فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين

فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين

فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين - الدكتور إدريس بن الضاوية
فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين – الدكتور إدريس بن الضاوية

إن الذي يُؤْلِم كثيرا – في هذه الزمن الذي فُتِح فيه باب الكلام في أمر الأمة وفي مختلف الموضوعات بلا شرطٍ ولا قيدٍ ولا خشيةِ عاقبة – جسارة بعض الناس للبث في شأن (الأمن والخوف) المتعلق بالنظام العام دون امتلاك أسباب ذلك، والتي ترجع أصالة إلى معرفة فن البيان، وإدراك مصادر النص، والوعي بطرق إثباته، والفهم العميق لكيفية تنزيله، والتبصر لإمكان وجود معارضه، ولحاظ آثار القول به على أمن الأمة وخوفها المؤسس على ثوابتها الدينية واختياراتها الفقهية المؤصلة برسم العلم.

إن مِن علامات فقه المتكلم في الدين استبصارَ ما ينبغي أن يُراعَى من الكليات المستفادة من النصوص المحكمات التي تقضي على المتشابهات، وصنوف الأخبار المتناقلة في مساق الروايات؛ التي جاءت آحادا لا يُبلغ بها أحيانا اليقين المطلوب في الاعتقادات ومسائل العبادات والمعاملات التي لها طابع التعميم.
ومن أمثلة ذلك في واقعنا هذه الأيام: تجرؤ بعضهم على إنكار الحجرِ الصحي على عموم المواطنين وتقنينِ تطلب المعاش على الراغبين مما اقْتَضَتْه ضرورة هذا الطاعون الجارف المصطلح عليه بكورونا كوفيد 19، الذي لم تكد تخلو منه أرض في هذا العالم الفسيحِ الظاهرِ عَجْزُه إلى الآن عن دفع عدواه المؤلمة المتيقنة المترتبة عادة على اختلاط الناس بمن يحتمل أن يكونوا مصابين، أو عن الاحتكاك بهم ظنا أنهم من المبتلين، واستهجان إغلاق المساجد في وجه المصلين، وتعطيل وظائفها إلى حين، حفظا لأرواحهم ودفعا لخوفهم وتحقيقا لأمنهم وسكينتهم؛ لأن ذلك في زعمهم مخالفٌ لواجب تعظيم شعائر الدين وتَخْريبٌ لبيوت الله المعدة للمُتَقَرِّبين ومُبايِنٌ لما يُوجِبُه أَصْلُ حفظِ شعائر أهل اليقين.

لذلك خاطروا بدعوة الناس إلى التمرد على قرارات حكومتهم، وغامروا بالطعن في فتوى مَشْيَخَتِهِم، وشَذُّوا بالخروج على إجماع بني قومهم الذي اقتضاه منهم الالتزام بشرط البيعة الشرعية القاضية بالحفاظ على أرواحهم وأمنهم وسكينتهم، والملزمة بالتقيد ببنود الطاعة الواجبة في حقهم نحو أميرهم.
والذي حملهم على ذلك عدم استبصارهم ما ورد في صحيح الأثر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال: « إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ». [البخاري برقم 5729]، وقوله شرفه الله وكرم: «لا يوردن ممرض على مصح». [البخاري برقم 5770].

إن مِن عَلَائِم الصدق في النظر والتنزيل التي لا يخطئها المتكلم بعلمٍ حَقَّ عِلْمٍ، إيكَالُ الأمر في هذا الشأن العام لمشيخة العلم التي تُراعي ما تقتضيه أمانات الدين الملزمة من ضرورة ملاحظة الأحوال العامة بالحكمة؛ بحيث لا تفصل فيما يعرض لها إلا بحسب ما تقتضيه النازلة من التدخل المراعي للمصالح المتعلقة بالفرد أو الأسرة، أو الأمة، أو مجال الإنسانية؛ فتتبصر أولويات الناس من خلال ملاحظة مهماتهم ومصالحهم ومفاسدهم، وأصول اجتماعهم، عملا بقول الله تعالى الذي يعد أصلا في مراعاة الأحوال: ﴿وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ [المائدة: 48. ]

ومن أمثلة ضرورة مراعاة الحال التي ينبغي للمتفقه في الدين أن يجعلها بين عينيه ليقيس عليها أشباهها؛ قول ابن رشد رحمه الله: كان ابن شهاب الزهري إذا سُئِل يستفهم السائل ويطاوله، فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له، وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح. ثم قال: وإنه لحسن من الفتوى، فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال في تنزيل الأقوال، فإن من لم يقتل يجب التشديد عليه وسد الباب في وجهه، ومن قتل ينبغي ترغيبه في الرجوع إلى الله، دون أن يعني ذلك إسقاط حق المجتمع في المتابعة من خلال آليات التقاضي التي تقررها الدول.

وفي مراعاة هذا الأصل والاقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث عل الخير، والكف عن الشر، والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها، كانت أعمالاً أو كانت أقوالاً.

إن مما ينبغي أن يراعى مع الأحوال تقدير المآل الذي يعد عند مشيخة العلم المؤهلة للكلام في الشأن العام عنوان الفقه، وأساس الصدق في إحسان تنزيل الأحكام. والمراد بالمآل، التحفظ من الاكتفاء باعتبار حال الفعل دون آجله بإجراء الأحكام على مقتضى ظاهرها دون لحاظ آثار الحكم في الآجل التي قد تكون على خلاف المقصود منها عند التطبيق.

وهو صنيع البصراء الجدراء بمشيخة العلم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي عُلِم من منهجه في ترتيب الخيرات اعتبار المستقبل في تنزيل الحكم على الواقع، ومَرَنَ على اعتباره في مناسبات متعددة ليُبَيِّن للفقيه ضرورة الاحتياط للمآل وعلاجه بما يحقق المصلحة المرجوة من إطلاق الحكم. منها قوله لعائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية، لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين”؛ فراعى صلى الله عليه وسلم مصلحة تأليفهم على مصلحة إدخال ما خرج من البيت عن رسم قواعد إبراهيم عليه السلام.

وقد عد الإمام الشاطبي رحمه الله اعتبار المآل من مقاصد الشريعة عندما قال: « النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة»

ولو تبصر هولاء الأحداث المُحْدِثون الأحوال واعتبروا ببعد نظر أصل المآل ما دعوا مَن تَحْتَهُم مِن الأغمار للخروج عن قرارات أمتهم، ولا استقبحوا إغلاق أماكن تعبداتهم الراجع مؤقتا إلى حماية أرواحهم وأرواح أحبائهم وأقربائهم التي أعظم الله من شأنها في قوله سبحانه: ﴿من قتل نفسا بغير نفسٍ اَو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن اَحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾. [المائدة: 32.]


*- الدكتور إدريس ابن الضاوية، رئيس المجلس العلمي للعرائش، وعضو المجلس العلمي الأعلى، وعضو المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. “فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين”