المذهب المالكي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب الأخرى

المذهب المالكي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب الأخرى

المذهب المالكي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب الأخرى - الأستاذ محمد الروكي
المذهب المالكي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب الأخرى – الأستاذ محمد الروكي*

المذهب المالكي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب الأخرى – الأستاذ محمد الروكي

 

الحمد لله رب العالميـن، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسليـن وعلى آله وأصحابه أجمعيـن وعلى التابعيـن لهم بإحسان إلى يوم الديـن.

وبعد،

فالمذهب المالكي من المذاهب الفقهية السنية التي كتب لها البقاء من عهد تأسيسها إلى الآن، وهو متكامل مع المذاهب الأخرى، مشتـرك معها في الأعم الأكثر، مختلف معها في الأقل الأيسر، وفي كل من المشتـرك والمختلف فيه خيـر كثيـر وعلم غزيـر، وفي هذا البحث إطلالة على ذلك من خلال المباحث الثلاثة الآتية:

  • المبحث الأول: المذهب المالكي: جمالية الخارج وحصانة الداخل
  • المبحث الثاني: المشتـرك بيـن المذهب المالكي والمذاهب السنية الأخرى
  • المبحث الثالث: المختلف فيه بيـن المذهب المالكي والمذاهب السنية الأخرى

المبحث الأول: المذهب المالكي جمالية الخارج وحصانة الداخل

المذهب المالكي مذهب فقهي سني يـنتسب إلى الإمام مالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة 179ه. انتشر في أصقاع كثيـرة ولا سيما في شمال إفريقيا وغربها وساحلها وغيـرها، وكان له الفضل في جمع شملها ولم شعثها وتوحيد صفها، ومن أجل ذلك اختاره المغاربة مذهبا لهم في فقه العبادات والمعاملات والعادات والآداب الاجتماعية وغيـرها من مجالات الحياة التي يشملها التشريع الإسلامي.[1]

واختار المغاربة هذا المذهب أيضا لشرف إمامه وإمامته في العلم والفقه والورع والتقوى، فهو إمام دار الهجرة وعالم المديـنة بلا منازع، وقد كتبت كتب كثيـرة في ذكر مناقبه وشهادات العلماء فيه وثنائهم عليه[2].

والمذهب المالكي يـرجع في نشأته وتأسيسه _ كغيـره من المذاهب الأخرى _ إلى ركيزتيـن اثنتيـن:

الأولى: كتب الإمام مالك ورسائله ومروياته وأقواله وأجوبته وسائر آثاره التي نقلها عنه تلامذته وملازموه والراحلون إليه والمصاحبون له. فمن هذه الآثار استنبطت أصول مذهبه وقواعده وضوابطه ومنهجه في فقه النصوص الشرعية تأصيلا وتنزيلا.

الثانية: كتب تلامذته ومصنفاتهم وأقوالهم وأجوبتهم وأقضيتهم وفتاواهم وغيـر ذلك من آثارهم التي تفسر أصول المذهب وقواعده وتـربط بها الفروع والجزئيات، وتضبط بها المسائل والقضايا المختلفات.

فمن هتيـن الدعامتيـن تَكَوَّن المذهب المالكي وعليها تأسس، وذلك بعد وفاة الإمام مالك بمدة. ثم توالى الأئمة والأعلام يقعدون المذهب ويؤصلون أصوله ويفرعون فروعه ويفسرون مسائله ويجتهدون في ضوء ذلك مستوعبيـن ما يجد من القضايا، مواكبيـن تطورات الحياة ووقائعها، حتى ظهرت مدارس عديدة في تفسيـر المذهب وبيان منهاجه وشرح أسسه ومقوماته، ومن أبـرز هذه المدارس:

  1.  المدرسة الحجازية المدنية وهي المدرسة الأولى التي تفرعت عنها المدارس الأخرى، وأهم ما تتميز به اعتمادها على النقل والرواية وتقديمها على الرأي والدراية عند التعارض[3].
  2. المدرسة العراقية بما فيها البغدادية والبصرية والكوفية وغيـرها. ومن أهم ما تتميز به التوسع في الرأي وإعمال الأدلة الاجتهادية إلى جانب الأدلة النقلية[4].
  3.  المدرسة المصرية[5]
  4. المدرسة القيـروانية[6]
  5. المدرسة الأندلسية[7]
  6. المدرسة المغربية[8]

ولكل مدرسة من هذه المدارس رجالها وكتبها[9] ومصنفاتها وطرائق إعمالها لأصول المذهب وقواعده، ومناهجها في الاجتهاد والاستنباط، لكنها متكاملة تستقي من أصول واحدة وتدور في فلك واحد ونسق واحد. وكلها خدمت المذهب واعتنت به أصولا وفروعا، والتفت حول خصائصه التي تدل على قيمته الفقهية والعلمية والتـربوية. وتنبئ عن مكانته بيـن المذاهب الفقهية الأخرى. ومن هذه الخصائص:

  • الجمع بيـن الرواية والدراية، والنقل والعقل، والنص والاجتهاد[10]

ذلك أن الأصل في المذهب هو الانطلاق من النصوص الشرعية واعتماد قواعد المذهب في تفسيـرها واستنباط الأحكام منها، ثم الرجوع فيما لا نص فيه أو فيه نص ظني الدلالة، إلى الأدلة الاجتهادية وإعمالها في ضوء قواعد المذهب أيضا، فليس في المذهب جمود على حرفية النص دون فقه مقاصده وحِكمِه وعلله، وليس فيه طغيان العقل على النقل، بل هو قائم على الوسط العدل في ذلك، فلا إجحاف ولا إسراف، ولا ضرر ولا ضرار.

  • الواقعية

وهي صفة حرص عليها الإمام مالك والتـزم بها في فقهه وفتاواه، ومن ذلك قولته المشهورة لمن سأله عن شيء لم يقع: «دعها حتى تقع»، وسأله آخر فأجابه، ثم قال السائل: أرأيت لو كان كذا، فقال مالك: اذهب إلى العراق. يعني أنهم هم الذيـن كانوا يعتنون بالفقه الافتـراضي الأرأيتي[11].

  • التوسط والاعتدال

وهي خاصية مبثوثة في المذهب ملحوظة في فقهه على مستوى أصوله وفروعه، فمن أمثلتها في أصوله: مراعاته للخلاف، ومراعاته للعرف، وبناؤه الأحكام على المصالح المرسلة، ومراعاته لمقاصد الشرع الثابتةَ بطرق الإثبات المعتبـرة. ومن أمثلتها في فروعه توسطه في توقيت خيار الشرط بيـن من أطلق مدته ومن جعلها ثلاثة أيام، فمدة الخيار في المذهب تختلف باختلاف المبيع المعقود عليه على وجه الخيار[12].

  • السعة والاستيعاب لكثرة قواعده وضوابطه

والتي تعد بالمآت، وكثرة فروعه ومسائله التي تعد بالآلاف، وكثرة تخريجاته الفقهية، وكثرة تعليلاته وإلحاقاته وأقواله الفقهية[13].

  • العمق

إلى جانب ما يتميز به المذهب المالكي من سعته واستيعابه للتطورات بفضل ما يمتلكه من مادة غزيـرة في الفروع الفقهية وأصولها وكلياتها، فإنه يتصف بعمق النطر، ويتميز ببعد الرؤية في إعمال الأدلة الاجتهادية والعلم بعلل الأحكام ومقاصدها الشرعية وتحقيق[14] مناطاتها.

  • التوازن

ومن أمثلته أن الناظر في الفقه المالكي من حيث انتظامُ الفروع في نسقه، وتساوق المسائل والجزئيات في منظومته، يجد أن قسما منها مبني على الاحتياط الشرعي وبناء الأحكام على العزائم والأخذ بالتي هي أقوم وأحزم، كالعبادات والدماء والفروج وسائر الحرمات التي عظمها الله تعالى وأمر أن تعظم، وأن قسما منها مبني على التخفيف والتساهل والأخذ بالرخص والتي هي أسهل وأخف وأدعى إلى تلبية الحاجات ودفع المشاق، وذلك كالمعاملات عموما والمالية منها بوجه خاص[15].

ونعني بذلك أنه بأصوله وقواعده ومنهجه في الاجتهاد وتقريـر الأحكام وتعامله مع النوازل وتنزيل الأحكام عليها، قادر على مواكبة شؤون الحياة وتدبيـرها على الوجه الأحسن والأرشد، لما هي عليه قواعده وأحكامه العامة من التجرد والموضوعية. وعدم الانحصار في الزمان والمكان والإنسان، ومن أمثلة ذلك أن وعاء زكاة الثروة الزراعية هو كل ما يقتات ويدخر من المنتوج الزراعي الذي يطعم. وهو ضابط موضوعي متجرد عن الزمان والمكان يقضي بأن ما كان خارجا عن وعاء زكاة الحرث مما لا يقتات ولا يدخر يصيـر وعاء لها إذا تحققت العلة بسبب التطورات الطارئة في المعاملات المالية وغيـرها: مجلس العقد، فحقيقته عند المالكية تقوم على أساس موضوعي، ذلك أنه إذا صدر الإيجاب من أحد العاقديـن فإن مجلس العقد يـنشأ بيـنهما، ويستمر قائما ما داما مقبليـن في حديثهما على موضوع العقد دون تغييـره والانتقال إلى غيـره، بغض النظر عن المكان الذي هما فيه، وبهذه الموضوعية في ضابط مجلس العقد استطاع الفقه المالكي أن يواكب كل التطورات التي تتعلق بطبيعة التعاقد ووسائله الحديثة.

  • الاستمرار[17]

وهي خاصية مرتبطة بالتي قبلها ولازمة عنها، كما أن لها تعلقا بالخصائص السابقة التي تكسب المذهب _ بطبيعتها ومقوماتها_ عناصر البقاء وموجبات البقاء والدوام، والدليل على ذلك بقاء المذهب إلى الآن جامعا وحافظا ومدبـرا لشؤون الناس في ديـنهم ودنياهم، إلى جانب المذاهب السنية الأخرى. بيـنما هناك مذاهب انقرضت فيأول طريقها أو في وسطه.

  • الربط بالعقائد والانتهاء إلى الفضائل[18]

ومن ثم فإن فقهاء المالكية في مصنفاتهم ومؤلفاتهم الفقهية يصدرون لمسائل الفقه في العبادات والمعاملات والعادات وغيـرها بمقدمة يعرضون فيها كليات الاعتقاد على مذهب أهل السنة والجماعة، ويختمونها بالآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية التي هي ثمرة المقررات الفقهية وأثرها الحميد الذي يبني شخصية المسلم السوي الراشد المستقيم المحب لديـنه ووطنه، وغالبا ما كان يصطلح على هذه الخاتمة بكتاب الجامع، كما نجده في موطأ الإمام مالك وما جاء بعده من الكتب والمصنفات.

  • التوحيد وجمع الشمل[19]

فالمذهب المالكي قائم _ في مكوناته وعناصر حقيقته وماهيته_ على توحيد الصف، وجمع الشمل، وبناء المجتمع على الوحدة والأخوة، ونبذ الفرقة والشقاق، ولا أدل على ذلك من توحيده بيـن أقطار كثيـرة في شمال إفريقيا وغربها وساحلها وبيـن جهات في آسيا وغيـرها من بلاد المسلميـن طيلة هذه القرون التي طبق فيها على مستوى العبادات والمعاملات والسياسة الشرعية والقضاء وغيـرها من النظم والخطط الديـنية والدنيوية.

كما أن الناس عرفوا في ظل تطبيقه الأمن والأمان والاطمئنان الروحي والفكري، والسلم والسلام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

المبحث الثاني: المشتـرك بيـن المذهب المالكي والمذاهب السنية الأخرى

المذاهب الفقهية السنية وعلى رأسها الأربعة كلها مغتـرفة من معيـن واحد، ومقتبسة من مشكاة واحدة، فمنطلقاتها الكبـرى واحدة. ومقاصدها العظمى هي هي، وإنما وقع الاختلاف في بعض المسائل والفروع والجزئيات، وبأقلمن ذلك في بعض الأصول والقواعد.

فالمشتـرك بيـن المذهب المالكي والمذاهب الأخرى أكثر من المختلف فيه، وذلك من جهتيـن:

الأولى من جهة كثرة المشتـرك فيه وقلة المختلف فيه.

والثانية من جهة أن المشتـرك فيه راجع إلى جل الأصول والكليات والقواعد العامة الكبـرى. وبناءُ المذهب إنما هو هذه الأصول والكليات والقواعد، وما سواها من الفروع والجزئيات فالخلاف فيها لا يباعد بيـن هذه المذاهب بل هو خلاف تنوع وتكامل وتوسعة على المسلميـن. فضلا عما للفقهاء الربانييـن، والأئمة الأثبات الراسخيـن، من زاد علمي تـربوي في تدبيـر الاختلاف والاستفادة من جميع أقوال الفقهاء واجتهاداتهم الفقهية، واختلافاتهم المعتبـرة المبنية على الأدلة الشرعية والحجج العلمية التي تشهد لها نصوص الشرع وأصوله وقواعده.

ومواطن المشتـرك فيه بيـن المذاهب ومحالُّها كثيـرة، نمثل لها بالأمور الآتية:

  • 1_ على مستوى الأدلة والأصول الشرعية

فالاتفاق منعقد بيـن المذاهب الفقهية السنية على حجية القرآن والسنة والإجماع، وكذا القياس ما عدا الظاهرية فيما سوى الجلي[20]. وإن كان من خلاف في هذه الأدلة ففي طريقة إعمالها ومنهج الاستدلال بها والاستنباط من النصي منها[21].

ويتميز المذهب المالكي فيما ذكر من الأدلة المشتـركة، ببعض القضايا التي وافقه البعض عليها وخالفه البعض فيها، ومنها أن القياس إذا عضده أصل قطعي فإنه مقدم عند مالك على الخبـر الصحيح[22]، ويسمى حيـنئذ بالقياس القطعي والقياس الكبيـر، كمن أفطر سهوا في رمضان فعليه القضاء على هذا الأصل، خلافا للشافعية الذيـن لا يوجبون عليه قضاء.

وإلى جانب هذه الأدلة فمذهب مالك يعتمد جملة من الأصول الشرعية التي تشتـرك معه فيها مذاهب دون أخرى، أو تتفق معه من وجه دون وجه، أو في طريقة الإعمال والاستدلال، ومنها قول الصحابي المعتبـر أصلا بغيـره في المذهب المالكي، وشرعُ من قبلنا بشروطه، والاستحسان والاستصحاب وغيـرها من الأصول الأخرى[23].

  • 2_ المبادئ العامة

كالعمل بالراجح الأقوى وتقديمه على سواه، ومراعاة المقاصد المعتبـرة الثابتة ثبوتا لا نزاع فيه بطرق الإثبات المعتمدة، وتعليل الأحكام فيما يقبل التعليل منها، ونفيه عما لا يقبل التعليل من الأمور المتمحضة في التعبد والتوقيف وتحقيق المناط، وتحكيم المعاني العقلية العامة، وغيـرها مما تجد المذاهب الفقهية مشتـركة فيه في الغالب الأغلب.

  • 3_ على مستوى القواعد الفقهية والأصولية

فكثيـر منها مشتـرك فيه بيـن المذاهب صيغة ومضمونا وتفريعا. وبعضها متفق على أصله وفكرته وإن كانت هناك اختلافات في بعض الفروع المندرجة فيها أو في صياغتها وألفاظها الواردة بها، أو في حجيتها، أو غيـر ذلك، ومن أمثلة القواعد الفقهية المتفق عليها في المذاهب الفقهية: القواعد الخمس الكبـرى التي هي:

أ_ الأعمال بالنيات. ويعبـر عنها أيضا بعبارة: الأمور بمقاصدها.

ب_ المشقة تجلب التيسيـر.

ج_ الضرر يزال.

د_ اليقيـن لا يزول بالشك.

هـ_ العادة محكمة.

وقد يعبـر عن كل واحدة منها بعبارات أخرى[24].

  • 4_ اعتماد علوم اللغة العربية وقواعدها في تفسيـر النصوص الشرعية والنقول الفقهية والعلمية

فاللغة العربية وعاء للعلوم الشرعية والعقلية وغيـرها، ولا يكون استنباط الأحكام الشرعية وفقه نصوصها سليما إلا بفقهها وفقه علومها وقواعدها، ولا يفهم تـراث الفقهاء فهما سليما إلا بها. ولذلك فالاهتمام باللغة العربية والاعتناء بألفاظها ومصطلحاتها أمر مشتـرك بيـن المذاهب الفقهية، ولأجل ذلك نجد أئمة كل مذهب من المذاهب الفقهية يحققون ألفاظ الإمام وعباراته ونصوصه وأقواله، ويُخَرّجون عليها، ويستنبطون المفهومات من منطوقاته، كما جرى بيـنهم تحقيق النقول وعبارات الفقهاء لتحقيق سلامة المقررات الفقهية، بل ولسلامة فهم معاني الشريعة وحِكَمها ومقاصدها ومكارمها، وكل ذلك وثيق الصلة بأحكامها.

  • 5_ حسن تدبيـر الاختلاف

فمسائل الخلاف أكثر بكثيـر من مسائل الاتفاق، لذلك كان لابد من تدبيـر هذا الاختلاف بيـن الفقهاء وتسييجه بآداب شرعية وضوابط علمية، تجعله خلاف رحمة وتوسعة، لا خلاف فرقة ونزاع.

المبحث الثالث: المختلف فيه بيـن المذهب المالكي والمذاهب السنية الأخرى

المختلف فيه بيـن المذهب المالكي والمذاهب السنية الأخرى له أسباب كثيـرة معقولة مقبولة، قائمة على حجج وأدلة تقشي بصحة جميع الاختلافات المبنية عليها. ثم إن هذا المختلف فيه منه ما يـرجع إلى اللغة وقواعدها، ومنه ما يـرجع إلى فهم النصوص ظنية الدلالة، ومنه ما يـرجع إلى تعارض الأدلة، وغيـر ذلك من الأسباب الكبـرى التي يـنشأ عنها المختلف فيه، الذي يتجلى في أمور من أبـرزها الأصول والقواعد. وفيما يأتي بعض التوضيح لذلك:

أولا: المختلف فيه على مستوى الأصول:

أبـرز ما يمكن الحديث عنه في هذا المقام هو تفرد المالكية بإعمالهم بعض الأصول وكثرة نشاطهم الاستدلال فيها دون غيـرهم من المذاهب الأخرى، حتى اشتهروا بها كأنها خاصة بهم، وهذه الأصول هي:

  • 1_ عمل أهل المديـنة[25]

وإنما احتج به مالك وقدمه على الخبـر الصحيح عند التعارض من باب أنه نقل متواتـر للسنن النبوية الفعلية والتقريـرية، لا من باب أنه إجماع أهل المديـنة، ولأن أهل المديـنة شاهدوا التنزيل، وهم أعرف الناس به وبناسخه ومنسوخه ومالم يـنسخ منه، ولأنهم شهداء آخر العمل النبوي. ومن أمثلته في العبادات: التسليمة الواحدة في الصلاة، وإطلاق توقيت المسح على الخفيـن، قال مالك فيه: ليس في ذلك عندنا وقت. وتثنية الآذان وإفراد الإقامة، قال مالك: لم يبلغني إلا ما أدركت الناس عليه وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا[26].

ومن أمثلته في المعاملات: نفيُ خيار المجلس، والقضاء بشهادة الصبيان وبالشاهد الواحد ويميـن المدعي، ووجوب التماثل بيـن البـر والشعيـر بناء على أنهما كالجنس الواحد لتقارب منافعهما[27].

  • 2_ الاستصلاح

وهو بناء الأحكام على المصالح المرسلة، وهي المطلقة عن الاعتبار أو الإلغاء، فما كان مسكوتا عنه منها هو محل اجتهاد عند الفقهاء، فيلحقونه بالمعتبـرة أو بالملغاة في ضوء الاجتهاد المصلحي وقواعد الاعتبار والإلغاء.

ومن أمثلتها: اشتـراط الخلطة في تحليف المدعى عليه، وقتلُ الزنديق. وضرب المتهم للإقرار[28].

  • 3_ سد الذريعة

والذرائع كما قال الإمام الشاطبي: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.

ولسد الذريعة أربعة أقسام متفاوتة يـراعيها الفقهاء عند تقريـر الأحكام، وهي:

ما أفشى إلى المفسدة قطعا             ما أفشى إليها ظنا ما أفشى إليها كثيـرا           ما أفشى إليها نادرا

ومن أمثلة سد الذريعة: توريث المبثوثة في المرض لئلا يكون ذريعة إلى حرمانها من الإرث.

ومنها قتل الجماعة بالواحد[29].

  • 4_ مراعاة العرف والعادة

وهو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. ويشتـرط في مراعاته وبناء الأحكام عليه شروط أهمها:

ألا يكون طارئا متأخرا عن المحل الذي يـراعى فيه، بل يجب أن يكون سابقا أو مقارنا له.

أن يكون مطردا أو غالبا.

ألا يخالف نصا شرعيا.

ألا يعارضه تصريح يفيد عكس مضمونه.

ومن أمثلته: ما يخل بالمروءة وما لا يخل، وما يعد عيبا وما لا يعد في البيع. ومهر المثل، وثمن المثل، وأجرة المثل، وتقديـر النفقات. وغيـرها من المسائل الأخرى التي يـرجع فيها إلى العرف والعادة للفصل بيـن المتنازعيـن.

  • 5_ مراعاة الخلاف

وهي الرجوع إلى دليل المخالف وإعمال لازم مدلوله، لدفع مفسدة. وكان الإمام مالك مرة يـرجع إليه ومرة يتـرك، مما يدل على أنه آخر ما يـرجع إليه في المذهب، ويشتـرط فيه شروط أهمها:

ألا يؤدي إلى صورة تخالف الإجماع.

ألا يتـرك المراعي له مذهبه من كل الوجوه.

أن يكون الخلاف المراعى معتبـرا[30].

ومن أمثلته:

إذا ثبت تـراضع الزوجيـن أقل من خمس رضعات، بعد مدة أنجبا فيها أولاداً، فإنه يصار إلى دليل الشافعية القاضي بأن الرضاع المحرم هو خمس رضعات فأكثر، فيعمل لازمه ويصحح الزواج وتنبني عليه آثاره من إثبات النسب والتوارث.

ومثل ذلك إذا ثبت الشغار في عقد زواج بعد إنجاب الأولاد، فإنه يصار إلى دليل الحنفية القاضي بالجواز فيصح الزواج وتنبني آثاره عليه[31].

ثانيا: المختلف فيه على مستوى القواعد: ذلك أن وجود القواعد الفقهية والأصولية في المذهب أمر مشتـرك فيه بيـن المذاهب الفقهية، لكن قد وقع الخلاف في بعض هذه القواعد، إما من جهة أصولها أومن جهة فروعها، حتى إن المذهب المالكي قد عُرف بقواعد واختص بها كقاعدة الغالب كالمحقق[32] وما قارب الشيء يعطى حكمه[33]، والشيء إذا اتصل بغيـره هل يعطى حكم محاذيه أو حكم مباديه[34]، وغيـرها من القواعد التي عرف بها المذهب حتى قيل إنها قواعد مالكية، ومثل ذلك يلحظ في المذاهب الأخرى فيقال هذه قواعد حنفية وهذه قواعد شافعية وهذه حنبلية. وما يقال في القواعد الفقهية يقال في الأصولية.

وبعد، فإن المذهب المالكي هو من أجل المذاهب الفقهية السنية، وأعمقها أصولا وقواعد، وأغزرها فروعا ومسائل. وهو بذلك أجدر أن يكون جامعا موحدا مؤلفا كما دلت على ذلك تجربة القرون والأجيال التي أقبلت عليه وانتظمت في سلكه، ومن هاهنا كان اختيار المغاربة له ضمن ثوابتهم الديـنية التي اقتنعوا بها وآمنوا بخيـريتها؛ وهي العقيدة الأشعرية والفقه المالكي والتصوف السني على طريقة الجنيد وإمارة المومنيـن، وهي متكاملة متآخية، يعضد بعضها بعضا ويأخذ بعضها بعجز بعض، وهكذا كان علماء المغرب والغرب الإسلامي: شمولية في الثوابت وشمولية في العلوم، فكما أن الدرس العلمي يقتضي تلاقي العلوم كلها فيه واستحضارها ببيانه وتعميقه، فكذلك الحديث عن أي ثابت من الثوابت يقتضي استحضار غيـره من الثوابت الأخرى للتقوية والتعضيد وتأكيد القيمة التـربوية وسلامة الاختيار.

* أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – الرباط

الهوامش

[1] ينظـر المغـرب مالكـي لمـاذا للدكتـور محمـد الروكـي ص 11 ومـا بعدهـا.(الطبعـة الثالثـة) طبـع وزارة الأوقـاف والشـؤون الإسـلامية بالمغـرب.

[2] يراجع تـرتيب المدارك للقاضي عياض: 1/80 طبع وزارة الأوقاف المغربية.

[3] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[4] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[5] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[6] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[7] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[8] ينظـر فـي ذلـك الفكـر السـامي فـي تاريـخ الفقـه الإسـلامي للحجـوي الثعالبـي وغيـره مـن كتـب تاريـخ التشـريع الإسـلامي فقـد تناولـت الحديـث عـن هـذه المـدارس إمـا بإجمـال أو بتفصيـل.

[9] ينظـر الثوابـت الدينيـة والوطنيـة للشـخصية المغربيـة للدكتـور محمـد الروكـي ص44_ 45_46. (طبـع كليـة أصـول الديـن بتطـوان.)

[10] الثوابت الدينية ص 43.

[11] نفسه: 43.

[12] جماليـة التفقـه فـي المذهـب المالكـي للدكتـور محمـد الروكـي _ الـدروس الحسـنية لعـام 1426ه 2005 طبـع وزارة الأوقـاف المغربيـة ص: 104.

[13] نفسه ص 100. ويـنظر المغرب مالكي لماذا ص: 49 وما بعدها.

[14] جمالية التفقه في المذهب المالكي.

[15] نفسه.

[16] نفسه.

[17] يـنظر المغرب مالكي لماذا ص: 68.

[18] يـنظر الثوابت الديـنية ص: 45-46.

[19] يـنظر المغرب مالكي لماذا ص: 67.

[20] أفاضت في ذلك كتب الأصول وكتب تاريخ التشريع الإسلامي.

[21] أفاضت في ذلك كتب الأصول وكتب تاريخ التشريع الإسلامي.

[22] كحديـث البخـاري: إن الميـت ليعـذب ببـكاء الحـي عليـه فالقيـاس أن الإنسـان إنمـا يعاقـب بمـا فعـل هـو لا غيـره لقولـه تعالى: ﴿ولا تـزر وازرة وزر أخرى﴾ وقوله تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾.

[23] انظر المغرب مالكي لماذا ص: 51 وما بعدها.

[24] هـذه القواعـد الخمـس كليـة كبـرى تشـمل كل أو جـل فـروع الشـريعة الإسـلامية، لذلـك اتفقـت عليهـا المذاهـب الفقهيـة كلهـا علـى مسـتوى أصولهـا، وإن كان بيـنهم خـلاف فـي بعـض فروعهـا مـن جهـة اندراجهـا فـي غيـرها وخروجهـا عنهـا، كمـن تيقـن الطهـارة وشـك فـي الحـدث فهـذا فـرع داخـل فـي قاعـدة اليقيـن لا يـزول بالشـك عنـد الشـافعية وغيـرهم، خـارج عنهـا عنـد المالكيـة لدخولـه فـي قاعـدة أخـرى هـي: ان الذمـة إذا امتـلأت بيقيـن فـلا تبـرأ إلا بيقيـن.

[25] يـنظر المغرب مالكي لماذا ص: 51.

[26] الموطأ.

[27] جمالية التفقه في المذهب المالكي، الدروس الحسنية لعام 1426ه.

[28] نفسه.

[29] نفسه.

[30] نفسه.

[31] نفسه.

[32] ينظر شرح المنجور الفاشي على المنهج المنتخب للزقاق، تحقيق د. عبد الله السفياني: 1/153.

[33] نفسه: 1/204.

[34]  1/178

كلمات مفتاحية : ,