المديح النبوي ومظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عند الشناقطة

المديح النبوي ومظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عند الشناقطة

الدكتور محمد الحنفي دهاه أستاذ جامعي، عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، فرع موريتانيا
الدكتور محمد الحنفي دهاه أستاذ جامعي، عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، فرع موريتانيا

المديح النبوي ومظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عند الشناقطة

لم يكن فن المدائح النبوية فنا طارئا على الأدب العربي، فقد عرف في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جزء من الشعر الديني الذي يعد أقدم ألوان الشعر عند الأمم جميعها، فالتقاء الفن بالدين قديم ضارب في أعماق التاريخ.

وكان الدين وما يزال من المصادر الهامة التي تمد الأدباء بموضوعات أدبهم، وترقق مشاعرهم وأحاسيسهم وتوحي لهم بكثير من إبداعاتهم.

ويلتقي الدين والأدب في هدفهما، وهو تقويم النفس الإنسانية والمجتمع، وإشباع الحاجة الإنسانية إلى الخير والجمال، وقد خدم الأدب العقيدة منذ القدم، فسجل دعوتها، وبث شعائرها بين البشر، وشرح مضامينها، وشاركها في بث الفضائل في نفوس الناس، وترغيبهم بالأخلاق الحسنة وتنفيرهم من الرذائل.

ومن هنا جاءت المدائح النبوية فنا أصيلا من فنون الشعر الديني، له قيمته وله مكانته عند المسلمين، فهو متعلق بصاحب الدين والمثل الإنساني الأعلى، فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شخصية إنسانية فريدة، هي أعظم شخصيات التاريخ الإنساني، فكان لا بد للأدب من أن يعتني بالحديث عنها، وكان لا بد للأدب من أن يشيد بها وبفضائلها، ويقدم للناس فيضا من خصائص هذا الإنسان الكامل، ليقتدوا به، وتصفو نفوسهم بذكر شمائله، وفي هذا السياق يقول السيد العربي بن السائح الشرقي العمري الرباطي رضي الله عنه:

سكرت ولم يشعر صحابي كلهم ** بأي شراب كان من دونهم سكري

وما بشمول كان سكري وإنما ** شمائل محبوبي شمولي لو تدري

فمن يغتبق صرف المدام معتقا ** فمغتبقي ذكرى شمائله الغر

لذاك تراهم يطربون هنيهة ** وأطرب من ذكرى حلاه مدى الدهر

وبشكل عام فإن شخصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوجبت المدح من المسلمين وغيرهم لعظمتها وسموها».

وإذا كانت المدائح النبوية إحدى مظاهر الاحتفاء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عموم الزمن، وبمناسبة مولده الشريف على وجه الخصوص، فما هي أهم القصائد التي قالها الشناقطة في هذا المضمار؟ وما مظاهر احتفاء الشناقطة بالمولد النبوي الشريف؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه في هذا المقال الذي يتناول المديح النبوي عند الشناقطة ومظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف.

خطة البحث:

وفيه مطلبان:

وفيه ثلاثة مطالب:

وفيه مطلبان:

المبحث الأول: المديح النبوي الدواعي والأساليب

اتخذ المديح النبوي منذ عصره صلى الله وسلم أساليب متعددة، ونتحدّث في هذا المبحث عن دواعي المديح وأساليبه على مرّ العصور

المطلب الأول: دواعي المديح النبوي

إن دواعي المديح النبوي عند المسلمين لا يمكن أن يفي بها الحصر؛ ويمكن أن نقتصر في هذا المقام على محركين أساسيين:

المحرك الأول: هو الرغبة في الدخول من بابه صلى الله عليه وسلم إلى علام الغيوب، فهو كما قال البكري:

وأنت باب الله أيُّ امرئ ** وافاه من غيرك لا يدخل

المحرك الثاني: هو الرهبة والاحتماء به من الشرور، ونفصل هذين المحركين في الفرعين التاليين:

الفرع الأول: المحبة والتشوق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم:

من المعروف والمسلم به عند الخاصة والعامة أن من أهم أسباب محبة الخلق لبعضهم وتعلقهم بهم ثلاثة أمور هي: الجمال والكمال والإحسان وقد جمع الله سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم من الجمال والكمال والإحسان ما لم يعط لأحد من خلقه، وجعل محبته فرضا على المؤمنين، لا يتم الإيمان إلا بها، والمحبة كما روى سيدنا الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه في جواهر المعاني هي:

المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.

وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، وفي هذا المعنى يقول العلامة محمد فال بن عبد الله أطال الله بقاءه:

وللحب شأن لا يعقب حكمه **  سواء غبي عنده وحكيم

يدق عن أفهام العقول لطافة **  فأكدى عليم دونه وفهيم

تجمعت الأضداد فيه فطعمه **  لذيذ لدى مخموره وأليم

إذا اضطرمت نيرانها فجنانها **  عراجين نخل طلعهن هضيم

وقد تسابق الشعراء منذ العهد النبوي إلى مدح رسول الله، والتعبير عن حبهم له، وتعظيمهم لمقامه الكريم، ولم يكن الشناقطة وهم بلاد المليون شاعر، وفرسان البلاغة والبيان أقل الشعوب حظا من هذا المديح النبوي فقد تسابق علماؤهم وشعراؤهم إلى نظم قصائد بديعة في مدحه صلى الله عليه وسلم واشتهر منهم علماء كبار بالاشتغال بالمدائح النبوية ومن أمثلة ذلك قول العلامة محمد بن أحمد يوره في قطعة مطلعها:

إن الذي جاءه بالوحي جبريل **  نال الربيع به فخرا وإبريل

ومنه قد نالت البطحاء منزلةً **  فرد عنها على أعقابه الفيل

وفيها يقول:

يا ليته كان لي في كل منزلة **  كان الحبيب بها شم وتقبيل

إني تطفلت والرحمان ذو كرم **  وللفقير على ذي الطول تطفيل

عسى بمدح رسول الله يدركني **  نصر وفتح وتيسير وتسهيل

هذي فلوسي إذا ما الذنب أثقلني **  فهي الدنانير لي وهي المثاقيل

ويقول العلامة محمد فال بن باب:

مضيت مع الركبان لما تحملوا **  وللقبة الخضراء قلبي جانح

وللصخرة الحمرا التي من غدا بها **  يواجه أركان الهدى ويصافح

فللوجه والليتين مني تلفت ** وللقلب خفق والدموع سوافح

ولو كنت قدرت الهوى ثم قدره ** لسالت بماء الشؤن مني الأباطح

ونفسي ومالي لو شريت بوقفة **  بذاك الحمى والعهد إني لرابح

الفرع الثاني: الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من المكاره:

دأب المسلمون كلما حزبهم أمر على الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم والتوسل به إلى ربه لكشف ما ينزل بهم من الأسواء والأدواء، سار على ذلك سلفهم وخلفهم، ولو جمع ما قيل في ذلك شعرا ونثرا لضاقت الأرض بحمله لكثرته وتنوعه، ولم يكن أهل موريتانيا بمنأى عن هذا الملمح فقد نظموا قصائد كثيرة في التوسل بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به ومن النماذج في ذلك ما قاله محمدّو بن محمدي العلوي:

إني فزِعت وفكرتي جعلت إلى ** خير البرية مُشتكايَ ومفزعي

إنسان عين الكون غرَّة وجهه ** حاوي التفرُّد بالمقام الأرفع

ذو الرتبة العليا التي ما للورى ** من مطمع في نَيْلها من مطمع

بابُ الإله ومصطفاه لسره ** وسراج حجته الذي لم يقْشَع

مَنْ خصهُ بحُلي الكمالِ إلهُهُ ** والكون واقع أمره لم يوقع

وإلى اسمِه ضمَّ اسمَهُ شرفاً له ** من قبل حيعلة المنادى المسمع

وبه توسل الأنبياءُ إلى الذي ** حازوه من سرّ النبوَّة أجمع

إلى أن يقول:

إني بمدحك أستجيرُ وإنني ** منه لفي الحصن الحصين الأمنع

فأمنتُ طارقةَ الحوادث وانثنت **  عني دواهم كلِّ خطب مفظع

وبك احتميْتُ من المكاره فاحمني **  وبك استعنْتُ على الزمانِ فكنْ معي

لتكن معي عند الممات وكن معي **  عند السؤال وكن معي في مضجعي

لتكنْ معي يوم الجزا إن قُدِّمت **  نفسي لما صنعت وما لم تصنع

صلى الإله عليك ما صدحتْ على **  فَنَن مُطوَّقةُ الحمام السُّجّع[1]

ومن نماذج توسل الشعراء الموريتانيين بالنبي صلى الله عليه وسلم عند خوف حصول المكاره قول العلامة محمد فال بن أحمد بن العاقل:

أدخلت نفسي ومن خاللت من أحد ** في الميم والصاد من لفظ اسمك الصمد

والتي يقول فيها:

يا من نمته عروق الفخر من مضر ** كما تسنم فرع المجد من أُدد

إني غرِضتُ إلى اللقيا كما غرِضت ** من فقدها لنمير الماء نفس صدي

جد لي بلقيانة يلفى بها رغداً ** عيشٌ فما العيش إن لم تلف بالرغد

ومن أتاك رديىء الكسب صار له ** مما أتاكَ رديىء الكسب غير ردي

أنت المقيمُ لمن وافاكَ ذا أودٍ ** حتّى يكون كأن لم يمس ذا أود

أنت الشفيع غدا يوم اللواءَ كما ** أنت المجير من اللاواء قبل غد

فكيف يصدأ قلبي بعدما خلدَت ** أوصاف ذاتك ذات الحسن في خلدي؟

أم كيف أخشى من الأعداء صولَتَها ** وقد شددت بمدح المصطفى عضُدي؟

أم كيف أرتاع إن غودرت منفردا ** وحدى ومدحك أنس الخائف الوحد؟

وكيف تصعب حاجٌ لي احاولُها ** وأنت جاهيَ في حاجيَ مستندى؟

حسبي مديحكَ يا نعماي من نَعم ** ومن عروضٍ ومن عين ومن حفد

عليك أزكى صلاة لا نفاد لها ** ما أن فضلك محفوظٌ من النفَد

معها سلامُ كترياق المدام إذا ** شجّت سحيرا بماء الثلج والبرَد

المطلب الثاني: أساليب المديح النبوي

اتخذ المديح النبوي أشكالا متعددة، منها  ما يقع نظما للسيرة أو سردا للمعجزات، فأتت فيه الأحاديث والروايات بنصها وألفاظها تقريبا، وقد سار الشعراء على أنماط أكثرها تقليدية تبدأ بالوقوف على الأطلال وتثني بالغزل وذكر الرحلة، ليصل الشاعر بعد ذلك إلى موضوعه وهو المدح، ويختمها بالمراد من مدحته، وقد اختلف هذا الشكل من شاعر إلى شاعر، فبعضهم أخل به بعض الإخلال، وبعضهم غيّر فيه، فاستبدل بذكر الأطلال وديار المحبوبة، ذكر الأماكن المقدسة، وترك الغزل الإنساني المحسوس، وتغزّل غزلا عاما مجرّدا، مظهرا تشوقه ووجده، ومشاعره الدينية الرقيقة.

وإلى جانب ذلك نرى الإضافات التي زيدت على القصائد، فغيّرت شكلها، مثل التشطير والتخميس والتسديس والتسبيع، مع الموشحات والأشكال المستحدثة الملحونة.

ونلاحظ كذلك وجود القصائد المخططة مسبقا، والتي وضع الشعراء لها قيودا محددة، كأن ينظم الشاعر عددا من القصائد، كل قصيدة تتألف من عشرة أبيات، ولها روي مختلف، ويرتبها ترتيبا أبجديا، بعدد حروف الهجاء وتسلسلها، وقد تكون القصائد مؤلفة من عشرين بيتا، فتكون من العشرينيات[2].

هذا بالإضافة إلى وجود مدح نثري متنوّع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، جاء على شكل رسائل ومقامات، وفي خطب الكتب وأثنائها، إلى جانب الموالد النبوية[3].

المبحث الثاني: مجالس المديح النبوي في موريتانيا الأصول والأساليب

نتعرّض في هذا المبحث للمديح في موريتانيا في مطلبين نخصص أولهما لأصول المديح، وثانيهما لنماذج من المدائح النبوية التي دبجها الشناقطة:

المطلب الأول: أصول المدح النبوي في موريتانيا وخصائصه

نحتاج هنا أن نفرّق بين المدح والمديح مستلهمين هذه التفرقة من اللهجة الشعبية حيث يطلق المدح على مجالس مديح النبي صلى الله عليه وسلم، والمديح على الكلام المنظوم في الثناء عليه، وهو أمر لا تأباه اللغة العربية، ففي معجم العين: «المدح: نقيض الهجاء وهو حُسْن الثَّناء. والمِدْحة اسم ‌المديح، وجمعه مَدائحُ ومِدَحٌ، يقال: مَدَحْتُه وامتَدَحْتُه»[4]

فبان أنهما متقاربان من حيث اللغة، وسمحنا لأنفسنا بهذه التفرقة لأسباب منهجية، فالمدح النبوي الشعبي هو مزيج من الثقافتين الإسلاميتين الإفريقية والثقافة العربية، فبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية تتجلى في الطابع الديني، من خلال محتوى الأغاني المخصص لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الصدد يتم التغني به ليلة الجمعة، وفي المولد النبوي الشريف، وطيلة شهر رمضان الكريم.

وبالنسبة للثقافة الإفريقية فإنها تأخذ مظاهر متعددة في الإيقاعات المعبرة عن الحالة النفسية للمؤدين، والمتمثلة في الرغبة في الخروج عن نمط الحياة الصعبة.

يتم أداء المدح بلغة شعبية دارجة (الحسانية)، وفق طقوس معينة في الجلوس وطريقة الأداء، حيث يجلس المؤدون الذين يقودهم شخص واحد، يرددون من بعده كلاما قد يتفق مع ما يقوله وقد يختلف، وفي أوقات زمنية معروفة، ويبتدئ عادة بالقصائد المديحية الغزلية الصوفية التي تعبر عن التشوق إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة الأماكن المقدسة، ثم تلك التي تمجد مولده وحياته ومعجزاته وبداية دعوته، ثم غزواته وانتصاراته على أعدائه ليختم بنظم لسيرته والصلاة عليه.

ولا يمكن تحديد الفترة التاريخية بالضبط التي عرفت ظهور المدح النبوي الشعبي بالشكل الذي عليه الآن، وإن كنا نستطيع أن نجزم من خلال بعض مفرداته، أنه ضارب في القدم في المنطقة، فقد تحدث بعض الباحثين[5] أن كلمة “أسكي“ الملازمة للمدح تعود إلى اللقب الذي كان يطلق على ملوك دولة الأساكية التي ظهرت في القرن التاسع الهجري، في منطقة “كَوْكَوْ” الواقعة في الشمال المالي وتضم مدن: تنبكتو وأروان وبوجبيها، وهي مدن لها علاقة وثيقة بتاريخ الصحراء[6].

المطلب الثاني: نماذج من المديح النبوي في موريتانيا بالشعر الفصيح

لقد أبدع الشعراء الموريتانيون في المديح النبوي، جيلا بعد جيل، ودبجوا في هذا الغرض قصائد شاعت وذاعت في جميع أصقاع المعمورة وكان لها تأثيرها البالغ في الساحة الأدبية في العالمين العربي والإسلامي وسنقتصر هنا على بعض النماذج من هذا المديح:

  • فائية ابن رازكة (سيدي عبد الله بن محم العلوي) في وصف نعله الشريف صلى الله عليه وسلم:

غرام سقى قلبي ‌مدامته ‌صرفا ** ولمّا يقم للعذل عدلا ولا صرفا

قضى فيه قاضي الحب بالهجر مذ غدا ** مريضاً بداءِ لا يطبُّ ولا يُشفى

نهاريَ نهرٌ بين جَفنيَ والكرى ** وليلىَ بحرٌ مرسَلٌ دونهُ سَجفا

جريحُ سهام الحب عاث به الهوى ** فأبدى الذي أبدا وأخفى الذي أخفى

توطّنتِ الأشواقُ سوْداَء قلبه ** فترفعهُ ظرْفاً وتخفضهُ ظرْفا

إلى أن يقول:

أرى الشعراء الهائمين تشببوا ** بذكر المحاكي من يحبونه وصفا

يُذيعون ذكر البان والحقف ذي النقا ** ويطرون ذات الخشف بالقول والخشفا

فها أنا في تمثال نعليك سيدي ** مضيت على التحقيق في الوصف كالأشفى

وإني وتوصافي بديع حلاهما ** كمن همَّ بالبحرين يفنيهما غرفا

موازي ترابَ النعل بالتبر سائمٌ ** جبال شروري السمَّ أن تزن الزفا

أيا من سَقَتْ ألفاً ظماء بنانهُ ** كما وهبت ألفاً كما هزمت ألفا

وفيها:

ولي فيك عين ما أن العين ثرة ** حكتها ولا هامى الحيا مثلها وكفا

وقلب تولى الحب تصوير شكله ** صنوبرة ثم استبد به حلفا

فكان سواء عذبه وعذابه ** عليه فما استعفاه قط ولا أعفى[7]

  • واوية سيدي محمد بن الشيخ سيديا الأبياري وهي:

أهلا بصاحب هذا المولد النبوي ** مقابلِ الطرف الأميّ والأبوي

أهلا بميلاد مولود به كمُلَت ** بشرى البشائر للبادي وللقروي

أهلا بميلاد من لم يحك مولده ** من الظروف مكانِيٌّ ولا ملوي

أكرم بها ليلةً غرّاء مسفرة ** عن غرة في مُحيّا الضئضئ القصوي

أكرم بها ليلةً غرّاء ضاحيَةً ** فيها يتيمةُ سمطِ اللؤلؤُ اللأوي

أكرم بها ليلة غرّاء مظهرةً ** سرّ الوجود الذي فيه الوجود طوى

  • قصيدة زارت على لمحمدو بن محمدي العلوي:

زارت علي على شحط النوى سحرا ** فاعتاض جفنك من عذب الكرى سهرا

زارت فبات نظام الهمّ مجتمعاً ** شوقاً وبات نظام الدمع منتثرا

فالقلب يغلي وجفن العين يُسعده ** بمدمع كلّما كفكفكته انحدرا

وبعد مقدمات يتخلص إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:

إني إذا الحبل أمسى من عُلَيَّةَ ذا ** صرْم وأمسى تدانيها نوًى شُطُرا

عديت عنها وعن جاراتها وَخَدَتْ ** بي نجب فكرىَ للمختار من مضرا

من يشغل الذهن منه في محاسنه ** يستقبح اللعَسَ المعسول والحَوَرا

لمَّا برى كبدي ما قد جنته يديي ** ممته صارفاً عن غيره البصرا

وجهَّتُ وجْهي إلى خير الورى وأرى ** لنفسيَ الفوز بالمطلوب والظفرا

وجّهت وجْهي إلى مُغْنى الفقير ألا ** إني لمعروفه من أفقرِ الفقرا[8]

  • قصيدة أحمد بن محمد سالم المجلسي:

أتذري عينُهُ فضَضَ الجمان ** غراماً من تذَكّره المغاني

مغان بالعقيق إلى المنقّى ** إلى أحد تذكرها شجاني

ومن تذكار منزلة بسلع ** إلى الجمّا تعاني ما تعاني

فهل عزم يصول على التواني ** وهل بعد التباعد من تدان

وهل أغدو بكور الطير رحلي ** على وجناء دوسرة هجان

تَبُذُّ العيس لاحقَةً كلاها ** وتطوى البيد مسنَفَةَ اللبانِ

تُرى بعد الدؤوب كأخدري ** بيَمؤودٍ ارنّ على أتانَ

حداها شوق دار الفتح مثوى ** إمام الرسل مأمن كل جان

ومعقل من تعاورَه الدواهي ** وكاسب معدم وفكاك عان

بعيشك صف شمائله فإني ** أحن إلى شمائله الحسان[9]

ومن النماذج التي هي أقرب للموشحات قصيدتي صلاة ربي للعلامة محمد اليدالي وتهنئة الربيع للعلامة محمدي بن سيدي عبد الله العلوي

  • قصيدة صلاة ربي لمحمد بن سعيد اليدالي
صلاة ‌ربي .. مع السلام .. على حبيبي .. خَيْرِ الأنام
بادي الشَّفُوفِ .. داني القُطوفِ .. بَرٍّ عَطوفِ .. ليْثٍ هُمام
ذاك النبيُّ .. الهاشميُّ .. ذاك العليُّ .. الهادي التَّهامي
ذاك الرفيعُ.. الغَوْث المنيعُ .. ذاك الشفيعُ .. يومَ القيام
عينُ الكمالِ .. عينُ الجمالِ .. قُطبُ الجلالِ .. قُطبُ الكرام[10].

 قصيدة تهنئة الربيع لمحمدي بن سيدي عبد الله العلوي

تهنئة الربيع * بمدحة الشفيع * بالمنطق البديع * أبغي بها مؤملي

أهلا بشهر المولد * شهر العلا والسؤدد* شهر النبي أحمد * شهر ربيع الأول

قد خص بالربيع * إذ كان كالربيع* للأرض والشفيع * بكل خطب معضل

أهلا بشهر الفرح * شهر ذهاب الترح* وفخرنا والمرح * شهر النبي الأفضل

شهر الفلاح والسرور * شهر به ساد الدهور* موشح بين الشهور * متوج مكلل

أهلا بشهر الفاتح * إغلاق كون الفاتح* من خص بالفواتح * وحاز ختم الملل[11]

المطلب الثالث: نماذج من المديح النبوي بالشعر الشعبي

يتخذ المدح بالشعر الشعبي طريقتين:

الطريقة الأولى: تدبيج قصائد طويلة في المديح النبوي على غرار قصائد الشعر الفصيح، يسلك فيها الشعراء نفس المسلك الذي يسلكه الشعر الفصيح، فيتخذون من السيرة والشمائل النبوية مادة لهذه القصائد

الطريقة الثانية: هي طريقة الأشوار[12]، وهي عبارة عن أغنية يتداولها المحبون، تعرض على الجمهور بعد تلحين المختصين، فيدلي كل من أراد المشاركة في الشور بكَاف[13].

وسنقتصر على نماذج مختارة من القصائد الشعبية بنوعيها:

نماذج من القصائد الشعبية:

من القصائد الشعبية الرائعة مدائح الهادي بن محمدي العلوي ومنها لامية يقول في مطلعها:

بسم خلاك السموات السبع ** والتربات السبع والرب تعال

خلاك سبع اوسبع فكل من جمع ** وإلراد تخلك فكل من قال

خلك المخلوقات كاملات بدع ** أو فصله افصال كادت الفصال

ما اتشوف وصل أولا اتشوف ركَع ** أولا ينشاف سلك أولا اجراك أولا اشلال

أوخلك ارسول أوخيرت مجتع ** في الماض والحال والمآل

وله سينية يقول فيها:

بسم المقدم الواحد القهار ** الفرد الموصوف بالتقديس

لاه انكول كلمات في المختار ** اشوي غير ال ماسهم استمليس

ال محدو اطفل امراد اكبار ** ما اكبر بكبيظ الكم أولا الحيس

ومن ذلك قول العلامة ألمين بن سيدي “أيمين”:

حبُّ فالگلب اغلَب طَبُّ ** والينفَع فيه ألَّا رَبُّ

الِّ من حاشيتُ صبُّ ** فالگَلب ولاه امهَنِّينِ

وانِّين امَّلِّ من حبُّ ** ؤلانافعنِ گاع أَنِينِ

واحنينِ فِيه ألَّا مَنزاد ** ؤعدت امعَمَّر بيه اسنينِ

ؤگَد ال بيه انزادُ زاد ** اسنين ينزاد احنينِ

المبحث الثالث: الاحتفاء بالمولد النبوي في موريتانيا

تتكثف نشاطات المديح النبوي في شهر ربيع الأول احتفاء بمولده الشريف، ونتعرّض في هذا المبحث إلى نمطين من الاحتفاء أحدهما احتفاء جزئي في أوقات معينة، والثاني يتخذ من شهر ربيع الأول كله فرصة لهذه الاحتفالات، وهو ما نوضحه في المطلبين التاليين

المطلب الأول: الإحياء الجزئي لشهر ربيع الأول

اتخذ الاحتفاء بالمولد النبوي أشكالا متعددة، وقد عرف تطورات في الآونة الأخيرة خصوصا بعد تكرر الإساءات على الجناب النبوي، ويمكن أن نرصد في هذا الإطار نماذج متعددة منها:

  • الأمداح الشعبية

وهي أمداح تقوم بها العوام على عزف آلة “النيفارة” ويحكى عليها الكثير من الأدب الشعبي المتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه، على شكل أشوار وكيفان، وتأخذ موضوعاتها منحيين عادة أحدهما الحديث عن سيرته العطرة، والثاني طلب شفاعته وصحبته في الآخرة، ويتكثف ذلك في ربيع الأول، لكنه يستمر طوال السنة ويتحرى الأوقات الفاضلة كالجمعة ورمضان، وفي هذه الحفلات، يستعمل “الطبل” التقليدي فقط، دون أدوات موسيقية أخرى، وتختار الكلمات وفق أوزان خاصة بالشعر الشعبي المعروف ب “لغن”. يختار المدّاحون الليالي المقمرة لبدء جلسات المديح التي يحضرها المئات، ويتنافس الشعراء في ارتجال الأبيات و”الكيفان” تفاعلا مع المنشدين والمداحين.

  • المحاضرات

من صور الإحياء الجزئي إلقاء محاضرات وسهرات تنظمها جهات رسمية كوزارة الشؤون الإسلامية، والإذاعة والتلفزيون، ينعشها الأئمة والفقهاء.

  • المؤتمرات الموسمية

تتخذ بعض الهيئات غير الحكومية من ربيع الأول موسما للاحتفاء بالمولد النبوي، وتعقد مؤتمرات محلية ودولية، تستضيف فيها نخبة من العلماء، لتدارس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تعمل مسابقات تخصص جوائز للمتفوقين في فرع من فروع المعرفة[14].

  • المهرجانات

من المهرجانات الموسمية مهرجان المداح، وهو مهرجان يقيمه مركز ترانيم للفنون الشعبية[15].

ومنها خيمة المدح، وهي سهرة تقيمها قنوات تلفزيون لاستضافة بعض المداحين

ومن صور الإحياء الجزئي تحري أوقات معينة مثل: إحياء ليلة المولد النبوي، وذكرى يوم اسمه الشريف، غالبا ما يقوم تلامذة الزوايا الصوفية بقيام هاتين الليلتين إلى الصباح، فبعض المشايخ يحيي ليلة المولد وبعضهم يحيي ليلة الاسم، وتحكى في هذا القيام الأشعار وتقام ليال عامرة بالابتهالات والمدائح النبوية والأذكار، حيث يتحلق المريدون حول الشيخ، ينشدون ميمية البوصيري في المديح، وأشعار ابن الفارض وغيره من شعراء الصوفية.

  • اتخاذ يوم مولده صلى الله عليه وسلم عيدا

تخصّص أغلب المناطق في موريتانيا يوم الثاني عشر بمراسم احتفالية خاصة منها التعطيل الرسمي في جميع مرافق الدولة، تعطيل المدارس ثلاثة أيام، تعطيل المحاظر أسابيع، لبس الجديد والتزاور والتوسعة على العيال…

المطلب الثاني: الإحياء الكلي لشهر ربيع الأول

تقوم في بعض المناطق الموريتانية مجموعات[16] بإحياء جميع الشهر على النحو التالي:

  • مجالس الشفا للقاضي عياض:

قراءة جزء يومي من كتاب الشفاء للقاضي عياض من أول يوم من ربيع الأول إلى نهاية الشهر في المسجد الجامع بين الظهر والعصر

تدارس الشفا بالتعليق عليه من طرف الشيخ في مجلس الدرس في المحظرة مع استصحاب بعض الشراح وإتحاف الحاضرين ببعض الفوائد، وربما كانت هذه المجالس مناسبة لإنشاد بعض عيون المدائح بصوت تطرب له النفوس وتنتعش له الأرواح[17].

  • مجالس تهنئة الربيع:

تبدأ مع بداية شهر ربيع الأول جلسة ليلية في مساجد بعض القرى بين المغرب والعشاء، لقراءة الأمداح النبوية على ترتيب العلامة بدي بن سيدين التي ضمنها مختارات من غرر المدائح وختمها بقصيدة تهنئة الربيع التي تقدم ذكرها.

الهوامش

[1]  – الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، (ص56).

[2]  – المدائح النبوية حتى نهاية العصر الملوكي، (ص535).

[3]  – المرجع نفسه، (ص535).

[4]  – العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (تـ 170 هـ)، تح: د. مهدي المخزومي، د إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال (3/ 188).

[5]    – الدكتور محمد الأمين ابراهيم السالك المديح النبوي في موريتانيا المدلول والخصائص

[6]  – المختار ولد كَاكَيهْ، مجمل تاريخ الموريتانيين، الطبعة الأولى 2007، ص 75- 83.

[7]  – الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، الوسيط، أحمد بن الأمين الشّنْقِيطي (تـ 1331 هـ)، الشركة الدولية للطباعة – مصر، الطبعة: الخامسة، 1422هـ – 2002 م (ص4 – 8).

[8]  – المرجع نفسه، (ص58).

[9]  – الشعر والشعراء، د. محمد المختار بن اباه، ص 205- 206

[10]  – الوسيط، مرجع سابق، (ص223).

[11]   – الاثنينة، عبد المقصود خوجه، ج2 ص: 800

[12]  – جمع شَوْر، وهي كلمة عامية تعني عنوان أغنية

[13]  – الكَاف بكاف معقودة تعني بيتا من الشعر الشعبي

[14]  –  من ذلك المؤتمر السنوي للتجمع الثقافي الإسلامي الذي يترأسه الشيخ محمد الحافظ النحوي

[15]  – مركز ترانيم للفنون الشعبية هو مؤسسة ثقافية مستقلة تأسست سنة 2014، تهتم بإحياء الموروث الفني الشعبي التقليدي الموريتاني من أجل إعادة الاعتبار لهذا الموروث وممارسيه عن طريق إيجاد منبر حر يمكن ممارسيه من تحديد هويتهم من خلال مقاربة الفن في خدمة الحقوق.

[16]  منها مجموعة العلويين في منطقة الكَبلة

[17]   – إنباء الخلف بأعمال السلف، د. عبد الله بن إسلم (لم ينشر)

كلمات مفتاحية :