عام جديد.. وعزم يتجدد لخدمة القارة!

لم يكن الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في دورته السنوية العادية السابعة، بفاس، مجرد محطة روتينية للمصادقة على الأنشطة، بل كان إعلانا صريحا عن دخول المؤسسة مرحلة جديدة استوت فيها على ساقها، وتبلورت فيها معالم رؤية أكثر نضجا وعمقا.
فبرنامج عمل المؤسسة لسنة 2026، كما عرض ونوقش، يحمل في طياته نفسا استراتيجيا مختلفا، يتجاوز منطق تدبير الأنشطة إلى منطق صناعة الأثر ومأسسة النموذج.
إن عام 2026 في أجندة المؤسسة هو عام استثنائي بامتياز. فهو عام الوفاء للأصل، حيث تتجه أنظار القارة السمراء بقلوب خاشعة وعقول نيرة نحو الحدث الأبرز في هذه السنة: مرور خمسة عشر قرنا على ميلاد خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يكتسي هذا الاحتفاء طابعا شكليا أو ظرفيا، بل يستحضر ما دعا إليه أمير المؤمنين، صاحب الجلالة، الملك محمد السادس، حفظه الله في رسالته الملكية السامية من ضرورة جعل هذه الذكرى مناسبة جامعة لإحياء السيرة النبوية واستجماع ما تحمله من أنوار الهداية وقيم الرحمة والوسطية، عبر استنطاق التراث، وإحياء المخطوطات، وتجديد الصلة بالسيرة النبوية العطرة التي شكلت على مر القرون حصنا للهوية الإسلامية الإفريقية.
وهو أيضا عام المأسسة والعمل الجماعي المنظم، ففي عالم يضطرب بالمفاهيم وتتزاحم فيه الفتاوى غير المؤطرة، تختار المؤسسة طريق البناء الرصين عبر تفعيل مجمع المفتين الأفارقة. إنها خطوة نوعية لنقل الفتوى من الاجتهادات الفردية المتناثرة إلى رحابة الاجتهاد الجماعي المؤطر، مستثمرة الوسائط الرقمية الحديثة، لا لمجرد مواكبة العصر، بل لحماية الأمن الروحي للمجتمعات الإفريقية من اختراقات التطرف والغلو، وترسيخ معالم الحياة الطيبة.
وهو كذلك عام الحكامة واستشراف المستقبل، فالمشاريع الاستراتيجية المدرجة في خطة الحكامة والتدبير (2026–2030) تعكس نضجا مؤسسيا واضحا، إذ تهدف إلى هيكلة فروع المؤسسة، وتعزيز التأطير القانوني، ورقمنة التسيير، وتقوية القدرات البشرية، وتطوير قنوات التواصل الداخلي والخارجي، بما يجعل الفروع فاعلا ميدانيا حقيقيا يمتلك الأدوات والآليات لتدبير الشأن الديني بكفاءة واحترافية.
إننا أمام رؤية شمولية للتدين، لا تحبس نفسها داخل الجدران، بل تمتد لتلامس هموم الإنسان الإفريقي في معاشه عبر مشاريع تضامنية، وفي تعلمه عبر دعم التعليم العتيق، وفي تواصله عبر منصات إعلامية تخاطبه بلسانه. وهي رؤية قائمة على خطة واضحة المعالم تتغيى تسديد تبليغ الدين على مستوى فروع المؤسسة، من خلال تعزيز القيم الدينية في المجتمعات الإفريقية، وربط الإيمان بالعمل، والعبادة بالسلوك، وتفعيل شمولية التدين في مختلف مناحي حياة الإنسان.
إن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وهي تستقبل عام 2026، تدرك ثقل الأمانة وعظم المسؤولية. إنه عام يلتقي فيه عمق التاريخ المتمثل في الإرث النبوي، مع مقتضيات الحاضر من رقمنة وحكامة وتواصل علمي وروحي متجدد. وبهذا الجمع الخلاق، تؤكد المؤسسة أن إمارة المؤمنين هي الخيمة الوارفة التي يستظل تحتها علماء القارة، لصناعة مستقبل يسوده الأمن الروحي، وينتصر لقيم السلم والاعتدال والعيش المشترك.