المشترك الأصولي لدى المذاهب السنية

المشترك الأصولي لدى المذاهب السنية

المشترك الأصولي لدى المذاهب السنية - الأستاذ عبد الحميد العلمي أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين بفاس
المشترك الأصولي لدى المذاهب السنية – الأستاذ عبد الحميد العلمي

المشترك الأصولي لدى المذاهب السنية – الأستاذ عبد الحميد العلمي أستاذ التعليم العالي بجامعة القرويين بفاس

مقدمة

من المعلوم عند أهل التحقيق أن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية منوط باستحضار الآليات الأصولية لدى المذاهب السنية. ولفظ السنية «مشعر بتوجيه النظر إلى المذاهب التي تمثلها مدرستا المتكلميـن والأحناف.

والناظر في منهج الدرس الأصولي عند علمائنا يجده قائما على مشتـركات أصلية وأخرى تبعية يمكن اعتبارها ضوابط حامية للعملية الاجتهادية. ذلك أن المسلميـن قولا واحدا وإجماعا ناهضا من غيـر قيام نكيـر، يعتقدون اعتقادا جازما أن ما من نازلة تَعِنُّ إلا ولله تعالى فيها حكم خاص يدرك بالنص أو الاستدلال.

ولما كان ذلك الإدراك أمرا مشتـركا ومتحققا في اجتهادات علماء تلك المذاهب فقد ناسب أن أتـرجم مشاركتي ب: «المشتـرك الأصولي لدى المذاهب السنية».

وباستيفاء النظر في قيوده وجدته مؤسسا على قضية تحتها مسألتان.

أما القضية فتصدق على مسمى المذاهب السنية ومحتـرزاتها العلمية والموضوعية.

وأما المسألتان:

فإحداهما لها تعلق بالمشتـركات الثابتة في الأصليـن: أصول الفقه وأصول الديـن.

والثانية لها ارتباط بالمسائل المتـرددة بيـن الأصليـن مع بيان ما اختصت به بعض المذاهب عند التأصيل وإقامة الحجة على أن الكل يعمل بها عند التفصيل.

وبهذا وذاك تتحقق دعوى حضور هذا المشتـرك في المذاهب السنية بعد الاستدلال عليها صحة لا فسادا.

وقبل الشروع في الموضوع أود التنبيه على البيانات الآتية:

  • إن لفظ «الأصولي» الوارد في العنوان يشمل أصول الفقه وأصول الديـن.
  • إن لفظ «السنية» أعم مما سواها من المصطلحات ذات حمولات عقدية.
  • بيان الجوامع الموضوعية والفوارق الصورية بيـن الأصليـن.
  • بيان علاقة الوصل والفصل في المسائل المشتـركة بيـن الأصليـن.
  • بيان الخصوصية المتـرددة بيـن التأصيل والتفصيل لدى المذاهب الفقهية.
  • إقامة الحجة على تحقيق دعوى المشتـرك الأصولي لدى المذاهب السنية.

فماذا عن:

القضية: عنونتها بـ: مسمى المذاهب السنية ومحتـرزاتها العلمية والموضوعية

فقيد السنية اسم جامع لمعاني الأخذ بالكتاب والسنة، وما درج عليه سلف هذه الأمة مما نطق به القرآن الكريم أو ورد في بيان سيد المرسليـن والعلماء الصالحيـن. فهي أعم من مصطلح السلف العاري عن ياء النسبة. فإذا زيدت فيه مع الهاء المنقوطة صار خاصا. ومعلوم أن العام إذا دخله التخصيص صار ظنيا، والقاعدة أن العمل بالأعلى والأقوى من باب أولى وأحرى.

أما المقصود بالمذاهب الفقهية المستحقة لهذه الصفة فهي المدارس التي شع سناها بفضل أعلام مبـرزيـن أجمعوا على سنية العقيدة الأشعرية. وهم الذيـن يمثلون سواد هذه الأمة كالقاضي الباقلاني وإمام الحرميـن عبد الملك الجويـني وأبي الوليد الباجي وأبي حامد الغزالي والشريف التلمساني وعبد الرحمن السيوطي والفخر الرازي والإمام البيضاوي وتاج الديـن بن السبكي وابن الفخار البيـري وابن زمرك القرطبي والشيخ خليل والحطاب والخرشي والتسولي وابن المدني كنون وغيـرهم ممن تصعب السيطرة على عدهم بل على إحصائهم وحسابهم.

ولفظ الإجماع الملمع إليه أعلاه شامل لحذاق المذاهب الفقهية جامع لأعلام السادة الصوفية، مخرج لمن شذ من بعض الفرق الكلامية.

وقد كتب الله للمغرب التمسك باختيارات مذهبية قائمة على الأخذ بالكتاب والسنةالنبوية. قال الناصري في كتاب الاستقصا: «أما حالهم في الأصول والاعتقاد: فبعد أن طهرهم الله من نزعة الخارجية أولا والرافضية ثانيا أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة»[1].

ولعل الخطاب الذي وجهه المولى إدريس الأول ت 177 هـ إلى المغاربة فيه ما يدل على ما ذهب إليه الناصري حيث استهله بقوله: «أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وإلى العدل في الرعية، والقسم بالسوية، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم، وإحياء السنة وإماتة البدعة، وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد»[2].

المسألة الأولى: المشتـركات الثابتة في الأصليـن

يمثل الأصلان ثنائية لا انفكاك لأحد طرفيها عن الآخر عبـر عن ذلك حاجي خليفة بقوله:«يـنبغي أن يقع التصنيف الأصولي على معتقد مؤلفه»[3].

وهو ما ذهب إليه عبد الله كنون في نبوغه فقال: «فإن مذهب مالك لم يتوطد أمره في هذا المصر كمذهب فقط ولكن كعقيدة أيضا»[4]

وقد تقدم الكلام عما ورد في خطاب إدريس الأول الذي أعرب فيه عن عقيدته القائمة على التمسك بالكتاب والسنة. أما ابنه إدريس الثاني فقد صرح بمالكيته على عقيدة والده لتضافر النقول عليها ومنها:

  • أخذه الموطأ عن قاضيه عامر بن محمد بن سعيد القيسي مع حفظه له.
  • دعوته إلى أحقية الأخذ بمذهب مالك وحث الناس على اتباعه، فقد جزم المقري فيكنوز الأسرار بأنه كان على مذهبه هو وجميع أهل المغرب الأقصى في عصره بأمره لهم باتباعه مع تحصيل كتاب الموطأ وحفظه له»[5].
  • أمره باعتماد الموطأ في الديار المغربية، فقد أثر عنه قوله: «فنحن أحق باتباع مذهبه وقراءة كتابه. لذا أمر بذلك في جميع عمالاته»[6].

وإذا سلمنا بـربط العقدي بالفقهي كما قرره الشيخ عبد الله كنون في نبوغه، فهذا يقتضي تعميمه في كل المذاهب الفقهية بحكم انتماء أعلامها للعقيدة الأشعرية فاستحقوا بذلك لقب السنية الجامع لتلك الثنائية:

وأحد طرفيها يتعلق بالجانب العقدي يشهد له ما تواتـرت به النقول العلمية. ورأس الأمر فيها ما ورد عن أبي الحسن الأشعري في كتاب الإبانة ونصه: «قولنا الذي نقول به وديانتنا التي نديـن بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبيـنا ﷺ، وما روي عن الصحابة والتابعيـن وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون»[7].

وهذا الذي قرره الإمام أبو الحسن مطرد في المذاهب السنية منعكس فيما شذ عنها وهم أقلية، ووجه ذلك الاطراد ما عبـر عنه تاج الديـن السبكي بقوله: «وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يديـنون الله تعالى بطريق شيخ السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى»[8].

والقول بأن المذاهب الفقهية كلها يد واحدة على مذهب أهل السنة والجماعة ليس من باب الاستظهار أو الانتصار، وإنما هو من باب الافتقار إلى مرجعية ديـنية عنوانهاالعقيدة الأشعرية.

أما الطرف الثاني فيتعلق بالمباحث الأصولية، وجماع القول فيها ارتباطها بالأدلة الإجمالية ومصادر التشريع المرعية»، نعرضها مستحضريـن المشتـركات الدالة على اطراد تلك الثنائية وفق المذاهب الآتية:

  1. أصول المذهب الحنفي

تولى الإمام أبو حنيفة بيان الأصول المعتمدة في مذهبه قائلا: «آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله ﷺ، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ أخذت بأقوال الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، لا أخرج عن قولهم إلى قول غيـرهم. أما إذا انتهى الأمر إلى إبـراهيم والشعبي وابن سيـريـن وعطاء وسعيد بن المسيب فقوم اجتهدوا فاجتهد كما اجتهدوا»[9].

ثم عرض صاحبه محمد بن الحسن الشيباني تلك الأصول بتفصيل فقال: «العلم على أربعة أوجه: ما كان في كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله ﷺ المأثورة وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه، فإن وقع الاختيار فيه لا يخرج عن جميعه، فإن وقع الاختيار فيه على قول فهو علم نقيس عليه وما أشبهه، وما استحسن عامة فقهاء المسلميـن وما أشبهه وكان نظيـرا له، قال: ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة»[10].

  1. أصول المذهب المالكي

لم يدون الإمام مالك أصول مذهبه، إلا أن صاحب القبس ذكر أن الغرض من تأليف الموطأ هو بيان الأدلة الأصولية التي بَنَى عليها مالك فروعه الفقهية.

وقد تولى الأصحاب بيان تلك الأصول، فذكر القاضي عياض أن الكتاب والسنة «هما الأصلان اللذان لا تعرف الشريعة إلا من قبلهما، ولا يتعبد الله إلا بعلمهما، ثم إجماع المسلميـن مرتب عليهما مستند إليهما»[11].

وفصل صاحب البهجة تلك الأصول فعدها ستة عشر هي: «نص الكتاب وظاهر الكتاب وهو العموم، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، ومفهوم الكتاب وهو باب آخر وتنبيه الكتاب وهو التنبيه على العلة، ومن السنة مثل هذه الخمسة فهذه عشرة، والحادي عشر الإجماع والثاني عشر القياس، والثالث عشر: عمل أهل المديـنة والرابع عشر قول الصحابي، والخامس عشر الاستحسان والسادس عشر الحكم بسد الذرائع، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف»[12]. تارة كان يعمل به وتارة لا.

  1. أصول المذهب الشافعي

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم: الخبـر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس»[13].

ولا تنحصر أصوله في المذكور أعلاه لأن القياس عنده هو الاجتهاد الجامع لإعمال مختلف الأدلة في الاستنباط.

  1. أصول المذهب الحنبلي

اختـرنا منها ما عبـر عنه ابن قيم الجوزية في إعلامه بقوله: «وكانت فتاويه مبنية على خمسة أصول:

أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا…

الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة، فإنه إن وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيـرها.

الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخيـر من أقوالهم ما كان راجعا إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبيـن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول.

الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر.

الأصل الخامس: استعماله القياس للضرورة إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول صحابي أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل[14].

وباستنطاق النصوص السابقة تتكشف لنا الجوامع الموضوعية والفوارق الصورية الراجعة إلى المشتـركات العمومية.

فمن الجوامع اتفاق الكافة على الأخذ بالمصادر المعتبـرة على خلاف بيـنهم في أولوية الإعمال.

ومن الفوارق: اختصاص المالكية باعتماد عمل أهل المديـنة وقاعدة مراعاة الخلاف.

وتوسع الحنفية في القياس والاستحسان ورد العمل بمفهوم المخالفة.

ورد الشافعية العمل بالاستحسان وعمل أهل المديـنة، وتمسك الحنابلة بالعمل بالحديث الصحيح والمرسل وتقديمهم الحديث الضعيف على القياس الذي لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة كما في عبارة ابن قيم الجوزية.

وسنعمل على رد هذه الفوارق الصورية إلى مشتـركاتها الأصولية من خلال البيانات الآتية:

  • 1. بيان يتعلق بعمل أهل المديـنة

أخذ به المالكية ولم يسلم من المعارضة في المذاهب الفقهية لتـردده بيـن النقلية والاجتهادية. هذا هو قول المذاهب عند التأصيل، أما عند التفصيل فقد وجدنا علماءهم يعملونه في كثيـر من مسائلهم الفروعية؛ منها أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة كان يـرى أن وزن مكيال الصاع النبوي أكثر من خمسة أرطال على ما يقتضيه قول المذهب.

فلما زار المديـنة أراد التحقق من ذلك، فدعا بصاع فاستجاب له أحفاد الصحابة، فما رجعوا إلا ومعهم أكثر من سبعيـن صاعا ورثوه عن أجدادهم، ولما قدره وجد مكيال وزنه ثلاثة أرطال وما يقارب الثلث كما هو المقاس عند أهل المديـنة.

وبعد أن أعرب عن ذلك في العراق سئل هل في هذا رجوع عن قول صاحبه؟ فأجاب: إنما رجعت من الظن إلى اليقيـن فتأمله.

كما سأل الإمام مالكا عن مسألة تـرجيع الآذان فقال: «تؤذنون بالتـرجيع وليس عندكم عن النبي ﷺ فيه حديث، فالتفت إليه مالك وقال: يا سبحان الله: ما رأيت أمرا أعجب من هذا… يـنادى على رؤوس الأشهاد في كل يوم خمس مرات يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدن رسول الله ﷺ إلى زماننا هذا… يحتاج فيه إلى فلان عن فلان. هذا أصح عندنا من الحديث»[15].

وكذلك هو الأمر عند الشافعية، إذ المنقول عن الإمام الغزالي رده لعمل أهل المديـنة كما نظّر له في مستصفاه، إلا أنه عند بحثه لمسألة التعارض والتـرجيح في باب الاجتهاد سلم به باعتبار أن ما جرى به العمل في المديـنة مقدم عند التقابل بيـن خبـريـن متساوييـن متنا وإسنادا.

ومن الأصول المعتمدة عند المالكية قاعدة مراعاة الخلاف التي عرفها الرصاع بقوله: «هي إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر»[16].

وقد وجهوا الأخذ بها إذا تعلق الأمر بفوات ظهور المصلحة بيـن الدليل والواقع أي بيـن أدلة المشروعية وأدلة الوقوع.

وصورة المسألة: القول في نكاح الشغار، وهو من العقود الفاسدة عند المالكية القاضية بالفسخ قبل الوقوع، فإذا علم به بعد الدخول والإنجاب أعملوا دليل المخالف في لازم حكمهم، فجمعوا بيـن الحكم بالفسخ الذي لا تنبني عليه آثار فقهية وبيـن تـرتيب الحقوق الناتجة عن الزوجية وهي أربعة:

الأولى: ثبوت النسب للأولاد.

الثانية: حق التوارث لذوي الحقوق منهم.

الثالثة: استحقاق الزوجة الصداق بما استحل من بضعها.

الرابعة: ثبوت الزوجية بعد الوقوع في النوع الثاني والثالث من الشغار وهما: وجه الشغار والمركب منهما وفسخها قبل الوقوع وبعده في النوع الأول وهو صريح الشغار.

وبإحالة النظر في مقتضيات هذه القاعدة يتبيـن أن لها علاقة بفقه الواقع ومصالح المكلفيـن. فهي بهذا الاعتبار تنتمي لجنس المصلحة الجامعة لقواعد الاستحسان والذرائع والمآل الخادمة لقضايا الإنسان، وهذه الخدمة من الأمور المشتـركة بيـن المذاهب السنية ومنها المذهب الحنبلي الذي جاء على لسان أحد أعلامه وهو ابن القيم الجوزية ما نصه:

«فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بيـنهما لا من يلقي العداوة بيـنهما»[17].

  • 2. بيان يتعلق بـرد الأحناف العمل بمفهوم المخالفة

وهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق بأن يكون حكم المسكوت عنه مخالفا لحكم المذكور. وسبب ردهم لهذا الدليل يـرجع إلى أنهم يعتبـرونه من التمسكات الفاسدة على خلاف القائليـن به، إلا أنهم وافقوا الآخذيـن به في كثيـر من الفروع الفقهية ومنها: القول بعدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة والأصل فيه قوله ﷺ: «في الغنم السائمة زكاة»[18].

منطوقه: وجوبها في السائمة.

مفهومه المخالف: عدم وجوبها في المعلوفة

وهذا هو حكم الأحناف في المسألة: فاعتـرض عليهم بأنهم بهذه الموافقة يـناقضون أصلهم في الممانعة ونحن لا نقصد بالمفهوم إلا هذا.

فردوا بأن حكمهم بمنع الزكاة في المعلوفة ليس عن طريق مفهوم المخالفة كما هو الاصطلاح عندكم. بل بطريق آخر وهو عدم قيام الدليل على وجوبها في المعلوفة.

  • 3. بيان يتعلق بحجية الاستحسان عند الشافعي

فالمنقول عنه عدم الأخذ به عند التأصيل ومن العبارات المأثورة عنه: «الاستحسان تلذذ» و «من استحسن فقد شرع».

ولعل الاستحسان الذي رده الإمام هو الذي عرفه بعضهم بقوله: «إنه دليل يـنقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه». وهذا النوع من الاستحسان لا يقول به الشافعي ولا غيـره من أئمة المذاهب الأخرى.

والثابت أن الشافعي استحسن في أكثر من ثلاثيـن مسألة بالمفهوم المشتـرك بيـن الأصولييـن؛ وهو العمل بأقوى الدليليـن كما في عبارة أبي الوليد الباجي، أو العدول عن قياس جلي إلى آخر خفي قويت علته كما عند الأحناف.

وسعيا إلى رد هذه الفوارق الصورية إلى مشتـركاتها الموضوعية، تجدر الإشارة إلى أن الدارس المتأمل في طريقة تعامل أصوليي المذاهب مع أدلة الاستنباط المعتبـرة، يلاحظ أنهم كانوا يسعون من خلال عرض مسالكهم الدلالية إلى غاية تكاد تكون موحدة بيـنهم تتلخص في محاولة توخيهم إصابة مراد الشارع في النازلة بالسبل التي يقرها الشرع بعيديـن عن التذرع بالسبل المفضية إلى اتباع الهوى والتقول في شرع الله بغيـر علم.

وهذا ما يجعلنا نطمئن إلى أن كثيـرا من مواطن الخلاف الأصولي بيـن علمائنا لا تتجاوز الأبعاد الاصطلاحية أو طرق إعمال بعض الأدلة التفصيلية أو تحصيل موارد القرائن الحالية والمقالية، ما دام الغرض من كل ذلك واحدا وهو خدمة القضايا الشرعية بالمنهج الذي تحدده طبيعة الدراسات الأصولية.

وبه يعلم أن دعوى القول بالمشتـرك الأصولي بيـن المذاهب السنية متحققه في المباحث العقدية والفقهية لمن تأمله والحمد لله رب العالميـن.

هذا عن المسألة الأولى أما المسألة الثانية فعنونتها بـ: المسائل المشتـركة بيـن الأصليـن.

المسألة الثانية: المسائل المشتـركة بيـن الأصليـن

والأمر فيها محتاج إلى دراسة مقارنة، لأنها من قبيل ما تـزاحمت فيها ثنائية الوصل والفصل بيـن العلميـن وهي دعوى بحاجة إلى إقامة الحجة عليها صحة أو فسادا وموجب هذه الدعوى أن هناك أمورا مشتـركة بيـن الأصليـن، عالجها أشاعرة الأصولييـن بمنهجيـن فتـرتب عن ذلك اختلاف الأقوال بها في المنحييـن وسنكتفي في هذا المقام بعرض مسألتيـن تتجاذبهما تلك الثنائية مع الانتصار لإمكان الجمع والوصل بيـن ذيـنيك الأصليـن وهما:

1. مسألة التكليف بما لا يطاق

ووجه الاشتـراك فيها أن فقهاء الأشاعرة عرضوا لها في الأصليـن معا. والمقرر عندهم في أصول الديـن هو جواز التكليف بما لا يطاق، بل ذهب البعض إلى إمكان أن يتعبدنا الله تعالى بالمستحيل. أما المعمول به عندهم في أصول الفقه هو القول بعدم الجواز إذ لا تكليف إلا بما يطاق.

والذي أقول به هو أن الأصل في التكاليف ارتباطها بما يطاق؛ فإذا عرض للمكلف عارض أخرجه من ذاك الذي يطاق إلى الذي لا يطاق رده الشرع من ذاك الذي لا يطاق إلى الذي يطاق عن طريق الرخص والمستثنيات الشرعية وبيـنهما فرق يـرجع إليه في بابه.

وبحكم انتماء علماء المذاهب الفقهية إلى العقيدة الأشعرية فقد تـردد قولهم بيـن الجواز والمنع في هذه المسألة بناء على طبيعة عرضها في محلها الذي يليق بها.

2. مسألة تعليل الأحكام

منشأ الخلاف فيها أن مذهب الأشاعرة في أصول الديـن هو القول بعدم تعليل أحكام الله وأفعاله، حجتهم في ذلك «أن الله عز وجل متصرف في خلقه بالملك، ولا يجب عليه شيء، لأن الإيجاب يستدعي موجبا أعلى، ولا أعلى من الله عز وجل يوجب عليه»[19].

أما إذا تعلق الأمر بأصول الفقه، فقد جوزوا تعليل الأحكام الشرعية بالمصلحة والباعث والمقتضي وغيـرها من أنواع العلل؛ ذلك أن مبحث القياس محتاج إليها ولا يستقيم إلا بها.

وهذا ما لفت انتباه بعض المعاصريـن كالأستاذ معروف الدواليبي والشيخ مصطفى شلبي في كتابه تعليل الأحكام الذي ذكر فيه ما صدر عن الفخر الرازي من اختلاف قوله بمنع التعليل في العقيدة وجوازه في أصول الفقه من قبيل الخلف والمناقضة.

وذريعته في ذلك قولة الرازي في الأصل الأول: «إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة» وقوله أيضا: «ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه البتة»[20].

وقوله في الأصل الثاني كما ورد في كتابه المحصول من علم أصول الفقه: «إنه تعالى حكيم بإجماع المسلميـن، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة، فإن لم يفعل لا لمصلحة يكون عابثا والعبث على الله محال للنص والإجماع والمعقول»[21].

ولخص الإمام أبو إسحاق الشاطبي ما صدر عن الرازي بقوله: «وزعم الرازي أن أحكام الله تعالى وأفعاله غيـر معللة بعلة البتة، لكنه اضطر إليها في باب القياس»[22].

مما سبق يتبيـن أن الحسم في الوصل أو الفصل بيـن الأصليـن لا يزال قائما إلا أن الجمع بيـنهما متأت باستحضار أمريـن:

أحدهما: ضرورة التمسك بأصل التنزيه:

 فمسألة التكليف بما لا يطاق جائزة في حق الله تعالى من جهة الاعتقاد، معفو عنها في التشريع رأفة بالعباد.

ومسألة الممانعة في التعليل مرتبطة بمبدأ الفاعلية المنزهة عن الأغراض بما يقتضيه المقام، مقبولة على ما تقتضيه مصالح الأنام.

والثاني: ضرورة التمييز بيـن ما هو قدري تكويـني وما هو تشريعي في المسألتيـن.

إذ الناظر في القضايا المشتـركة بيـن الأصليـن يتبيـن أن بحثها في أصول الديـن يدخل فيما هو قدري تكويـني والأصل فيه آيل إلى الحكمة الأزلية وما استأثرت به الإرادة الإلهية. أما بحثها في أصول الفقه فيدخل فيما هو تشريعي رحمة بالمومنيـن وحجة على العالميـن.

وباستقراء موارد الشريعة ومصادرها يتضح أنها مراعية لقدرات المسلميـن خادمة لمصالح المكلفيـن مما يتعيـن معه القول بعدم التكليف بما لا يطاق وإمكان التعليل في حدود النطاق. وبه يعلم أن ما أوخذ به الرازي وغيـره لا يعتبـر خرقا لأصل المسألة.

فقد جزم الشاطبي وغيـره كابن قيم الجوزية أن الشريعة الإسلامية عدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها، والقول بهذا في أصول الفقه لا يـناقض المنصوص عليه في أصول الديـن لتعلق الأول بالتشريع والثاني بالتنزيه.

هذا وقد وجدت في كلام الأصولييـن ما يفيد الانتصار للمقرر أعلاه، فذهب الغزالي إلى أن المعمول به في التشريع مستمد مما أخذ عنه الصحابة رضوان الله عليهم مقتديـن بما علم من أمر الرسول ﷺ الذي «كان يتبع المعاني، ويتبع الأحكام بالأسباب المتقاضية لها من وجوه المصالح فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك»[23].

كما اعتمد الآمدي في ذلك على دليلي الإجماع والمعقول: «أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود. وأما المعقول فهو أن الله تعالى حكيم في صنعه فرعاية الغرض في صنعه إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا، فإن كان واجبا فلم يخل عن المقصود، وإن لم يكن واجبا ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغيـر مقصود، والغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد. ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع فلم يبق سوى الثاني»[24].

وخلاصة القول: إن الحديث عن المسائل المشتـركة بيـن الأصليـن يتجاذبها طرفا الوصل والفصل من جانبيـن:

أحدهما: تثبيت صورة الوصل لاتحاد أقوال أصوليي الأشاعرة سواء تعلق الأمر بأصول الفقه أو بأصول الديـن، وهذا من موجبات صحة دعوى الاشتـراك الذي وعدنا به في العنوان.

الثاني: قبول مبدأ الفصل القائم على التمييز بيـن ما هو قدري في العقيدة وما هو تشريعي في الفقه، والعمل بهذا القول لا يخرج مفهوم المشتـرك عن مضمونه لاطراد منهج المذاهب السنية في العلميـن واتفاقهم في المنحييـن، واشتـراكهم في النتيجتيـن.

هذا ما يسر الله تقييده بشأن المشتـرك الأصولي لدى المذاهب السنية.

أسأل الله تعالى أن يكون ما قدم فيه نافعا بابه وأن يجد قبولا عند قارئه آميـن وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالميـن.

الهوامش

[1] الاستقصا: 1/140.

[2] أصـل هـذا الخطـاب فـي الوثيقـة اليمنيـة المنشـورة بكتـاب «الإمـام» إدريـس مؤسسـة الدولـة المغربيـة «إعـداد وتنسـيق: عبـد الرحيـم سـلامة.

[3] كشف الظنون، 1/110 بتصرف.

[4] النبوغ المغربي، 1/54.

[5] الأزهار العاطرة الأنفاس، ص 130.

[6] نقسه، ص 30.

[7] الإبانة عن أصول الديانة، ص 8-9.

[8] معيد النعم ومبيد النقم، ص 62.

[9] مناقب أبي حنيفة وصاحبيه، ج 1 / ص 34.

[10] ينظر أصول السرخسي 1/318 وجامع بيان العلم 2/32-33.

[11] تـرتيب المدارك، 1/59.

[12] البهجة في شرح التحفة 2/133 نقلا عن الشيخ أبي صالح الهسكوري الفاضي المتوفى عام 653 هـ.

[13] الرسالة، ص 39.

[14] يتظر إعلام الموقعين، 1/29.

[15] تـرتيب المدارك، 2/124، والموافقات 3/66.

[16] شرح حدود ابن عرفة للرصاع التونسي، 1/263 تحقيق أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1993م.

[17] إعلام الموقعين، 4/220. بتصرف.

[18] أخرجه البخاري في باب زكاة الغنم بلفظ «وفي صدقة الغنم في سائمتها.»…

[19] رسالة في رعاية المصلحة لنجم الدين الطوفي، ص 29.

[20] -ينظر النصان في التفسير الكبير، 5/122.

[21] المحصول، 2/237-238.

[22] -الموافقات، 2/6 بتصرف.

[23] شفاء الغليل/ ص 190.

[24] الإحكام الآمدي، 3/81.

أهم المصادر والمراجع المعتمدة

  1. القرآن الكريم، تنزيل رب العالميـن.
  2. الإبانة عن أصول الديانة للإمام أبي الحسن الأشعري، دار ابن زيدون، الطبعة الأولى د.ت.
  3. الإحكام في أصول الأحكام لسيف الديـن الآمدي تـ 631هـ، مكتبة محمد علي صبيح 1968م.
  4. الأزهار العاطرة الأنفاس بذكر بعض محاسن قطب المغرب وتاج مديـنة فاس لمحمد بن جعفر بن إدريس الكتاني، طبعة حجرية.
  5. الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري تـ 1315هـ، دار الكتاب، البيضاء.
  6. أصول الفقه لأبي بكر السرخسي الحنفي تـ 490هـ، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيـروت 1973م.
  7. إعلام الموقعيـن عن رب العالميـن لابن قيم الجوزية تـ 751هـ، تحقيق محيي الديـن عبد الحميد، دار الفكر، بيـروت، د.ت.
  8. البهجة في شرح التحفة لعلي بن عبد السلام بن علي، أبو الحسن التُّسُولي تـ 1258هـ، دار المعرفة للطباعة، بيـروت، ط3، 1379هـ.
  9. تـرتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعيان مذهب مالك للقاضي عياض السبتي تـ 544هـ، تحقيق جماعة من العلماء، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية.
  10. تعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيـروت، الطبعة الثانية 1981م.
  11. التفسيـر الكبيـر- مفاتيح الغيب للإمام فخر الديـن محمد بن عمر الرازي تـ 606 هـ، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية د.ت.
  12. الجامع الصحيح لأبي عيد الله البخاري تـ 256هـ، دار الفكر بيـروت، 1981م.
  13. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البـر تـ 463هـ، دار الفكر، د.ت.
  14. رسالة في رعاية المصلحة لنجم الديـن الطوفي تـ 716هـ، تحقيق أحمد السايح، الطبعة الأولى الدار المصرية اللبنانية، 1993م.
  15. الرسالة للإمام الشافعي تـ 204هـ، تحقيق محمد أحمد شاكر، كتب أبو الأشبال 1939م.
  16. شرح حدود ابن عرفة تـ 803هـ، لأبي عبد الله الرصاع التونسي تـ 894هـ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية.
  17. شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل لأبي حامد الغزالي تـ 505هـ، تحقيق حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد، بغداد 1971م.
  18. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي تـ 543هـ، دار الغرب الإسلامي، الطبعة2، 1992م.
  19. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة، تحقيق محمد شرف الديـن، دار إحياء التـراث العربي (تصويـر من الطبعة القديمة الأصلية.)
  20. المحصول من أصول الفقه لفخر الديـن الرازي تـ 606هـ، دراسة وتحقيق: طه جابـر العلواني، الطبعة 1، 1979م.
  21. المستصفى من علم أصول الفقه لأبي حامد الغزالي تـ 505هـ، دار الفكر للطباعة، بيـروت: د.ت.
  22. معيد النعم ومبيد النقم لتاج الديـن السبكي تـ 771هـ، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان، ط1، 1986م.
  23. مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه لشمس الديـن محمد بن قايماز الذهبي تـ 748هـ، تحقيق محمد زاهد الكوثري، الطبعة الثالثة، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد، الهند.
  24. الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي تـ 790هـ، عليه شرح للشيخ عبد الله دراز، المكتبة التجارية الكبـرى بمصر، د.ت.
  25. النبوغ المغربي لعبد الله كنون، طبعة 1962م.
كلمات مفتاحية : ,