المذهب الشافعي ومراعاة المختلف والمشترك مع المذاهب السنية

المذهب الشافعي ومراعاة المختلف والمشترك مع المذاهب السنية

مداخلة بعنوان “المذهب الشافعي ومراعاة المختلف والمشترك مع المذاهب السنية” للأستاذ عبد القادر شيخ علي إبراهيم عضو لجنة العدل والشؤون الدينية في البرلمان الصومالي وزير الدولة لوزارة العدل والقضاء ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية الصومال خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.

الأستاذ عبد القادر شيخ علي إبراهيم عضو لجنة العدل والشؤون الدينية في البرلمان الصومالي وزير الدولة لوزارة العدل والقضاء ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية الصومال

من رحمة الله جل وعلا أن اختار لهذه الأمة رسالة خاتمة جامعة لكل مناحي الحياة البشرية، وقيض الله لها علماء أزاحوا الشبهات عن مقاصد شريعتنا الغراء فألبست ثوب التجديد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن حفظ الله ورعايته أن جعل لهؤلاء العلماء خلفاً يحمل عنهم العلم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فجمع الله كلمة الأمة على مذاهب فقهية ومدارس عقدية وطرق سلوكية؛ لكل مذهب ومدرسة وطريقة أصولها المحكمة ومنهجها الموثق من المصدر الأسمى كلام رب العالمين وسنة خير البرية. ولولا ذلك لتشعبت الأمة إلى ما لا نهاية من الأفكار، وصار لكل أحد مذهبه، ولاضمحلت الهوية والمرجعية، وضل التراث الإسلامي الذي تم حفظه بقوالب المذهبية، مما يجعل الأمة في حيرة من أمرها، فتعم الفوضى في الإفتاء، ويفسر كل أحد نصوص القرآن حسب هواه غير متبع للأصول المعتبرة في الاستنباط، ولقد ذقنا نتيجة اللامذهبية وما تمخض من رحمها من التطرف والفوضى.

ومن الجانب الآخر، لابد أن نراعي أدب الخلاف بين المذاهب السنية تحاشيا من التعصب المقيت الذى يعطي المذاهب صبغة الأديان المتوازية، ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين.

لذا أود أن ألقي الضوء في مداخلتي المتواضعة حول المذهب الشافعي ومراعاة المختلف والمشترك فيه مع المذاهب السنية

تعريف المذهب لغة واصطلاحاً

المذهب لغة: مكان الذهاب وهو الطريق، والمذهب: المعتقد الذي يذهب إليه صاحبه.

واصطلاحا: عرّف بأنه مجموعة الآراء والأفكار التي يراها أو يعتقدها إنسان ما حول عدد من القضايا العلمية والسلوكية.

وجاء في المعجم الوسيط تعريف المذاهب بأنها: الآراء والنظريات العلمية والفلسفية ارتبط بعضها ببعض ارتباطا يجعلها وحدة منسقة.

نبذة من ترجمة الإمام الشافعي

اسمه:

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيدة بن عبد يزيد بن هاشم بن مطلب بن عبد مناف (جد النبي صلى الله عليه وسلم)،وشافع ابن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي؛ لقي النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم.

مكان ولادة الشافعي وزمنها:

وكانت ولادة الشافعي بقرية من الشام يقال لها: غزة، قاله ابن خلكان وابن عبد البر، وقال صاحب التنقيب: بمنى من مكة. وقال ابن بكار: بعسقلان. وقال الزوزني: باليمن. والأول أشهر. وكان ذلك سنة خمسين ومائة 150ه؛ وهي السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: إنه ولد في يوم مات فيه أبو حنيفة. قال البيهقي: والتقييد باليوم لم أجده إلا في بعض الروايات، أما التقييد بالسنة فهو مشهور من بين أهل التواريخ.

وفاته:

خرج الإمام الشافعي- رحمه الله- إلى مصر فلم يزل بها ناشرا للعلم، وصنف بها الكتب الجديدة، فأصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أياما، فدخل عليه أحمد بن حنبل والمزني يعودانه، قالا: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: يا إخوتي أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولسوء أعمالي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول:

فلما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كَانَ عفوك أعظما

فبكى وبكى من حوله، فنظر إليهم وقال: الوداع الوداع يا أصحابي، الفراق الفراق يا أحبابي، ثم توجه إلى القبلة وتكلم بالشهادتين، وانتقل إلى رحمه الله تعالى إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ارفعه إلى مرام همته، وشفعه في زمرته، وكان ذلك يوم الجمعة نهاية رجب سنة أربع ومائتين(204هـ)، ودفن بالقرافة بعد العصر في يومه.

دراسته العلمية:

حمل الشافعي إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم سلمه أبوه للتفقه إلى مسلم بن خالد مفتي مكة فأذن له في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة، فرحل إلى الإمام مالك بن أنس بالمدينة فلازمه حتى توفي مالك رحمه الله، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة) 195ه( وأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها وأخذوا منه العلم ورجع كثير من مذاهبهم إلى قوله، وصنف بها الكتب القديمة، ثم خرج إلى مكة حاجا، ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة) 198ه( فأقام بها شهرين أو أقل؛ فلما قتل الإمام موسى الكاظم- رضي الله تعالى عنه- خرج إلى مصر، فلم يزل بها ناشرا للعلم وصنف بها الكتب الجديدة.

المعايير التي انتهجها الشافعي في مراعاة المذاهب السنية

انتهج الشافعي بعض الأسس والمعايير في تعاملاته مع أصحاب المذاهب الأخرى، وهي بدورها أدت إلى انسجام ملحوظ بينه وبينهم، ووفاق ظاهر للعيان. ولو تبعه بعض الأتباع حق الاتباع لما وجدنا الأقوال والفتاوى المتناثرة هنا وهناك المليئة بالتعصب البغيض الذي فرق الأمة وكان كفيلا بضعفها وتفرقها، وفيما يأتي الأسس والمعايير التي سار عليها الشافعي في تعاملاته مع العلماء الآخرين.

عدم تعصب الإمام لنفسه

كان الإمام لا يرى لنفسه فضلا عن الآخرين، وإن كان ذلك الآخر من تلاميذه، وكان يسلم العلم لأهله، ومن أروع الأمثلة على ذلك: مقالة الشافعي لأحمد يوما:

«أنتم أعلم بالحديث والرجال، فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني إن شاء يكون كوفيا أو شاء شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا». قالوا: وهذا من دأب الشافعي حيث سلم هذا العلم لأهله[1].

فلم يمنعه الهوى والنفس من الاعتراف بالفضل لأهله، بل أظهر أنه دون الإمام أحمد في معرفة علم الحديث ورجاله.

ومن عدم تعصبه لنفسه أنه كان يرجع إلى الحق إذا ظهر ولا يتمادى فيما كان عليه، بل كان يقول: «إذا قلت قولا وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه فقولي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم»[2].

وقال الطبراني: «سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: يا أبا عبد الله إذا صح الحديث عندكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرونا نرجع إليه»[3].

عدم تعصبه لعلمائه

من أبرز علماء الشافعي وأحبهم لديه الإمام مالك؛ إمام دار الهجرة. وكان يجله ويقدمه على العلماء كما يفيد قوله: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم». وتفيد أيضا مناظرته المشهورة مع محمد بن الحسن الشيباني التي تعرّضا فيها إلى التفاضل بين الإمامين الجليلين؛ الإمام أبي حنيفة صاحب محمد بن الحسن الشيباني، والإمام مالك بن أنس صاحب الإمام الشافعي عليهم رحمة الله ورضوانه. وحكى لنا الشافعي المناظرة فقال محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبكم أو صاحبنا -يعني أبا حنيفة ومالكا رضي الله عنهما؟  قال: قلت على الأنصاف. قال: نعم. قلت: فأنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أو صاحبكم؟ قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال الشافعي رضي الله عنه: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء تقيس[4].

ومع هذا كله فلم يمنعه حبه العميق لذلك النجم عن الإنصاف فقال: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة». وإذا لاحظنا مقولته هذه ترى أنه يقدم أبا حنيفة على العلماء في الفقه فلم يستثن أحدا حتى إمامه المحبوب إليه وهذا إن دل على شيء فهو يدل على إنصاف الشافعي وعدم تعصبه.

إحقاق الحق ولو على لسان الغير

ومن أعظم ما تميز به الشافعي رحمه الله، أنه لا يهمه إلا إثبات الحقّ، فلا ضير عنده من أيّ جهة صدر عنها الحق، وأخبرنا بذلك عن نفسه فقال: «ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ»[5]. فجزاه الله عن الأمة وعن الدارسين خيرًاً.

احترام الشافعي آراء الآخرين ومراعاتها

راعى الشّافعيّ رضي اللّه تعالى عنه وأصحابه خلاف الخصوم في مسائل كثيرة متجنبا التعصب الممقوت أو النظر إلى مخالفيه بعين الاحتقار، وليست هذه الدعوى مدحا عاريا عن الدليل بل لها أمثلة حية في كتب التاريخ وكتب الشافعي نفسه. وقد صرح غير واحد من أصحابه بِأنّهم إنّما يظنّون إصابة ما ذهب إليهِ إمامهم وأنّهم لا يقطعون بخطأ مُخالِفِيهِ وإِلّا لم يراعوا خِلافهم، فلما راعوه علِم أنّهم يجوِّزون إصابته الحقّ وإِن كان الأغلب على ظنِّهِم أنّ الحقّ هو ما ذهب إليهِ إمامهم فاحتمالية الخطأ نسبية وليست قطعية. وما أحسن قول الزّركشِيّ:

«قد راعى الشّافِعِيّ رضي اللّه تعالى عنه وأصحابُه خِلاف الخصمِ في مسائِل كثِيرةٍ، وهذا إنّما يتمشى على القولِ بِأنّ مدّعِي الإِصابةِ لا يقطع بخطأ مخالِفِهِ؛ وذلِك لِأنّ المجتهِد لمّا كان يُجوِّز خِلاف ما غلب على ظنِّهِ، ونظر في متمسّكِ خصمِهِ فرأى له موقِعاً، راعاه على وجهٍ لا يُخِلّ بِما غلب على ظنِّهِ، وأكثره من بابِ الِاحتِياطِ والورعِ، وهذا من دقِيقِ النّظرِ والأخذِ بِالحَزْمِ»[6].

ومن الأمثلة الرائعة التي رسمها الشافعي لطلبة العلم في هذا السياق، ما حكي عنه من تركه القنوت في صلاة الفجر عند زيارته لمسجد أبي حنيفة النعمان ،فلما سُئل عن ذلك أجاب: تركته احتراما لصاحب هذا القبر .

ومنها كذلك عدم إسقاط الإمام الشافعي عدالة مخالفيه مطلقا، وقد عبر عن ذلك بقوله: «المستحلّ لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها ممّن لا تردّ شهادته، )…( وهكذا المستحلّ الدّينار بالدّينارين والدّرهم بالدّرهمين يدا بيد والعامل به؛ لأنّا نجد من أعلام النّاس من يفتي به ويعمل به ويرويه (…) ،فهذا كلّه عندنا مكروه محرّم ، وإن خالفنا النّاس فيه فرغبنا عن قولهم ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم: إنّكم حلّلتم ما حرّم اللّه وأخطأتم؛ لأنّهم يدّعون علينا الخطأ كما ندّعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنّه حرّم ما أحلّ اللّه عزّ وجلّ[7]».

ولا يعني هذا أنه يجوز عند الشافعي أن يفتي الناس بأن هذه الأمور جائزة أو حلال بل هي حرام كما نص على ذلك بقوله «فهذا كلّه عندنا مكروه محرّم»، لكنه مع ذلك يحترم الاختلاف في الرأي فلا يندفع إلى إسقاط عدالة مخالفيه أو رميهم بالفسق والضلال.

التدارس بين الإمام الشافعي وبين أئمة المذاهب السنية

ولقد جسد الإمام الشافعي التبادل المعرفي بين مؤسسي المذاهب فأخذ وأعطى العلم، ولم يكن بينه وبين علماء المذاهب ما كان بين أتباعهم الذين أخذوا عنهم، وفيما يأتي بعض الصور المشرقة من حياة الشافعي في تدارسه العلم مع علماء المذاهب:

دراسة الإمام الشافعي عند الإمام مالك

ذكر الإمام النووي أن الشافعي أخذ عن مالك فقال: «رحل الشافعي إلى المدينة قاصدا الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظا، فأعجبته قراءته ولازمه، وقال له مالك: اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن». وهذا من كرامات الإمام مالك وفراسته[8].

دراسة الشافعي عند محمد بن الحسن الشيباني

أخذ الإمام الشافعي عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني إمام الحنفية بعد وفاة أبي حنيفة رحمه الله وراوي أقوال الإمام أبي حنيفة، وكتاب الأم للشافعي زاخر بالرواية عن محمد بن الحسن رحمه الله.

دراسة الإمام أحمد عند الإمام الشافعي

قدم الإمامان الشافعي وأحمد صورة ناصعة للحب والتعاطف والاحترام فيما بينهم، فقد أخذ كل واحد منهما من الآخر، وكان الإمام أحمد يعد من أصحاب الإمام الشافعي، فقد ورد في طبقات الفقهاء ما نصه: «ومن أصحابه البغداديين أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وقد مضى تاريخ موته وذكر طرف من فضله، قال الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني: ما قرأت على الشافعي رحمه الله تعالى حرفاً إلا وأحمد حاضر، وما ذهبت إلى الشافعي رحمه الله تعالى مجلسا إلا وجدت أحمد فيه»[9].

المدح والثناء فيما بينهم

قال الشافعي: «مالك أستاذي وعنه أخذت العلم، وما أحد أمن علي من مالك، وجعلت مالكا حجة بيني وبين الله، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته».

وقال محمد بن الحسن الشيباني: «إن تكلم أصحاب الحديث يوما ما فبلسان الشافعي». قال النووي: يعني لما وضع من كتبه[10].

وقال أحمد بن حنبل: «كأن الله تعالى قد جمع في الشافعي كل خير»[11].

وقال يحيى بن معين: «كان أحمد بن حنبل ينهانا عن الشافعي رحمه الله تعالى ثم استقبلته يوما والشافعي رحمه الله تعالى راكب بغلته وهو يمضي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله تنهانا عنه وتتبعه فقال: اسكت لو لزمت البغلة انتفعت»[12].

وقال حرملة بن يحيى: «سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد وما خلّفت بها أحدا أتقى ولا أورع ولا أفقه أظنه قال: ولا أعلم  من أحمد بن حنبل»[13].

الشافعية ومراعاة المختلف فيه بينهم وبين المذاهب السنية

اتبع علماء الشافعية مبدأ مراعاة الخلاف التي دأب على العمل به الإمام الشافعي، وفيما يأتي عرض نماذج من هؤلاء العلماء:

الإمام المزني

مع أن المزني ناصر مذهب شيخه الإمام الشافعي إذ قال فيه: «المزني ناصر مذهبي»، إلا أنه خالف شيخه في بضع وستين مسألة، بعضها وافق فيها المذهب المالكي؛ كمسألة دخول الجنب والمشرك المسجد، وكذلك بين أن لكل مجتهد مصيب، وقد خالف الشافعي ووافق الحنفية في أن قدم المرأة ليست بعورة.

الإمام الغزالي

يعد الإمام الغزالي نقطة تحول في المذهب الشافعي من جانب علم الفقه وأصوله؛ إذ استقر المذهب بمؤلفاته القيمة مثل كتاب «الوجيز في الفقه» و»المستصفى في علم أصول الفقه»، وأعطى المذهب صبغة روحانية مزجت بين الفقه والعقيدة والتصوف فأخذ المذهب من بعده منحى آخر يجعل علماء المذهب خدماء للمشترك أكثر من المختلف فاضمحل التعصب المذهبي، وألف كتاب «إحياء علوم الدين» الذي جمع فيه الفقه والعقيدة والتصوف، فصارت المذهبية مجرد صور تعبدية ودفاتر لحفظ التراث الإسلامي. وكان للإمام الغزالي اختيارات فقهية خالف فيها بعض أصول المذهب، وكذلك خالف الإمام الشافعي في بعض مسائل الأصول كما هو ثابت؛ إذ ذهب الغزالي في كتابه المستصفى إلى أن كل مجتهد مصيب في الظنيات وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى مخالفا بذلك الإمام الشافعي .

الإمام السيوطي

يعتبر الإمام السيوطي خادما للمشترك بين المذاهب السنية فقد ألف في القواعد الفقهية والعقيدة والتصوف وعلوم القرآن والحديث كتبا كثيرة، وكان يناضل من أجل جمع كلمة المذاهب السنية وتركيزها على المشترك العقدي والروحي أكثر من الجانب الفقهي، وقد ألف جزءاً صغيرًاً في موضوع اختلاف المذاهب وإثبات أحقية الجميع فسماه: «جزيل المواهب في اختلاف المذاهب»؛ وهي رسالة توفي المقصود، وقال فيها: «كل المجتهدين على هدى فكلهم على حق، فلا لوم على أحد منهم ولا ينسب إلى أحد منهم التخطئة»[14]،  مستندا إلى الحديث الذي رواه البيهقي في «المدخل»  بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما – ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم: « مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى، فالعمل به لا عذر لأحدٍ في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله تعالى، فسنة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني، فما قال أصحابي. إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة». ثم قال: في هذا الحديث فوائد منها:

  • إخباره صلى الله عليه وعلى آله وسلم باختلاف المذاهب بعده في الفروع، وذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الإخبار بالمغيبات.
  • ورضاه بذلك، وتقريره عليه، ومدحه له حيث جعله رحمة، والتخيير للمكلف في الأخذ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها.

واستنبط منه كذلك أن كل المجتهدين على هدى، فكلهم على حق، فلا لوم على أحد منهم، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطئة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأيما أخذتم به اهتديتم»، فلو كان المصيب واحداً، والباقي خطأ، لم تحصل الهداية بالأخذ بالخطأ، ولذلك سر لطيف سنذكره قريبا.

ثم قال: «اعلم أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول:

النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة ؟![15]ومن العجب أيضا من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك.

وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحد أحداً، ولا نسب أحد أحداً إلى خطأ أو قصور.

والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث معناه: أن اختلاف هذه الأمة رحمة من الله لها، وكان اختلاف الأمم السابقة عذابا وهلاكا. فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة.

إذا عرف ما قررناه، عرف ترجيح القول بأن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله في كل واقعة تابع لظن المجتهد، وهو أحد القولين للأئمة الأربعة، ورجحه القاضي أبو بكر، وقال في «التقريب»: الأظهر من كلام الشافعي، والأشبه بمذهبه ومذهب أمثاله من العلماء القول بأن كل مجتهد مصيب، وقال به من أصحابنا:

«ابن سريج، والقاضي أبو حامد، والداركي، وأكثر العراقيين، ومن الحنفية: أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبو زيد الدبوسي، ونقله عن علمائهم جميعا»[16].

حكم مراعاة الخلاف عند الشافعية

مراعاة الخلاف عند الشافعية مندوبة ومستحبة، وذهب بعضهم إلى سنتها، وأحياناً يستعملون كلمة «أفضل» و«أولى».

وجاء في القاعدة الثامنة عشرة من «الأشباه والنظائر» للسيوطي: الخروج من الخلاف مستحب[17].

وجاء في حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: «أن الاستحباب لرعاية الخلاف لا يتوقف على كونه بين الأئمة الأربعة، بل سن الخروج منه وإن كان خلافا لأهل المذاهب[18]. فقد جمع بين الاستحباب والسنة.

قال الزركشي: «والمجتهد إذا كان يجوز خلاف ما غلب على ظنه، ونظر في متمسك مخالفه فرأى له موقعا، فينبغي له أن يراعيه على وجه»[19].

قال العسقلاني في «شرح صحيح البخاري» بعد أن ذكر أن مراعاة الخلاف معتبرة عند الإمام مالك– رحمه الله: – «وكذلك روي أيضا عن إمامنا الشافعي أنه كان يراعي الخلاف، ونص عليه في مسائل، وبه قال أصحابه حيث لا تفوت به سنة عنده»[20]، وهذا من باب الاحتياط.

وهذه المراعاة تكون بإرشاد المفتي للمستفتي إلى استحباب الخروج من الخلاف، ولو أن المجتهد لا يجوز إمكان اعتبار الشرع مذهب المخالف ما استحب لأحد الخروج من الخلاف..

ويقول الإمام الشافعي: «…وأما أنا فأحب أن لا أقتصر في أقل من ثلاث احتياطا على نفسي، وإن ترك القصر مباح لي» …[21].

ولذا اعتبر كثير من العلماء أن الشافعي ممن يقول باستحباب الخروج من الخلاف[22] وأما كون الخروج من الخلاف احتياطا أولى وأفضل، فيقول السبكي:

«اشتهر في كلام كثير من الأئمة ويكاد يحسبه الفقيه مجمعا عليه … أن الخروج من الخلاف أولى وأفضل»[23].

وقد راعى الشافعي- رحمه الله- الخلاف واعتبره، وعلل به بعض المسائل التي خالف فيها اجتهاده.

ومما يدل على مراعاته للخلاف ما يلي:

ثبت عن الإمام الشافعي أنه كان يصلي خلف المالكية الذين لا يقرؤون البسملة ومذهبه أن قراءتها واجبة[24].

وروي عن الإمام الشافعي أنه قال: «حيث ابتلينا نأخذ بمذهب أهل العراق»، وذلك حين صلى وعليه أثر شعر من حلق رأسه، حيث كان مذهبه إذ ذاك نجاسة الشعر[25].

وغيرها من النقول التي تدل على أن الإمام الشافعي اعتبر الخلاف وراعاه، وكذلك فعل أصحابه من بعده، فقد ساروا على منهجه، وراعوا الخلاف كلما كان ذلك ممكنا.

الهوامش

[1] طبقات الحنابلة 1/ 6.

[2] طبقات الشافعية الكبر ى، تأليف: تاج الدين بن علي بن عبدالكافي السبكي، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي د.عبدالفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع – 1413هـ، الطبعة: ط2، 2 / 161.

[3] طبقات الحنابلة 2/ 51.

[4] طبقات الفقهاء 1/ 54.

[5] طبقات الشافعية الكبر ى 2/ 161.

[6] البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين الزركشي، دار الكتبي، ط.1: (1414هـ  1994م)، ج.8، ص .310.

[7] الأم، للإمام الشافعي، ج6، ص. 223.

[8] المجموع، للنووي، دار الفكر، بيروت- لبنان، ط.1: 1997، ج.1، ص.32.

[9] طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي، ص.100.

[10] المجموع، ج.1، ص .35.

[11] المجموع، ج.1، ص.40.

[12] طبقات الفقهاء 1/ 62 .

[13] طبقات الحنابلة، ج.1، ص .18.

[14] جزيل المواهب في اختلاف المذاهب.

[15] جزيل المواهب في اختلاف المذاهب.

[16] جزيل المواهب في اختلاف المذاهب.

[17] الأشباه والنظائر، ص.152.

[18] حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج للرملي 1/189.

[19] المنشور للزركشي 1/128.

[20] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 1/257 .

[21] الأم 1/211.

[22] المجموع للنووي 4/219.

[23] الأشباه ،1/11.

[24] ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين.

[25] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 1/257 .

كلمات مفتاحية :