تقديم الإطار العام للدورة التواصلية الثانية

تقديم الإطار العام للدورة التواصلية الثانية

الأستاذ سيدي محمد رفقي الأمين العام لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة
الأستاذ سيدي محمد رفقي الأمين العام لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه،

السيد الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى الأستاذ محمد يسف،

السادة العلماء الأجلاء، السيدات العالمات الجليلات،

السادة الضيوف، أيها الحضور الكرام،

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، سلام تام بوجود مولانا الإمام المؤيد بالله،

وبعد،

فمعلوم أن اجتماعنا هذا تنفيذ وتفعيل لتوصيات المجلس الأعلى للمؤسسة التي تم انعقادها بفاس: بتاريخ 19و20 ربيع الأول 1439هـ الموافق لـ: 8و9 دجنبر 2017م، كما أنه يأتي استجابة لمقترحات اللجان الدائمة المجمعة على ضرورة الانخراط في التواصل العلمي والتنظيمي لأعضاء المؤسسة.

وقد قامت المؤسسة بتنظيم الدورة التواصلية الأولى حول التعريف بالنموذج المغربي في تدبير الشأن الديني قبل حوالي أربعة أشهر بفاس، حضرتها جميع فروع المؤسسة، وقد تعرف فيها إخواننا في البلدان الإفريقية على ما يجري في بلدهم هذا، المغرب، فيما يتعلق بالشأن الديني. وقد خلص ذلك في الآتي:

أولا: أن إمارة المؤمنين بوصفها أم الثوابت المغربية والأساس الضروري لحفظها؛ وهي حسب التعريف الفقهي المتعارف عليه: «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. .  وهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به».

وقد دخلت المغرب مستوفية لكل شروط الصحة التي أساسها البيعة الشرعية. وبموجب تلك البيعة تم تحديد العلاقة بين الراعي والرعية، وتعيين حقوق كل طرف وواجباته. فمن أهم واجباتها وآكدها: حفظ الدين والملة على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة. ومن أهم حقوقها السمع والطاعة له في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وفي كل الأحوال ما لم يأمر بمعصية الله تعالى، وكذا تحريم الخروج عن طاعته وسلطته كيفما كانت الأسباب والدوافع، وتحت أي ذريعة من الذرائع.

ثانيا: أن المذهب الأشعري يعد استئنافا للنظر العقلي السُّنيّ الذي دعا إليه الإسلام وحثّ عليه؛ إذ هو امتداد شرعي لمذهب أهل السنة والجماعة الذي كان وما يزال مذهباً رسميا لكبار الأئمة؛ أبي حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل.. .  وغيرهم كثير من العلماء الفضلاء.

ومن حسنات المذهب الأشعري أنه ضمن منذ قرون الوحدة الاعتقادية للأفارقة، خصوصاً في مباحث العقائد الثلاثة، وإمارة المؤمنين، وحفظتهم من الوقوع في فتنة التعطيل أو التشبيه أو خروج المكفِّر بالذنب، كما حفظتهم من النزغات المتطرفة الهدامة التي عرفتها الحياة الإسلامية وما زالت آثارها السلبية مستمرة إلى الآن. فالمذهب الأشعري مدرسة عقائدية معتدلة ووسطية جامعة بين العقل والنقل، والتفويض والتأويل عند استحالة الحمل على الحقيقة.

ثالثا: أن التصوف في المغرب خصوصاً وفي باقي الدول الإفريقية عموما هو سلوك تخلية من النقائص والرذائل، وتحلية وتجلية بالفضائل والأخلاق النبوية..  مع إخلاص العبودية لله تعالى والتعلق بالتوحيد اعتقاداً وعملاً.

وأن المنهج الصوفي الذي اختاره المغاربة خصوصاً والأفارقة عموماً، واستمرُّوا عليه واشتهر بينهم هو منهج وطريق الإمام الجنيد (تـ 297هـ) المتصل السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن التصوف وما يحمله من مقومات قيمية وسلوكية وروحية، استطاع أن يقدم معالم سامية وهادية في باب الأمن والاستقرار الروحي، ونجح في رسم صورة مشرقة عن روح التسامح والتعايش التي يدعو إليها الإسلام، وذلك بالتمثل الرشيد بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، القائمة على المحبة والرفق واللين والرحمة للعالمين.

وقد كان للمؤسسات الصوفية الأثر الإيجابي في ترسيخ قيم الاستقرار الروحي، حيث نجحت هذه المؤسسات (زوايا، ورباطات) في تقديم نماذج حضارية متميزة كان لها الأثر الهام والفعال في إشاعة روح السلم والاستقرار، حيث رسخت هذه المؤسسات في النفوس قيما سلوكية راقية كان لها الإسهام الكبير في تفعيل ثقافة الأمن الروحي على أرض الواقع عبر رؤية تكاملية للدين تحترم مقاماته الثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان.

رابعا: أما بخصوص المدارس الفقهية السنية في المغرب وإفريقيا، فقد وقع اتفاق الكافة على الأخذ بالمصادر المعتبرة على خلاف بينهم في أولوية الإعمال، فيما توجد فوارق صورية راجعة إلى المشتركات العمومية.

هذا وقد أسفرت تلكم الجلسات العلمية التواصلية عن نتائج طيبة، أسهمت بشكل كبير في التعريف بالنموذج المغربي في تدبير الشأن الديني، وتقريب وجهات النظر والرؤى بين جميع أعضاء الفروع المشاركة.

واعتبارا لتكم السنة الحميدة نجتمع اليوم من أجل إقامة جلسة تواصلية علمية ثانية يشارك فيها أشقاؤنا الأفارقة بمداخلاتهم حول التعريف بالتجارب الإفريقية في تدبير الشأن الديني، وإبراز القواسم المشتركة، على أمل أن تتخللها مناقشات وتعقيبات من طرف السادة العلماء والسيدات العالمات المغاربة، وهي فرصة للتعارف وتبادل النصيحة، «الدين النصيحة».

وإن ما نحضره اليوم، هو في الواقع تفعيل لأحد بنود مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة؛ الرامية إلى العناية بالثوابت الدينية الأصيلة المشتركة بين بلداننا الإفريقية. هذه المؤسسة التي انبثقت عند مؤسسها أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس -أعزه الله- بكيفية طبيعية، من أمرين أساسيين هما:

الإحساس بأمانة التاريخ، والتبصر بما يقتضيه الحاضر والمستقبل، من حماية أمر الدين؛ حماية صيانة، وحماية تنمية، ولا سيما بالنظر إلى ما يعيشه العالم بخصوص هذا المجال.

ولقد أكد جلالته في خطاب تنصيب المجلس الأعلى بجامع القرويين بتاريخ 8 رمضان 1437هـ الموافق لـ 24 يونيو 2016م أن الغرض من هذه المؤسسة؛ هو أن تشكل إطاراً للتعاون، وتبادل التجارب، وتنسيق الجهود بين العلماء الأفارقة للقيام بواجبهم في التعريف بالصورة الحقيقية للدين الإسلامي الحنيف، وبقيمه السمحة القائمة على الاعتدال والتسامح.

حضرات السيدات والسادة،

إن العلاقات التاريخية وإلى يومنا هذا بين المسلمين في عدد من البلدان الإفريقية، هي علاقة أخذ وعطاء، قوامها الاشتراك في العناصر الأساسية للهوية الدينية التي منها: العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، والتصوف السني.

وإن بلداننا الإفريقية جميعا يدركون جيداً سبب اختيار أجدادهم لعناصر هذه الهوية، ويعرفون أنه كان الاختيار الأمثل، ونحن الأحفاد، ندرك اليوم أن اختيار العقيدة الأشعرية يعني الحصانة التامة من عقيدة أقلية منحرفة تكفر الناس على أساس أفعالهم، وتبيح العدوان عليهم بطرق الإرهاب، كما ندرك أن اختيار المذهب المالكي اختيار مناسب لقابلية هذا المذهب الانفتاح على جميع المذاهب الفقهية السنية، مراعاة للخلاف الفقهي، و كذا قابليته لإدماج عدد من عناصر الثقافة المحلية في الحياة العامة –من عادات وأعراف- ما لم تتناقض مع قطعيات الشريعة، ونكتشف أيضا أن تقبل فكرة التصوف تنطوي على السعي لكمال يجمع بين ظاهر الدين وجوهره في الحياة الروحية المتجلية في السلوك الأخلاقي ومحبة الخلق، بناء على علاقة المحبة مع الخالق. وهكذا، فالمؤسسة، ومن هذه المنطلقات الثلاثة الرصينة، وتحت سقف إمارة المؤمنين، تبدو أنها ليست مجرد جمعية أو هيئة مجتمع مدني نفعي نشيط، وإنما هي حاملة لمشروع إفريقيا الديني العقدي والفقهي والأخلاقي السلوكي، النابع من الاختيارات الأصلية لأهل البلدان الإفريقية.

ونأمل أن تكون المؤسسة الفرع إلى جانب الفروع الأخرى بداية لعهد إفريقي جديد،  قوامها علماء أجلاء يتبصرون أمانة التبليغ في سياق النزول وسياق التنزيل، ويجمعون في إطار مسؤولياتهم الكبرى على ضرورة الجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر، والاقتراب من هموم المواطنين والإجابة عن تساؤلاتهم وتطلعاتهم، وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم خاصة الشباب منهم، وحماية أمر الدين حماية صيانة، وحماية تنمية، وذلك بإشاعة الفكر الديني المتنور، وتسخير القيم الجوهرية الموجهة لدرء الفتنة، ودعم الأمن ومكافحة التطرف والإرهاب الذي يضل به المنحرفون عن مسلك الجماعة باسم الدين والدين منهم براء.

حضرات السيدات والسادة،

إن إخوانكم من علماء المملكة المغربية، هم جزء لا يتجزأ من الأسرة الإفريقية الكبيرة، وإن قارتنا الإفريقية هي وطننا الكبير جميعاً، وإنه ليسعدهم أن يؤكدوا أنهم جنود مجندون، كإخوانهم من علماء إفريقيا للانخراط في ميثاق رفع التحدي عن أوطاننا وقومنا، والوقوف بالمرصاد لكل الضالين المضلين.

أيها الحضور الكرام،

في الأخير، إن أمنيتنا أن نكون قادرين على حمل الأمانة الموضوعة على عاتقنا، أوفياء لها مخلصين في أدائها، سائلين الله عز وجل العون والتوفيق، وأن يحقق فينا رجاء مبدع هذه المؤسسة أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله.

كما نسأله سبحانه أن يبارك في أعمال هذه الدورة، وأن يكلل أعمالها بالنجاح وتحقيق الأهداف، وأن يمن على بلداننا الإفريقية بالأمن والرخاء، وأن يوفقنا جميعا لكل ما فيه خير قارتنا ورفعتها، إنه سميع قريب مجيب الدعوات.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

كلمات مفتاحية :