج أصحاب العصبية في الديانات الذيـن خالفوا أهل السنة في أصول الاعتقادات الذيـن يـرون أن أصل الإيمان المعرفة بالله، والتصديق له وبه، وبما جاء من عنده بالقلب واللسان..

والأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة إلى تجديد فهمها لمقاصد توحيدها على مرتكزات هذه العقيدة المتبوعة في الإيمان بمقدماته المتلقاة بالقبول من هدي النبوة المعصومة، حتى تبـرأ من تشويش أهل البدعة المحدثة، وتسلم من توابع فتنة الخوض في الصفات بالتمثيل والتشبيه، والقول بالتكفيـر بالذنوب الذي تواسى بها الحرفيون الذي لا يفهمون مقاصد الكلام، ولا يقدرون غايات العقائد والأحكام التي جاءت أصالة لمصالح الأنام.

وقد قصدت في العرض الموجز تبييـن هذه الأسس، وتوضيح هذه المرتكزات في أربعة مقاطع، هي جماع محاسن هذه العقيدة، وعنوان جمالها، وأساس بقائها واستمرارها، وسر تحصيل الاجتماع على أساس منها، وقوة حجتها الظاهرة على غيـرها مما خالفها إما بمصيبة التشبيه أو فتنة التعطيل وقبيح التأويل، أو بالتبديع والتفسيق والتكفيـر المفضي إلى الاستدماء والتقتيل، أولها: التسنن بشروطه المبايـن لمسالك الخارجيـن عن الجماعة. وثانيها: التأويل بقصد التنزيه، والتعبيـر بما يفيد التقديس والتمجيد. وثالثها: التوسط والاعتدال في كل مجالات الاعتقاد. ورابعها: التحفظ من التكفيـر بلحاظ التقصيـر في القيام بحق الأركان الواجبة في الديـن.

المرتكز الأول: التسنن بشروطه المبايـن لمسالك الخارجيـن عن الجماعة من متبعي مضلات الأهواء

المتأمل في كتب اعتقاد أهل الحق التي ألفها الإمام أبو الحسن الأشعري مثل: الإيمان، واللمع، ورسالة إلى أهل الثغر، ومقالات الإسلامييـن، ورسالة استحسان الخوض في علم الكلام، أو الحث على البحث، أو الكتب الجامعة لأقواله وجمهور اختياراته مثل مجرد مقالات الأشعري لأبي بكر ابن فورك… يلاحظ أنه كان يصدر فيما قرره من الحق المبايـن لِلَيِّ المتفرقيـن، والمنازع لإعراض المتكلفيـن، عن القرآن الكريم المصرح بتولي الوحي بيان ما يجب لله تعالى في الاعتقاد ذاتا وصفات والعمل شكلا ومضمونا كقوله تعالى: ﴿قُلِ اِنَّمَآ أَنَا بَشَرٞ مِّثْلُكُمْ يُوح۪يٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمُۥٓ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاٗ صَٰلِحاٗ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَداٗۖ [الكهف: 110]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أرْسَلنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ اِلَّا يوُحىٰ إِليْهِ أنَهَّ لَا ِإِلٰهَ إِلَّا أنَاَ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].

وعما صح بشرطه عنده من سنة النبي الأميـن ﷺ الذي أمر الله تعالى بطاعته واقتفاء آثاره، وحرم مخالفة أمره والتقديم بيـن يديه. ثم عما أقنعه من فهوم الأوائل من ممثلي سبيل المؤمنيـن السابقيـن، الصادرة عن قصد التنزيه والتمجيد، والتقديس والتعظيم، ليبايـن بهذا المسلك القويم حجج المخالفيـن من المشبهيـن والمعطليـن والقرآنييـن والحرفييـن، أو من الذيـن جعلوا الدليل القائم من العقل حكما في تحديد مراد الوحي، وحمل ظواهره المخالفة لمقرراتهم على المجاز[9] المتكلف، أو النفي المتمحل.

وأصل هذا الصدور في التسنن مبني عنده كما هو واضح في تبـرئه من مناهج المبتدعيـن ،ومجادلته للمخالفيـن، وتمييزه بيـن مقولات المتفرقيـن الذي جلاه في مجموع أعماله ،وكشفه في جمهور مقالاته، على أساس مكيـن صادر عن تقديـر اصطناع الله لنبيه ﷺ الذي ميزه بالقرآن عن جميع بـرئه في الخلق والخلق الممثل في الصدق والأمانة، والعلم والعمل وحسن البلاغ وقوي الإقناع  الذي جعله بمجموعها نموذج رحمته سبحانه وتعالى الذي يجب الاقتباس من أنواره، والاستظلال بظله حتى يحصل الاقتداء به في كل تصرف تكليفي ملزم تصرف به ﷺ بنعمة العصمة التي نأت بعمله أن يكون محلا للانتقاد الموجب للتصويب بحجة غالبة في الوحي المخصوص به الذي أسماه الله تعالى أن يكون مفتقرا إلى الإنتاج البشري.

ومن أجل غايات هذه النموذجية المكملة لتصرف النبي ﷺ البشري في الأحوال، أن يحيط علم المكلفيـن المصدقيـن بصدق مبعثه وأن يستيقنوا صحة نبوته، ويدركوا الضروري من فضله ويعلموا أسباب استحقاق تقدمه، ويستشعروا مكانته في الماضيـن والحاضريـن، التي جعلته سيد المخلوقيـن وإمام أئمة المهتديـن والمقتدى به عند ظهور بيانه بيـن العالميـن. ليكون ذلك مفتاح محبته الموجبة لاتباعه في شرعته، وقبول الهدى الذي جاء به، بكل تصرفاته التي تشمل تلقيـنه وتمثيله وتمريـنه الممثل لغاية ما ابتعث به ﷺ .ولما جعل الله عز وجل الإيمان به فرضا لازما لمريدي رضوانه، ومبتغي حسن جزائه، نثر جميل أوصافه التي جعلت كثيـرا من المتقدميـن ممن أوتوا الكتاب على علم بظهوره ويقيـن بتمام علمه وحسن خلقه ميزة مهمته الختامية التي طبعت تلقيـنه، وميزت تمثيله ،وأنجحت تمريـنه الذي قوم به مختلف سلوك المستجيبيـن، حتى تناسب تناسبا كليا مع مقاصد بعثته ﷺ، فكمل به الديـن، وتمت به النعمة، وظهرت مفردات التديـن الصحيح الذي ارتضاه الله تعالى للعالميـن بعيدا عن تحريف الغاليـن، وانتحال المبطليـن، وتأويل الجاهليـن.

ومن تأمل مشمولات العقد الأشعري المعتمد في جمهور مدارس العلم في العالم الإسلامي وجدها مطبوعة بطابع التسنن المنتهي إلى مقررات المقتدى بهم من السالفيـن الذيـن مثلوا بحسن اعتقادهم وجسدوا بصائب تعبدهم إرث النبي ﷺ الذي أبقاه بتسديد من الله تعالى وضمان منه سبحانه لظهوره على غيـره مصونا من تحريف الغاليـن وانتحال المبطليـن وتأويل الجاهليـن بعد أن تولى إلى رب العالميـن.

وقد ألمع إلى ذلك العلامة تاج الديـن عبد الوهاب بن تقي الديـن السبكي في كتابه السائر طبقات الشافعية الكبـرى في قوله: اعلم أن أبا الحسن لم يبدع رأيا ولم يـنشئ مذهبا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله ﷺ فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف … تمسك به وأقام الحجج والبـراهيـن عليه فصار المقتدى به فى ذلك السالك سبيله فى الدلائل يسمى أشعريا ولقد قلت مرة للشيخ الإمام رحمه الله ـ يعني أباه ـ أنا أعجب من الحافظ ابن عساكر فى عدة طوائف من أتباع الشيخ ولم يذكر إلا نزرا يسيـرا وعددا قليلا ولو وفى الاستيعاب حقه لاستوعب غالب علماء المذاهب الأربعة فإنهم بـرأي أبى الحسن يديـنون الله تعالى، فقال إنما ذكر من اشتهر بالمناضلة عن أبى الحسن وإلا فالأمر على ما ذكرت من أن غالب علماء المذاهب معه. وقد ذكر الشيخ شيخ الإسلام عز الديـن بن عبد السلام أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه أبو عمرو بن الحاجب عثمان بن عمر المتوفى سنة 646 هـ، وشيخ الحنفية جمال الديـن أحمد بن محمود القاضي الحَصِيـرِي المتوفى سنة 698هـ[10].

وأرجع ما تسالم عليه في التقريـرات الاعتقادية المتعلقة بذات الله تعالى وأفعاله وصفاته، والنبوة وأمور المعاد الغيبية إلى دلالات أسماء الله الحسنى الدالة على ما يجب لله تعالى بحق خالقيته المبدعة في النظم المتـرابط من التعظيم والتوقيـر والتبجيل. فقال رحمه الله: واعتقاد الإمام الأشعري مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون التي سمى بها نفسه في كتابه وسنه رسول الله ﷺ وأسماؤه مندرجة في معاني مجموعها في أربع كلمات دالة على التعظيم والتنزيه، والخلق والنظم والهداية والعناية – وهن الباقيات الصالحات- «التي اصطفاها الله تعالى من مجموع الكلم وهي سبحان الله المنزهة، والحمد لله الممجدة، ولا إلى إلا الله الموحدة، ثم الله أكبـر المعظمة». والتي بعميق دلالتها التصديقية يتحقق الإيمان اليقيـني المطلوب الذي بيـن الله تعالى صواه

في قوله: ﴿ اٰمَنَ اَ۬لرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَالْمُومِنُونَۖ كُلٌّ اٰمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦۖ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۖ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ اَ۬لْمَصِيرُۖ﴾ [البقرة: 285].

المرتكز الثاني: التأويل بقصد التنزيه، والتعبيـر بما يفيد التقديس والتمجيد

التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقتـرن به، بلحاظ ما نصبت عليه من الدلائل، ونحيت إليه من المذاهب، هو الذي جنح إليه المتكلمون في العقائد من أهل السنة والجماعة ليبيـنوا ما دق مما لم يعلم بظاهره، بـرد المتشابه منه إلى محكمه الذي يمثل أساس التأويل المميز الذي دعا به النبي ﷺ لسيدنا على وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهما اللذيـْنِ شُهِرَ عنهما ببـركة هذا الدعاء التفنن في معرفة الغامض من المعاني الباطنة التي تتجاوز ظواهر الألفاظ الواضحة.

وقد استطاع الأشاعرة باعتماد هذا النوع من العلم حمل الألفاظ المتعلقة على سنن حقيقتها ومقتضاها ليـردوا بلحاظ أصل التنزيه بعض الظواهر المتعلقة بأخبار الذات والصفات التي لم يُرَد من سياقها معاني ألفاظها الظاهرة التي حملها منكرو المجاز من المشبهة على المتبادر منها، فنسبوا لله تعالى منكرا من القول  أفاد بادي الرأي في حق الله تعالى التحديد والتمثيل، والتبعيض والتجزيء والحركة والانتقال والملامسة والرؤية في الدنيا بالعيـن الفانية المنتهية حتما عند التأمل بتثبيت عقيدة التجسيم التي تنعت الله تعالى بالنعوت المحسوسة، وتصفه بصفات العالم المحدودة التي يبطلها جميعا قول

الله تعالى: ﴿وَلمْ يكن لهَّ كفُؤاً احَد﴾ [الإخلاص: 4]،

وقوله: ﴿ليْسَ كمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السميع البصير﴾ [الشورى: 9]،

وقوله ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ [النحل: 74]،

وقوله ﴿رَّبُّ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَٰدَتِهِۦۖ هَلْ تَعْلَمُ لَهُۥ سَمِيّاٗۖ﴾ [مريم: 65].

وإن ذيلت الإثباتات الخبـرية التي ساقها الرواة ولو بالمعنى المستحضُر عند الأداء في غياب الأصول أحيانا بنفي الكيف لدفع إيهام الوقوع بإعمال الظواهر في فتنة التشبيه التي يـنتفي معها التوحيد المطلوب من المكلفيـن…

وقد  أبطل الشيخ أبو الحسن الأشعري هذا المنحى الاعتقادي المعتمد على ظواهر الألفاظ التي تفهم منها الجسمية الصريحة، فأكد على المسلم العقدي الذي لا يختلف عليه الموحدون الصادقون المنزهون ألا وهو تنزيه الله سبحانه عن التجزؤ والقسمة المستفادة من ظواهر بعض الأخبار المسندة، التي يستغلها من لا يتورّعون عن إسناد فهومهم المقتضية للجسمية إلى الكتاب الكريم والسنة النبوية، والقول بأن لله سبحانه: كم، وكيف، ووضع، وأيـن[11]، وحد، وبكونه سبحانه متحيزا في جهة، المؤكدة بالتـزام بإضافة «بذاته» على الاستواء، اعتمادا على معاني محتملة غيـر مرادة لله تعالى، ولا لرسوله ﷺ ،تقتضيها الرواية في لفظها، وتلامحها في جاري استعمالها، دون أن يـراعوا سياقها وسباقها ولحاقها وأسباب ورودها كما هي عادة العقلاء من المتكلميـن في الفهم عن الله وعن رسوله ﷺ، وفق الأصول العامة القاطعة بوجوب التنزيه الذي لا يقبل التجسيم بحال .

وقد حملهم تقصد التنزيه، الراجع إلى استحالة أن يحدث في ذات الله تعالى تغيـر بدواعي الانفعال المحدثة في كونه، الذي جنح للقول به بعض المجسمة من الكرامية وبعض غلاة المنتسبيـن إلى الحنابلة إلى حمل الأخبار عن الذات الأحدية على أحسن المحامل التي يدفع بها التمثيل، ويـرفع بها توهم التبعيض، الذي وقع فيه بعض الناس، ممن جهل موقف السلف من نصوص الصفات، وغفل عن طرق تفهم المعنى المراد من اللفظ، باعتماد أسلوب العرب فيما تعارفت عليه من فنون الخطاب.

وقد بيـن القاضي عياض مرجع ذلك في قوله: وإنما جاء خلاف ذلك؛ أي ما كان عليه أبو الحسن الأشعري في المعتقد، من قوم من أصحاب أبي حنيفة كان مذهبهم الاعتـزال في الأصول، كعبد الجبار قاضي الري، والتنوخي، وأمثالهم من غلاة المعتـزلة ودعاتهم .ومن قوم يـنتسبون إلى مذهب أحمد بن حنبل، غلوا في تـرك التأويل، حتى وقعوا في فتنة التشبيه، وأكثرهم ليس من العلم بسبيل، ولكنهم لانتسابهم إلى السنة والحديث، قبلت العامة أقوالهم، ولم تنفر منها نفورها من أولئك الأخر، فقرروا عند العامة أنه متبدع ،وأضافوا إليه من المقالات ما أفنى عمره في تكذيب قائلها وتضليله[12].

وهذا الذي ألجأ حراس العقيدة من سلف الأمة الأوفياء لوراثتها إلى الجمع بيـن الإثبات للصفات الخبـرية ونفي التكييف لمعانيها اللفظية، ورد الظواهر التوصيفية التي تشبه الله بمخلوقاته، بحملها على محاملها التي تقتضيها لغة العرب ومصارف لسانها، ومواقع بيانها، وردوا ما يضادها مما يخالف التنزيه والتمجيد. وشرطوا لبيان صحيح الاعتقادات، خمسة شروط لا مناص منها لقبول الخبـر الذي ورد فيه وصف لله تعالى، أو تنصيص على اسم من أسمائه الحسنى التي تعبد الخلق بدعائه بها. تصدع الشبهة، وتجلي الغمة، وتكشف الحيـرة بإذن الله تعالى.

أولها: أن يثبت التصريح بها في آية أو حديث مقطوع به[13]؛ أي أن يكون الخبـر متواتـرا، أو في حكم المتواتـر الحقيقي الذي تناقل معناه العامة عن العامة، لا تعريفه الاصطلاحي الذي لا واقع له في المنقول من الرواية الواقعة على شرط الاحتجاج الذي يجوز التعبد بحكمه، والخضوع لدلالة لفظه؛ «لأن أخبار الآحاد توجب العمل لا العلم، وغايتها أن تثبت بها أحكام الفروع»[14] «فلا يثبت بها أصل، ولا يقدح بها في أصل، وإنما يقدح في الشرائع ما تثبت به الشرائع»[15]، «ولهذا قال أكثر طوائف المسلميـن: لا تثبت بأخبار الآحاد صفة الله، لأن مسائل الأصول القطعية لا تثبت إلا بقاطع»[16].

ثانيها: ألا تكون ما يدعى أنها صفة جاء بها الخبـر من قبيل الإطلاقات المضافة إلى الله تعالى في سياق بيان آياته في خلقه.

وقد بيـن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله هذا الأصل في التوصيف العقدي المتعلق بذات الله تعالى في معرض انتقاده لغلاة الحنابلة الذيـن ادعوا الانتساب إلى السلف: إنهم سموا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات، وليس كل مضاف صفة، فإنه قال تعالى: ﴿وَنفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر: 29]، وليس لله صفة تسمى روحا، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة[17].

ثالثها: ألا تفصل اللفظة عن سياقها التي وردت فيه؛ لأن السياق أحد محددات الدلالات المرادة من الخطاب التي لا تتبيـن استقلالا، وقد بيـن أهمية مراعاته الإمام العز ابن عبد السلام رحمه الله في قوله: السياق مرشد إلى تبيـن المجملات وتـرجيح المحتملات وتقريـر الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكل صفة وقعت في سياق الذم، كانت ذما فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم

صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال، مثاله: ﴿ذقِ اِنكَّ أنَتَ الَعَزِيزُ الُكَرِيمُ[الدخان: 46] أي الذليل المهان لوقوع ذلك في سياق الذم… [18].

رابعها: ألا يدخلها احتمال المجاز أو التأويل[19]، أي ألا يكون خارجا مخرج التمثيل الذي يخالف في ظاهره التنزيه والتمجيد. كقول الله تعالى:﴿الَلَّه نوُرُ السموات وَالَارْ ِض [النور: 35 ]، لإجماع الموقنيـن على أن النور الذي نراه – اُلذي يشع ضياء- في الأرض والسماء لا يكون راجعا إلى الباري تعالى، ولا صفة ذاته، ولا يكون بمعنى هو نور ويفهم منه ما يفهم من اسم الأجسام المنيـرة اللطيفة، فإن الله تعالى يتنزه عن ذلك، ويعتقد أنه يـنفصل من نور ذاته، فكل هذا صفة المحدثيـن، بل هو خالق كل نور، ومنور كل ذي نور[20]. خامسها: ألا يكون من تصرف الراوي إذا جاءت في حديث[21]؛ أي ألا يتصرف الرواة في سياقه، ولا يتدخل النماة بفصله عن سباقه أو لحاقه، فيؤدى لفظه المقصود في الاعتقاد بالمعنى الذي قد لا يكون مرادا للاتفاق على التوقيف في التوصيف.

ولذلك قال الحافظ أبو بكر البيهقي: من الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ -التي تعلقت بتوصيف الله تعالى-  التي تستشنعها النفوس، إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها، وأن مذهب كثيـر من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ، وكل منهم يـرويه على حسب معرفته، ومقدار فهمه، وعادة البيان من لغته، وعلى أهل العلم أن يلزموا أحسن الظن بهم، وأن يحسنوا التأني لمعرفة معاني ما رووه، وأن يـنزلوا كل شيء منه منزلة مثله، فيما تقتضيه أحكام الديـن ومعانيها، على أنك لا تجد بحمد الله منه شيئا صحت به الرواية عن رسول الله ﷺ، إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام، ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة[22]».

خامسها: ألا يستعمل القياس فيها إذا ورد بها النص يقيـنا، وأثبتت المعارضة النقدية المستقصية نبويتها، وأكدت سلامة بنيتها الموافقة لهيئة صدورها، من تصرف بعض الرواة الذيـن عرفوا بالتساهل في نسبة اللفظ المتصرف فيه إلى النبي ﷺ تشبعا بالمعنى، واستـرواحا لما يدل عليه[23].

المرتكز الثالث: التوسط والاعتدال

من أهم آثار التـزام المغاربة بمذهب الإمام مالك بن أنس الذي بنى اعتقاده على نصوص الوحييـن، ثم على متعلِّقات الإيمان المستندة إلى اعتقاد علماء المديـنة، الذيـن أجمعوا على أنه قول وعمل، يزيد بالطاعات، ويـنقص بالسيئات، وأن بعضه أفضلُ من بعض ،وتقيدهم بعقد الأشعري، وروح مناظراته للمتفرقيـن عن أهل السنة والجماعة، انتفاءُ البدعة عن أعلامه وصحة الاعتقاد في أصحابه – التي حمتهم – مع ما عقلوا عن المذهب من التشديد في الابتداع، من نفوذ أهواء الجفاة والغلاة إلى أئمة المالكية، الذيـن حموا أنفسهم ومن والاهم في البقاع التي تـرأسوا فيها، وتولوا فيها شأن الحكم والقضاء والفتيا ،من الوقوع في فخ المشبهة المفتونيـن بالظاهر، ومن تعطيل المؤولة المسرفيـن في التأويل الباطن، وأعانتهم على محو آثار الابتداع الذي شاع فيهم بالقوة عن طريق أهل الرفض ،وأصحاب فتنة الخروج المبتدعيـن الذيـن زرعوا التحريف والتبديل وسوء التأويل، وعزموا على محو مذهب مالك بالقوة حتى نصره الله تعالى بقوم بحبهم الله تعالى ويحبونه.

وقد جعلهم هذا الاعتقاد الوسط، الذي اختيـر في الزمن الأول على علم، يحسنون الظن بالمسلميـن، ويحذرون من فهوم الخوارج المارقيـن الذيـن ابتلوا بفتنتهم، وامتحنوا بشدة بأسهم التي تـرتبت على ظهور مقالاتهم، وأثمرت أنواع العدوان، وفتنة منازعة السلطان، وإفساد العمران..

وقد شمل التوسط بيـن الغلاة والجفاة من مجموع المتفرقيـن عن مسلك الجماعة من الإسلامييـن الذي طبع عقد الأشعري المجمع عليه، كبـريات مباحث الاعتقاد التي اختلف حولها المصلون، والتي تشمل: القول في ذات الله تعالى، والقول في صفاته، والقول في أفعاله، والقول في الوعيد، والقول في الإيمان، والقول في القرآن، والقول في رؤية الله تعالى، والقول في إمارة المؤمنيـن.

أما ذاته تعالى فمعتقدهم فيها أن الله عز وجل أول الموجودات جميعا وآخرها، وأنها صدرت منه وإليه تعود، وأنه واحد لا يشبه شيئا من هذه الموجودات بوجه من الوجوه[24]، وأنه لا يحس بالحواس، ولا يقاس بالناس، كما هو بيـن في قول الله تعالى:﴿ليْسَ كمِثْلِهِ شيء [الشورى:9] [25]، وأنه لا يقبل تحيزا وافتراقا وانضماما. وقوله ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن له كُفُؤاً اَحَدٞ [الإخلاص: 3-4]، وقوله ﴿ وَهُوَ اَ۬لذِے يَبْدَؤُاْ اُ۬لْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِۖ وَلَهُ اُ۬لْمَثَلُ اُ۬لَاعْل۪يٰ فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ وَهُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُۖ [الروم:26]، الذي يعني أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء، فذلك المثل الأعلى، تعالى ربنا وتقدّس[26].

أما صفاته تعالى الدالة على كمال ذاته، فلا نهاية لها[27]،  عند التحقيق، والتي أثبتها الله تعالى لنفسه عند المحققيـن من المعتقديـن الذي بـرأهم الله تعالى وصمة التجسيم والتحديد، فمنها النفسية الواجبة للذات، وهي الوجود، ثم السلبية وهي: القدم، والبقاء[28]، ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية. ثم صفات المعاني وهي: القدرةوالإرادة، والعلم والحياة، والسمع، والبصر، والكلام. وسميت بذلك لأن هذه الصفات تدل على معنى زائد على ذاته الأحدية سبحانه وتعالى.

ومجموع هذه الصفات بتقسيماتها الصناعية المعتمدة عند أهل السنة والجماعة «عبارة عن حال من أحوال الذات[29]»، التي تستحيل بدونها[30]، كما يستحيل عليها العدم[31]، «فهو إذا منها، فعدمها عدمه، ووجودها وجوده، وأنه تعالى بذاته وصفاته قديم لأن كل صفة منها بانفرداها قديمة[32]»، وأنها بمجموعها ما علم منها وما لم يعلم متحققة في الاعتقاد السليم بشرط التنزيه ونفي التشبيه وطرد التمثيل وإحالة التجزئة والتبعيض.

لقول الله تعالى: ﴿وَلمْ يكَن له كفُؤاً احَد﴾ [الإخلاص:4]، ولقوله:﴿ليْسَ كمِثْلِهِ شيَء وَهُوَ الَسَّمِيعُ الُبَصير﴾ [الشورُى:9]، ولقوله: ﴿ فَلَا تضرِبوُاْ لِلِه اِلَامْثَالَ﴾ [النحل:74]، وقوله:﴿هَلْ تعْلمُ له سَميّاً﴾ [مريم: 65]. ولذلك نفت أضدادها من العدم والحدوث والفناء والافتقار، والُمماثلة للحوادث، والصمم والعمى، والبكم.

وأما أفعاله تعالى وتقدس فتنسب إلى الله تعالى إرادة وخلقا بإرادة قديمة، لأنه تعالى ألحق بنفسه خلق الأفعال، في قوله:﴿ ذَٰلِكُمُ اُ۬للَّهُ رَبُّكُمْۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَےْءٖ فَاعْبُدُوهُۖ وَهُوَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ وَكِيلٞۖ﴾ [الأنعامُ:103]، وفي قوَله:﴿وَاللَّه خَلقَكُمْ وَمَا تعْمَلوُنَ﴾ [الصافات:96]، ولم يضف سبحانه إلى عباده خلق شيء[33]، وكيفُ يخلقون على جهة البدء وهو مخلوقون مبتدعون على غيـر مثال سابق، مفتقرون إلى طَوْل منشئهم مستسلمون لتدبيـر رازقهم، خاضعون لإرادته في شأنه؛   راضون بتصرفه بمشيئته إنما أضاف إليهم كسب أعمالهم بإرادة محدثة، ولو كانوا خالقيها حسب إرادتهم، لكان قوله ،«جزاء بما كانوا يخلقون، أبلغ في الحجة عليهم؛ لأن الخلق أبلغ في استحقاق الجزاء من الكسب…[34].

ومن أصرح ما يدل على الوسطية في الاعتقاد في أفعال الله تعالى قوله سبحانه:﴿لَا يكلفُّ الُلَّه نفساً اِلَّا وُسْعَهَا لهَا مَا كسَبَتْ وَعَليْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 285]، التي تدل علُى استبداد الله بالخلق وتمييز المكلف بالاختصاص بالكسب.

وقد بيـن هذا الوجه المعلوم في الآية العلامة الطاهر بن عاشور في قوله: وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتسابا فإن الله وصف نفسه بالقدرة، ولم يصف العباد بالقدرة، ولا أسند إليهم فعل قدر وإنما أسند إليهم الكسب، وهو قول يجمع بيـن المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد …[35].

وأما الوعيد الذي أوعد الله به من يفعل الشر من المكلفيـن عن قصد وسابق إصرار، فمذهب أبي الحسن الأشعري فيه، أن صاحب الكبيـرة إذا خرج من الدنيا من غيـر توبة يكون حكمه إلى الله تعالى، إما أن يغفر له بـرحمته، وإما أن يشفع فيه النبي ﷺ إذ قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وإما أن يعذبه بمقدار جرمه، ثم يدخله الجنة بـرحمته، ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار، لما ورد به السمع بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان..[36].

وهذا الاعتقاد مستفاد من نصوص صريحة وصحيحة، بيـن فيها النبي ﷺ أن صاحب الكبيـرة إلى مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، مثل ما رواه عبادة بن الصامت أنه سمع النبي ﷺ يقول: خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة[37].

وأما الإيمان المؤسس على الإقرار والمعرفة والتسليم، فالمقصود منه عند الأشاعرة أهل السنة والجماعة، هو التصديق بالجنان، وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدق بالقلب، أي أقر بوحدانية الله تعالى، واعتـرف بالرسل تصديقا لهم فيما جاؤوا به من عند الله صح إيمانه، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك[38]..

وهذا المذهب وسط بيـن من يكفر بالمعصية كالخوارج، وبيـن من يقول إن التصديق وحده كاف للنجاة دونما حاجة إلى عمل قولي أو فعلي الذي تقتضيه إقامة المفتـرضات كالمرجئة.

وقد بيـن هذه الوسطية الإمام أبو الوليد الباجي في قوله: الصحابة- رضي الله عنهم- كان جميعهم على مذهب أهل السنة يقولون إن المذنبيـن من المؤمنيـن في المشيئة، ثم حدث الخوارج فكفروا بالذنوب، ثم حدثت المعتـزلة فاعتـزلوا الطائفتيـن بأن قالوا إن المرتكب للكبائر ليس بمؤمن ولا كافر، وإنما هو فاسق لكنه مخلد في النار، بحجج داحضة، لا تنصر قائلها، ولا تنفع المدلي بها.

وأما المرجئة الذيـن يدعون أن الإيمان قول بلا عمل يـريدون أن بنفس الإيمان وهو التصديق يستحق النجاة من النار ودخول الجنة، وإنما مذهب أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يـريدون أن الإيمان الذي يستحق به النجاة من النار ودخول الجنة، فسموا الأعمال إيمانا وهي في الحقيقة شرائع الإيمان التي تنجي من النار بامتثال ما أمر الله تعالى به منها، والإيمان في الحقيقة هو التصديق لكنه من وجد منه الإيمان دون شرائعه فلا يقطع بأنه يـنجو من النار، وإنما يقطع بأنه يدخل الجنة إما بأن يغفر الله له ابتداء فيدخله الجنة أو يعاقبه على تـرك العمِل، ثم يدخله الجنة بفضل رحمته، قال الله عز وجل ﴿إنَّ الَلَّه لَا يغَفِرُ أنْ يشرَكَ بهِ وَيغَفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يشَّاءُ [النساء: 47] فهذا معنى قول أهل السنة إن الإيمان قول وعمل[39].

وأما القرآن فمعتقد كافة أهل السنة فيه: أنه أكمل الكتب التي أنزلها الله تعالى، وأنه نزل به الروح الأميـن على قلب النبي ﷺ فأعجز به الفصحاء من نشئه[40]، وأظهر به ما يـريده من خلقه قولا وعملا واعتقادا وسلوكا، وأنه دال على كمال أوصافه ،«الحاصلة في حقه على ما يليق به»[41]، وأن كلامه كسائر صفاته في أنه لا تشبه واحدة منها صفات المخلوقيـن، ولا تشاركها إلا في الاسم… وأن القرآن في صدور المؤمنين وفي تلاوة التاليـن ،وفي كتابة الكاتبيـن موجود بيـن الناس، مسموع متلو، محفوظ مكتوب، لا يأتيه الباطل من بيـن يديه ولا من خلفه..[42].

وأما الرؤية الجائزة بعلة الوجود فهي من أعظم نعيم في الآخرة، يخلقها لعباده ليـروه بها[43]، بغيـر عيـن الدنيا، ومعتقد أهل السنة فيها أنها من زيادة النعيم الذي يكرم الله به أولياءه، الذيـن سبقت لهم منه الحسنى بكيفية مجهولة خارجة عن تصرف الجارحة الدنيوية التي يكون بها الإبصار لما تنتهي إليه من الموجودات في محيطها الداخل تحت الإدراك، ولم يقبلوا اعتراض المعتزلة عليهم بظاهر عموم قول الله تعالى:﴿ لَّا تدْرِكُه الأبصار وَهُوَ يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾ [الأنعام: 104]، لأن هذا العموُم  خصه الله تعالى في قوله: ﴿وُجُوه يوْمَئِذِ ناَّضِرَةٌ إلىَٰ رَبهِّا ناَظِرَة﴾ [القيامة:21-22]، وهو مثل قوله تعالى: ﴿قُل لَّا يعَلمُ مَن فِي السموات وَالَارْضِ اِلغَيْبَ ِإِلَّا الَلَّه وَمَا يشعُرُونَ أيَاَّنَ يبْعَثُونَ﴾ [النمل: 67] الذي خص بقول الله تعالى: ﴿  تِلْكَ مِنَ اَنۢبَآءِ اِ۬لْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرِۖ اِنَّ اَ۬لْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَۖ﴾ [هود: 49].

وأما الإمامة، فالواجب عندهم اتخاذ الإمارة ديـنا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات[44]. وقد وقع عليها الاتفاق عن دليل ضروري من الشرع[45]، لإجماع الصحابة على تقديم خليفة رسول الله ﷺ أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد اختلاف وقع بيـن المهاجريـن والأنصار في سقيفة بني ساعدة، ..فلو كان فرض الإمامة غيـر واجب، لا في قريش ولا في غيـرهم، لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيـرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب، ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غيـر واجب عليـنا ولا عليك، فدل على وجوبها، وأنها ركن من أركان الديـن الذي به قوام المسلميـن والحمد لله رب العالميـن[46]».

ولذلك يثبت في حق أميـر المؤمنيـن بمقتضى إلزامية البيعة الشرعية، الالتـزام بما هو منوط به من الطوع والانقياد للأحكام التي يأمر بها، لقوله ﷺ: «…آمركم بخمس الله أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبـر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يـرجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم. فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلميـن المؤمنيـن عباد الله»[47].

المرتكز الرابع: التحفظ من التكفيـر بلحاظ التقصيـر في القيام بحق بعض الأعمال المكملة للإيمان

اعتبـرت هذه الشريعة السمحة من المكلف ما يدل على إسلامه بلحاظ ظواهر أحواله الدالة على صدق انتسابه إلى الإسلام، وقبوله الدخول في جماعة المسلميـن، كما يدل على ذلك صريح قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪يٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ اَ۬لْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرا [النساء:123].

ووجه الدليل من الآية، أن عمومها يقتضي أن كل من عمل عملا صالحا وهو مؤمن فإنه يدخل الجنة، فيدخل في عمومها من عمل صالحا وكبيـرة وهو مؤمن، وإذا ثبت أن من آمن وعمل صالحا وكبيـرة يدخل الجنة، فلا يمكن ذلك إلا إذا قلنا: إن صاحب الكبيـرة لا يخلد في النار.. وإذا ثبت أن كل من آمن وعمل صالحا لا يخلد في النار، لزم أن كل من آمن لا يخلد في النار وإن لم يعمل صالحا، إذ لا قائل بالفرق في المؤمن الذي يذنب كبيـرة بيـن أن يعمل صالحا أم لا[48].

ولا يجوز جعل العمل من الإيمان، لأن الله غايـر بيـنهما حيـنما قال: ﴿وَمَنْ يُّومِنۢ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَٰلِحاٗ نُّكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَنُدْخِلْهُ جَنَّٰتٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ ذَٰلِكَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ﴾ [التغابن:9]  وقال تعالى ﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اُ۬لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  [البقرة:182]. وقال تعالى ﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمُۥٓ إِلَي اَ۬لصَّلَوٰةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُۥٓ إِلَي اَ۬لْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمُۥٓ إِلَي اَ۬لْكَعْبَيْنِۖ[المائدة:7]، سماهم المؤمنين بدون العمل، وقال تعالى: ﴿وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً اِلَّا وُسْعَهَآۖ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ [الأعراف:41]، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، وبيـن المعطوف والمعطوف عليه مغايـرة؛ ولأن الأعمال الصالحة لو كانت من جملة الإيمان لما جاز ورود النسخ عليها، لأن الإيمان لا يقبل النسخ، ولأن الأعمال الصالحة لو كانت من جملة الإيمان لما مات أحد مستكمل الإيمان، لأنه ليس لها حد معلوم، وما ليس له حد معلوم لا نهاية لكماله، ولا غاية لأقصاه، ولأن من أتى بالإقرار والتصديق ومات من ساعته قبل أن يأتي بالطاعة أو يمتنع عن المعصية فإنه يموت مؤمنا، فثبت أن الأعمال الصالحة ليست من جملة الإيمان[49].

وكان من آثار أخذ المغاربة بهذه العقيدة الممثلة لوراثة السلف المنتهية النبي ﷺ، الالتـزام بهذه الوسطية في هذه المشمولات والأخذ بهذا الاعتدال في الاعتقادات، لأن هذه العقيدةَ قربت وصف الإيمان استنادا إلى اعتقاد علماء المديـنة، الذيـن أجمعوا على أنه قول وعمل، يزيد بالطاعات، ويـنقص بالسيئات، وأن بعضه أفضلُ من بعض .والنتيجة الكبـرى التي تميز المنتسبيـن لهذا المعتقد في هذا العصر عصر الهرج، أنه بمقتضى هذه العقيدة، لا يجوز الطعن في أحد من أصحاب رسول الله ﷺ، ولا اللمز لهم بسبب ما وقع بيـنهم من خلاف مرجعه إلى الاجتهاد في مراعاة المصالح، ولا يجوز لأحد أن يكفر أحدا من المسلميـن على أساس ذنب ارتكبه، أو إثم اجتـرحه، وأن المسلميـن الذي صح منهم النطق بالشهادتيـن، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ،ويجيـر عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم.

لذلك أولوا الأحاديث الموهمة للتكفيـر بالذنب التي استند إليها الخوارج، ومن وافقوهم في بدعة التكفيـر من بعض المنتسبيـن لمذهب الإمام أحمد رحمه الله، مثل قوله ﷺ: كفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله تبـرئ من نسب وإن دق[50]. وقوله: قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق[51]؛ لأنه يحمل عندهم على الكفر العملي الذي لا يـنتفي معه أصل الإيمان.

ومن جميل آثار الصدور عن هذا المذهب في مشمولات الإيمان أن عموم المقتدى بهم من أهل العلم، المرجوع إليهم في الفتوى والقول في الديـن لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، ولا يخلدون في النار من يحافظ على الوضوء من عموم الموحديـن.

كيف وهم يذكرون قول إسحاق بن محمد الفَرْوِي المدني الفقيه: «كنت عند مالك بن أنس، فسمعت حماد بن أبي حنيفة، يقول لمالك: يا أبا عبد الله، إن لنا رأيا نعرضه عليك، فإن رأيته حسنا مضيـنا عليه، وإن رأيته غيـر ذلك كففنا عنه، قال: وما هو ؟ قال: يا أبا عبد الله، لا نكفر أحدا بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا، قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس…[52]».

ثم كيف وقد قال شيخهم أبو الحسن الأشعري عند حضور أجله لجليسه زاهر بن أحمد السرخسي: أشهد علي أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيـرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قال الذهبي: وبنحو هذا أديـن، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي ﷺ: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»[53]. فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم[54].

والحمد لله رب العالميـن.

*عضو المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

الهوامش

[1] قـال عبـد الواحـد المراكشـي: خـرج ابـن تومـرت… متوجهًـا إلـى المغـرب، حتـى أتـى مدينـة تلمسـان، فأقـام بمسـجد بظاهرهـا يعـرف بـ العُبَّـاد جاريًـا علـى عادتـه، وكان قـد وضـع لـه فـي النفـوس هيبـة وفـي الصـدور عظمـة، فـلا يـراه أحـد إلا هابـه، وعظـم أمـره؛ وكان شـديد الصمـت كثيـر الانقبـاض؛ إذا انفصـل عـن مجلـس العلـم لا يـكاد يتكلـم بكلمـة…  ولـم يـزل مقيمًـا بتلمسـان وكل مـن بهـا يعظمـه مـن أميـر ومأمـور، إلـى أن فصـل عنهـا بعـد أن اسـتمال وجـوه أهلهـا وملـك قلوبهـا؛ فخـرج قاصـدًا مدينـة فـاس؛ فلمـا وصـل إليهـا أظهـر مـا كان يظهـره، وتحـدث فيمـا كان يتحـدث فيـه مـن العلـم. وكان جـل مـا يدعـو إليـه علـم الاعتقـاد علـى طريـق الأشـعرية. وكان أهـل المغـرب -علـى مـا ذكرنـا- ينافـرون هـذه العلـوم، ويعـادون مـن ظهـرت عليـه، شـديدًا أمرهـم فـي ذلـك؛ فجمـع والـي المدينـة الفقهـاء وأحضـره معهـم، فجـرت لـه مناظـرة كان لـه الشُّـفُوف فيهـا والظهـور؛ لأنـه وجـد جـوًّا خاليًـا، وألفـى قومًـا صيامًـا عـن جميـع العلـوم النظريـة خـلا علـم الفـروع. فلمـا سـمع الفقهـاء كلامـه أشـاروا علـى والـي البلـد بإخراجـه لئـلا يفسـد عقـول العـوام؛ فأمـره والـي البلـد بالخـروج؛ فخـرج متوجهًـا إلـى مراكـش. المعجـب فـي تلخيـص أخبـار المغـرب ص: 138.

[2] الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/ 196

[3] النبوغ المغربي 1/77.

[4] انظر عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، ص: 27 – 28.

[5] انظر نصها في كتاب: عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية، ص: 559.

[6] أتبـاع محمـد بـن كـرام السـجزي الـذي قـال فـي الشهرسـتاني: ونبـغ رجـل متنمـس ـ مستتـر بالزهـد مـن سجسـتان يقـال لـه أبـو عبـد الله محمـد بـن كـرام، قليـل العلـم، قـد قمـش مـن كل مذهـب ضغثـا وأثبتـه فـي كتابـه. وروجـه علـى أغتـام غرجـة، وغـور، وسـواد بـلاد خراسـان، فانتظـم ناموسـه وصـار ذلـك مذهبـا، وقـد نصـره محمـود بـن سـبكتكين السـلطان، وصـب البـلاء علـى أصحـاب الحديـث والشـيعة مـن جهتهـم، وهـو أقـرب مذهـب إلـى مذهـب الخـوارج، وهـم مجسـمة، وحـاش غيـر محمـد بـن الهيصـم فإنـه مقـارب. الملـل والنحـل 1/ 31.

[7] الملل والنحل 1/ 105.

[8] الإيمان لابن منده 1/331.

[9] قـال علـي بـن خلـف الكاتـب فـي مـواد البيـان 155: قـد تتداخـل الحقيقـة والمجـاز فيشـتبهان، والطريـق إلـى تمييـز أحدهمـا عـن الآخـر أن يراعـى الـكلام، فمـا كان مفتقـرا إلـى إحضـار ذكـر الأصـل فهـو مجـاز، ومـا اسـتغنى عـن مراجعـة أصلـه لكثرتـه وظهـوره فهـو حقيقـة…

[10] طبقات الشافعية الكبـرى 3/365.

[11] انظر مصارع المصارع ص: 57.

[12] تـرتيب المدارك 5/26.

[13] الفتح المبين بنقد الأربعين لأبي إسماعيل الهروي لعبد الله بن الصديق الغماري.

[14] الانتصارات الإسلامية، ص: 213.

[15] الانتصارات الإسلامية، ص: 185.

[16] الانتصارات الإسلامية، ص: 213.

[17] دفـع شـبه التشـبيه 34، وانظـر تفسـير التحريـر والتنويـر للعلامـة الطاهـر ابـن عاشـور، دراسـة منهجيـة نقديـة للدكتـور جمـال محمـود أبـي حسـان. 2/199.

[18] الإمام في بيان أدلة الأحكام، ص: 161.

[19] الفتح المبين بنقد الأربعين لأبي إسماعيل الهروي لعبد الله بن الصديق الغماري.

[20] مشارق الأنوار 1/76. وانظر مطالع الأنوار 1/322.

[21] مطلع الفتح المبين بنقد الأربعين لأبي إسماعيل الهروي لعبد الله بن الصديق الغماري.

[22] الأسماء والصفات 2/20.

[23] قـال الإمـام الخطابـي رحمـه الله: الأسـماء والصفـات لا يتجـاوز فيهـا التوقيـف، ولا يسـتعمل فيهـا القيـاس، فيلحـق بالشـيء نظيـره فـي ظاهـر، وضـع اللغـة، ومتعـارف الـكلام، فالجـواد: لا يجـوز أن يقـاس عليـه السـخي، وإن كانـا متقاربيـن فـي ظاهـر الـكلام، وذلـك أن السـخي لـم يـرد بـه التوقيـف كمـا ورد بالجـواد، ثـم إن السـخاوة موضوعـة فـي بـاب الرخـاوة والليـن، يقـال: أرض سـخية وسـخاوية إذا كان فيهـا ليـن ورخـاوة، وكذلـك لا يقـاس عليـه السـمح لمـا يدخـل السـماحة مـن معنـى الليـن، والسـهولة. وأمـا الجـود فإنمـا هـو سـعة العطـاء مـن قولـك جـاد السـحاب إذا أمطـر فأغـزر، وفـرس جـواد إذا بـذل مـا فـي وسـعه من الجري. وقد جاء في الأسـماء القوى، ولا يقاس عليه الجلد، وإن كان يتقاربان في نعوت الأدميين لأن باب التجلد يدخله التكلـف، والاجتهـاد. ولا يقـاس علـى القـادر المطيـق، ولا المسـتطيع لأن الطاقـة، والاسـتطاعة إنمـا تطلقـان علـى معنـى قـوة البنيـة، وتـركيب الخلقـة. وفـي أسـمائه العليـم، ومـن صفتـه العلـم فـلا يجـوز قياسـاً عليـه أن يسـمى عارفـاً لمـا تقتضيـه المعرفـة مـن تقديـم الأسـباب التـي بهـا يتوصـل إلـى علـم الشـيء وكذلـك لا يوصـف بالعاقـل وهـذا البـاب يجـب أن يراعـى، ولا يغفـل فـإن عائدتـه عظيمـة، والجهـل بـه ضـار. شـأن الدعـاء، ص: 11.

[24] الاعتقادات للراغب الأصفهاني، ص: 28.

[25] انظر كلاما جيدا للجاحظ فيما لم ينشر من تـراث الجاحظ ـ في الرد على المشبهة، ص:15.

[26] جامع البيان 20/94.

[27] دين الحياء لطه عبد الرحمن.

[28] الـذي يـدل علـى اسـتمرار وجـوده فـي الزمـن الماضـي وبـه يسـمى «الأزلـي»، وعلـى اسـتمرار وجـوده فـي المسـتقبل وبـه سـمي الأبـدي. ولاستمرار وجوده فيهما سمي بالسرمدي. انظر شرح الفصول النصيرية، ص: 76.

[29] الاعتقادات، ص: 83.

[30] التمهيد لقواعد التوحيد، ص: 67.

[31] التمهيد لقواعد التوحيد، ص: 68.

[32] التمهيد لقواعد التوحيد، ص: 67.

[33] وقـد تحـدى الله تعالـى الخلـق فـي محاولـة الخلـق ومـدح نفسـه بتفـرده بـه فـي قولـه: «أفمـن يخلـق كمـن لا يخلـق». قـال الإمـام الجوينـي رحمـه الله: أن الله تعالـى تمـدح بالخلـق وأثنـى علـى نفسـه بذلـك ولـو شـاركه فيـه غيـره لبطلـت فائـدة التمـدح وكذلـك يسـتدل بقولـه تعالـى «خالـق كل شـيء فاعبـدوه» وقولـه تعالـى: «قـل الله خالـق كل شـيء وهـو الواحـد القهـار» ثـم الدليـل مـن حيـث العقـل علـى أن الـرب تعالـى منفـرد بالإيجـاد والاختـراع أن الأفعـال دالـة علـى علـم فاعلهـا والأفعـال الصـادرة مـن العبـاد لا يحيطـون بمعظـم صفاتهـا ولـو كانـوا خالقيـن لهـا لكانـوا محيطيـن بجملـة صفاتهـا. لمـع الأدلـة، ص: 106.

[34] درء القـول القبيـح بالتحسـين والتقبيـح، ص: 208. قـال أبـو الحسـن الأشـعري: اختلـف النـاس فـي معنـى القـول إن الله خالـق: فقال قائلون: معنى أن الخالق خالق أن الفعل وقع منه بقدرة قديمة فإنه لا يفعل بقدرة قديمة إلا خالق، ومعنى الكسـب أن يكـون الفعـل بقـدرة محدثـة فـكل مـن وقـع منـه الفعـل بقـدرة قديمـة فهـو فاعـل خالـق ومـن وقـع منـه بقـدرة محدثـة فهـو مكتسـب، وهـذا قـول أهـل الحـق. مقـالات الإسـلاميين، ص: 538.

[35] وحاصـل معنـى الكسـب، ومـا دعـا إلـى إثباتـه: هـو أنـه لمـا تقـرر أن الله قـادر علـى جميـع الكائنـات الخارجـة عـن اختيـار العبـد، وجـب أن يقـرر عمـوم قدرتـه علـى كل شـيء لئـلا تكـون قـدرة الله غيـر متسـلطة علـى بعـض الكائنـات، إعمـالا للأدلـة الدالـة علـى أن الله علـى كل شـيء قديـر، وأنـه خالـق كل شـيء، وليـس لعمـوم هـذه الأدلـة دليـل يخصصـه، فوجـب إعمـال هـذا العمـوم. ثـم إنـه لمـا لـم يجـز أن يدعـى كـون العبـد مجبـورا علـى أفعالـه، للفـرق الضـروري بيـن الأفعـال الاضطراريـة، كحركـة المرتعـش، والأفعـال الاختياريـة، كحركـة الماشـي والقاتـل، ورعيـا لحقيـة التكاليـف الشـرعية للعبـاد لئـلا يكـون التكليـف عبثـا، ولحقيـة الوعـد والوعيـد لئـلا يكـون باطـلا، تعيـن أن تكـون للعبـد حالـة تمكنـه مـن فعـل مـا يريـد فعلـه، وتـرك مـا يريـد تـركه، وهـي ميلـه إلـى الفعـل أو التـرك، فهـذه الحالـة سـماها الأشـعري الاسـتطاعة، وسـماها كسـبا. وقـال: إنهـا تتعلـق بالفعـل فـإذا تعلقـت بـه خلـق الله الفعـل الـذي مـال إليـه علـى الصـورة التـي اسـتحضرها ومـال إليهـا. التحريـر والتنويـر 3/138.

[36] انظر الملل والنحل، ص: 94 – 103.

[37] الموطأ، كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتـر، بـرقم 268.

[38] الملل والنحل للشهرستاني، ص: 101.

[39] المنتقى 7/205.

[40] قـال الإمـام الجوينـي رحمـه الله: «ومـن آياتـه القـرآن وفيـه وجـوه مـن الإعجـاز منهـا مـا اختـص بـه مـن الجزالـة والنظـم الخـارج عـن جميـع أسـاليب أوزان كلام العـرب، وتحـدى العـرب بـأن يعارضـوا سـورة منـه، وذكـر أنهـم لـو عارضوهـا لبطلـت دعـواه وانكـف عـن التعـرض لهـم، فحاولـوا معارضتـه وهـم اللـد البلغـاء واللسـن الفصحـاء فـي نيـف وعشـرين سـنة، فلـم يتـأت لهـم معارضـة. مـن وجـوه الإعجـاز اشـتمال القـرآن علـى قصـص الأوليـن مـع القطـع بـأن النبـي عليـه السـلام كان أميـا لا يقـرأ ولا يكتـب ولـم يعهـد فـي جميـع زمانـه متعاطيـا لدراسـة كتـب الأوليـن وتعملهـا، ولـم يسـبق لـه نهضـة يتوقـع فـي مثلهـا دراسـة الكتـب، ثـم اشـتمل القـرآن علـى غيـوب متعلقـة بالمسـتقبل كمـا اتفـق إنبـاء القـرآن عنهـا. لمـع الأدلـة، ص: 111.

[41] انظر الفنون 1/89.

[42] الاعتقـادات، ص: 30. واسـتدل أبـو الحسـن الأشـعري علـى إلهيـة القـرآن وأنـه كلام الله تعالـى غيـر مخلـوق بقولـه: … وممـا يـدل عليـه بطـلان قـول القائليـن بخلـق القـرآن: أن أسـماء الله مـن القـرآن، وقـد قـال الله سـبحانه: سـبح اسـم ربـك الأعلـى، الـذي خلـق فسـوى [الأعلـى 1 ـ 2] ولا يجـوز أن يكـون «اسـم ربـك الأعلـى الـذي خلـق فسـوى» مخلوقـا، كمـا لا يجـوز أن يكـون «جـد ربنـا» مخلوقـا. قـال الله تعالـى فـي سـورة الجـن: «وأنـه تعالـى جـد ربنـا مـا اتخـذ صاحبـة ولا ولـدا» [ الجـن 3]، وكمـا لا يجـوز أن تكـون عظمتـه مخلوقـة كذلـك لا يجـوز أن يكـون كلامـه مخلوقـا. الإبانـة، ص: 63 ومـا بعدهـا بتصـرف.

[43] عيـون المناظـرات، ص: 57. وقـال ابـن جريـر الطبـري: وأمـا الصـواب مـن القـول فـي رؤيـة المؤمنيـن ربهـم عـز وجـل يـوم القيامـة، وهـو ديننـا الـذي نديـن الله بـه، وأدركنـا عليـه أهـل السـنة والجماعـة، فهـو: أن أهـل الجنـة يرونـه علـى مـا صحـت بـه الأخبـار عـن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم. صريـح السـنة، ص: 20.

[44] السياسة الشرعية، ص: 217.

[45] نقد الإسلام وأصول الحكم للطاهر ابن عاشور، ص: 9.

[46] الجامع لأحكام القرآن 1/302.

[47] التـرمذي، أبواب الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة. بـرقم 2863.

[48] كتاب الوسيلة بذات الله تعالى وصفاته، ص: 115.

[49] التمهيد لقواعد التوحيد، ص: 131.

[50] الدارمي، كتاب الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه، بـرقم 2861.

[51] التـرمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء سباب المؤمن فسوق، بـرقم 2634.

[52] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/358.

[53] الموطأ، كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، بـرقم 36 بلاغا ووصله ابن عبد البـر في التمهيد 24/318.

[54] سير أعلام النبلاء 15/88.

كلمات مفتاحية : ,