فقه امتحان الابتلاء وما يقتضيه حسن الاعتقاد والائتساء

فقه امتحان الابتلاء وما يقتضيه حسن الاعتقاد والائتساء

فقه الابتلاء وما يقتضيه حسن الاعتقاد والائتساء – الدكتور إدريس بن الضاوية
فقه الابتلاء وما يقتضيه حسن الاعتقاد والائتساء – الدكتور إدريس بن الضاوية

إن من أهم ما ينبغي أن يستذكره العبد المؤمن الشاعر بأماناته والمدرك مسؤولياته والملتزم بتوجيهات أصحاب الأمر الشرعي في مجالاته المنصوص عليها في البيعة الشرعية القاضية في هذه الفترة المُسْتَصْعَبَة بالتزامه حبس نفسه في محله، وتقييد تصرفه في بيته حفاظا على عافيته وعافية غيره في محيطه أن يتفكر فيما بين يديه من نعم الله سبحانه وتعالى التي تعسر على العد ويتأمل رؤوسها التي تعيي عن الإحصاء، أجلها نعمة الوجود، نعمة الله الأولى على هذا الإنسان التي بها كان شيئا مذكورا، ثم نعمة القدرة على التعلم التي بها عرف الأشياء وأدرك منازلها وفقه فوائدها وتيقن مصادرها وأحاط علمه بضرورة انتهائها بآجالها إلى مدبرها تعالى الذي ينتهي إليه كل شيء، ثم نعمة التسخير التي مكن الله بها من كفاية احتياجات النقص وتغذية احتياجات الزيادة التي يتطلبها التعمير الذي جعله الله تعالى من مهام الإنسان في هذه الحياة ليستمر الوجود بتتابع الخلائف،  وتراكم التجارب الناتجة عن صور التفاعل مع مفردات هذا الكون المسخر فضلا من الله تعالى ونعمة. ثم نعمة التكليف التي بها عرف الإنسان حق الله تعالى في الحب والتوحيد والقبول والتسليم لمراده فيه خلقا ورزقا وابتلاء وقَدَرا في هذه الحياة؛ وحق رسوله صلى الله عليه وسلم في الطاعة والاستجابة، وحق الخلق في التعامل معهم بخلق الإنصاف الملزم بأداء ما ينبغي لهم، واليأس مما عندهم، والتعامل معهم بأوجه الإحسان المختلفة التي يعظم بها الأجر، وتزكو بها المثوبة، ويتواصل بالمداومة عليها تمثل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم نموذج رحمة الله تعالى الذي أراد أن تتقلب أصول مكارم أموره في تصرفات أتباعه الموحدين إلى اليوم الذي يصفون خلفه لأخذ مواقعهم في أعالي الجنان.

ثم تثبيت معنى الإيمان بالقدر من جهة الاعتقاد والعلم والعمل حتى يترسخ في القلب بما يحصل به اليقين المتعلق بسلطة الله تعالى في الاختيار الذي قال فيه سبحانه: “وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون” [القصص: 68]، التي تجعل العبد تحت هذه الإرادة المالكة الغالبة القاهرة للخلق على مرادها، فلا تغلب على نفاذ أمرها، ولا تجد مردا لقضائها وإذنها من أي جهة كانت ومن أي قدرة شاءت، كيف والله تعالى محيط بكل شيء، ومالك كل شيء، ومتصرف بإرادته الظاهرة على كل شيء .

ومن ذا الذي يجرؤ على الاعتراض على اختياره أو الخروج من دائرة حكمه، أو التنصل من قدره وقضائه الذي جاء الابتلاء والامتحان على خلاف شهوته ومراده، ومتى جاز ذلك في معتقد المؤمن العالم بحقيقة الألوهية، المستحضر لقول الله تعالى: “لله الأمر من قبل ومن بعد” [الروم: 4].

ثم كيف واليقين حاصل أن في الابتلاء والامتحان بالأقدار المعوصة نعم كثيرة تختفي وراء فقد بعض المحبوبات، وفوت بعض المطلوبات التي تتطلع النفوس إليها في غمرة سكرة استجلاب اللذائذ ودفع صنوف المكاره، ونسيان استحصال الذكرى من فعل الله في الخلق المبصر بحقيقة وجوده واللافت إلى سعة ملكه والموقظ إلى لحاظ بعض مجالات رحمته والمنبه إلى مدارج تربيته للخلق في أفق أن يعرفوا: لم خُلِقوا وإلى أين يصيرون.

وهذا الإدراك الخفي لنعم الله التي يضمرها الابتلاء خاصا كان أو عاما، يورث الذلة لله، والتسليم لحكمه، والإخلاص لدينه، والرضا باختياره، والإنابة إلى رحمته، والفرح باختياره، والاستبشار بتمحيص الذنب ومحوه، واللهج بحمد الله على أخذه وعطائه، والاطمئنان إلى عظيم جزائه وحسن ثوابه، الذي يتضمن في أبعاده الغيبية خير الدنيا والآخرة لمن يستبصر وينظر بإيمانه إلى بواطن الأمور.

إن التصديق بجريان الحكم على العبد وفق تقدير الله تعالى، من شروط الإيمان المعلومة من الدين بالضرورة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان: “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره”[1] وقوله: “لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه”[2].   وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأرزاق مقسومة، وآثار مبلوغة، لا يعجل منها شيء قبل حله، ولا يؤخر منها شيء بعد حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار، وعذاب في القبر ،كان خيرا لك”[3].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تضمين الخير في الأحوال في الرضا والصبر على الاختيار المخالف لهوى النفس ومتمنياتها في قوله: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر   فكان خيرا له”[4].  وفيما رواه وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي قال : أتيت أبي بن ينبغي لنا كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر ولشبابنا على فحدثني بشيء لعل الله جل ثناؤه أن يذهبه جهة الخصوص من قلبي فقال : لو أن الله جل ثناؤه عذب أهل سماواته و أهل أرضه عذبهم و هو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، و لو مت على غير هذا لدخلت النار ، قال: ثم لقيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك”[5].

ومن أيقن بحكمة الله في خلقه، وأقر في نفسه بضعفه وعجزه أقر بجهله عن فهم مضامينها الغائبة في ظواهر التصرفات المقلقة، والتفاعلات المتعبة، وعلم بصحيح يقينه أن الخير كله في الذي قضى الله بحكمته، وأن العبرة بالموقف المستسلم من فعله وتقديره، وحسن الأمل في عاقبة أمره، ومحو وتثبيت ما شاء من شأنه، الذي يتفرد الله تعالى بامتلاك ناصيته، والهيمنة على قريبه وبعيده.

إن من مقتضى الإيمان باختصاص الله بالتقدير أيها الأحبة ـ بحق مالكيته وخالقتيه وغلبته على أمره وتصرفه في شأنه، أن الله تعالى مُفْنٍ ما على هذه الأرض ومبدل الأرض غير الأرض، وأن الشمس تكور والبحار تسجر والكواكب تنتثر و السماء تصير كالمهل وتنفطر فتطوى كما تطوى الكتب، وأن الجبال تصير كالعهن المنفوش، وينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، وكل ذلك كائن كما جاء به الخبر الذي تواتر، ووعد الله صدق و قوله حق[6]؛ وأن هناك يوم آخر له، يجمع الله فيه من رجع إليه من الخلق، تنكشف فيها حقائق آثار أعمال الدنيا القلبية والبدنية، ويمتاز من وَفَّى فيها بأداء حق التكليف المتعلق به، ومن خان في توظيف تصرفاتها فيما ينبغي من العمل المرفوع، والسعي الرافع إلى المنازل التي يتباهى الناس بها في مواقعهم التي انتهوا إليها بسلامة قلوبهم، وصالح أعمالهم؛ وأن السعادة الحقيقية المرتجاة، هي ما يوصل إلى الدرجات السَّىنِيَّة في الآخرة المرتبة على عمل الخير وخير العمل كما قال الله تعالى: “ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون” ]الأنعام 132 [.

وقد أبان عن هذه الحقيقة الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في قوله: “اعلم أن السعادة الحقيقية هي السعادة الأخروية، وما عداها سميت سعادة إما مجازاً أو غلطاً، كالسعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة، وإما صدقاً ولكن الاسم على الأخروية أصدق، وذلك كل ما يوصل إلى السعاد الأخروية ويعين عليه، فإن الموصل إلى الخير والسعادة، قد يسمى خيراً وسعادة”[7].

لذلك ينبغي لنا ولشبابنا على جهة الخصوص ملاحظة صنوف النعم الخفية الظاهرة والباطنة في ظهور هذا الفيروس العالمي القاسي الرهيب، المسمى بكورونا والمصطلح عليه بكوفيد -19 التي يمكن أن يعد منها:

  • التعرف على عز الله تعالى، ومشاهدة غلبة أمره ونفاذ حكمه، وظهور أمره الكاشف عن فقر الإنسان وضعفه وعجزه، واستحضار قبح تشبع الإنسان وتكبره في نفسه.  ومنها إحياء واجب محاسبة النفس على كسبها واكتسابها وبذلها وإنفاقها وصنوف أماناتها وعلاقاتها.
  • ومنها الرجوع بالنفس إلى تذكر حق الأهل والأبناء والأقرباء وأصحاب الفضل، ثم استذكار ذوي الحاجات وأصحاب الفاقات والمسكنات الذين غلبوا عرضا على اقتناء الضروريات واستحضار الأساسيات بالاجتهاد على قدر الوسع بالجود مشاركة في مبادرة أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله التضامنية الفريدة من نوعها في دنيا الناس لمواساة بني قومنا على اختلاف توجهاتهم واختياراتهم ومقالاتهم الذين تأثروا تأثرا مباشرا بهذا القَدَر الجارف، فاحتاجوا إلى ما يتطلبه عيشهم وعيش من يعولون من أهليهم وأقربائهم.
  • ثم منها التحقق بواجب الطاعة لما قررته الأمة من التزام مقتضى النظام العام بقبول حكم الحجر الصحي الضروري المشروع تجنبا للعدوى أخذا وإعطاء، الذي يدل قبوله على رفعة قدر الرابطة الدينية، وعلو مستوى الوعي  بمقصد الوحدة الوطنية، وائتلاف الصف على أساس البر ورعاية المصلحة الشرعية في حفظ مقاصد الدين الكلية، التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مقاصد بعثته، وأسمى مكارم حنيفيته .

*الدكتور إدريس ابن الضاوية رئيس المجلس العلمي المحلي بالعرائش.


الهوامش

[1] مسلم برقم 36.

[2] أحمد 441/6.

[3] أحمد 7/40، ومسلم 2663 واللفظ له.

[4] مسلم برقم 2999.

[5] أحمد 182/5 وأبو داود برقم 4699.

[6] انظر شعب الإيمان للبيهقي 1/235 نقلا عن الحليمي صاحب المنهاج.

[7]  ميزان العمل ص 204.