المدرسة المالكية المغربية وامتداداتها الإفريقية

المدرسة المالكية المغربية وامتداداتها الإفريقية

مداخلة بعنوان “المدرسة المالكية المغربية وامتداداتها الإفريقية”  للأستاذ  عبد الله بن إدريس أبوبكر ميغا رئيس جامعة الدار متعددة التخصصات بالجامعة الإسلامية بالنيجر ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية النيجر خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.

الأستاذ عبد الله بن إدريس أبوبكر ميغا رئيس جامعة الدار متعددة التخصصات بالجامعة الإسلامية بالنيجر ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية النيجر
الأستاذ عبد الله بن إدريس أبوبكر ميغا رئيس جامعة الدار متعددة التخصصات بالجامعة الإسلامية بالنيجر ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية النيجر

مقدمة

الحمد لله الذي جعل الفقه في الدّين من أعظم العلوم قدراً، وأشرفها أمراً وأكثرها أجراً، والصلاة والسّلام على صاحب الرسالة العظمى، خاتمة الرسالات ،سيدنا ونبينا محمد، أشرف المرسلين وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين ،ورضي الله عن آله وصحبه، حفّاظ الدّين، وحملة شريعته، الذين طووا بساط الجهل ببثّ العلم والتّدوين، ورحم الله الأئمة والفقهاء، وسائر علماء الإسلام العاملين المخلصين، الذين تواردوا على منصة خدمة الفقه الإسلامي وشريعته الغراء على مرّ العصور والأزمنة.

وبعد، فهذه ورقة بحثية سطرتها في عجالة بعنوان: «امتدادات المدرسة المالكية الفقهية المغربية الأفريقية»؛ مقدمة إلى الدورة التواصلية الثانية التي تنظمها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة على هامش الدروس الحسنية المنيفة لعام 1439هـ.

ويسعدني ويشرّفني أن أتوجّه بجزيل الشكر والامتنان إلى السيّد الرئيس المنتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وللسيّد الأمين العام لها، على هذه الدعوة الكريمة للمشاركة في هذه الدورة العلمية التواصلية الثانية، معرباً للمؤسسة إعجابي بحسن اختيار موضوع هذه الدورة العلمية التي تتعلق بالثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق. وهذا البحث محاولة لكشف اللثام عن جوانب مهمة ومحطات مشرقة من تاريخ المدرسة المالكية الفقهية المغربية الإفريقية، والتعرف على دور الفقهاء المغاربة والأفارقة في نشر هذا المذهب وتوطيد أركانه في ربوع غرب أفريقيا.

صعوبات البحث

وقد اكتنف هذا البحث صعوبات منها:

  • قلة المصادر في هذا الموضوع.
  • كون المذهب المالكي تعمق تأثيره في المجتمعات المغربية والإفريقية، بحيث يصعب الإحاطة بكل جوانبه.

خطة البحث

وقد انتظم البحث في مقدمة وخمسة مباحث تعقبها خاتمةٌ محتويةً أهم نتائج البحث وتوصياته:

  • المقدمة بها أهمية البحث وصعوباته وخطته.
  • المبحث الأول: مكانة الفقه الإسلامي ومنزلته بين علوم الشريعة، ونبذة مختصرة عن مدارسه السنية.
  • المبحث الثاني: المدرسة المالكية الفقهية المغربية في المغرب الإسلامي.
  • المبحث الثالث: الامتداد التاريخي للمدرسة المالكية الفقهية المغربية السودانية.
  • المبحث الرابع: دور فقهاء المدرسة المالكية الفقهية المغربية في امتداد ونشر المذهب المالكي في السودان الغربي.
  • المبحث الخامس: دور فقهاء السودان الغربي في نقل المدرسة المالكية الفقهية المغربية إلى السودان الغربي.
  • ثم تأتي الخاتمة متضمنةً أهم نتائج هذه الدراسة والتوصيات.

هذا وإنّه لشرف عظيم لي -مرة أخرى- أن أكون من ضمن المشاركين في هذه الدورة العلمية التواصلية الثانية بهذا الجهد المتواضع الذي جاء على جناح السرعة، وفي عجالة شديدة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن لا يكون هذا البحث مخلا ولا مملا، وأن ينفع به الأمة ويحقق الهدف المرجوّ منه، إنّه ولي ذلك والقادر عليه والهادي إلى سواء السبيل.

المبحث الأول: مكانة الفقه الإسلامي ومنزلته بين علوم الشريعة، ونبذة مختصرة عن مدارسه

أ-مكانة الفقه الإسلامي ومنزلته بين علوم الشريعة

لقد كان الفقه الإسلامي – ولا يزال – من أهم الأسس والعوامل التي أسهمت في بناء الأمة الإسلامية، وتكوين حضارتها، واتساع عمرانها، وامتداد سلطانها؛ لأنه فقهٌ يقوم على العدالة، ويشرع الحقوق ويصونها، ويكفل الحرية ويلائم الفطر السليمة، ويزيل الفوارق، ويساير التطور، ويمسك بالأصول والقواعد العادلة؛ ذلك أنه مستمد من شرع ﴿لا يَاتِيهِ اِ۬لْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٖ﴾[1]، وإرشاد من رسول أمين، لا ينطق عن الهوى، ولا يحيد عن الحق، فجاء ثابت القواعد ،راسخ الأساس، سليم المبادئ، صحيح النتائج، متفقاً مع الأعراف الصحيحة، والعادات الحسنة، والأخلاق الكريمة ،يهدي إلى الإصلاح، ويدعو إلى السموّ، وينأى بجانبه عن الركود والقعود.

والعلم الشرعي أشرف العلوم وأفضلها على الإطلاق، لما له من نفع على المرء في خاصة نفسه، وعامة إخوانه المسلمين، به يعبد الله – جلا وعلا- وفق ما شرع الله، وتقام الشريعة، وتصان وتؤمن من النقص والخلل والزيادة والإحداث.

والفقه بأحكام الدّين وشرائع الإسلام يحتل المكانة العظمى بين علوم الشريعة، فلقد قال الله- تبارك وتعالى- ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٖ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِے اِ۬لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمُۥٓ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَۖ﴾[2]. وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خيْرًا يُفقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[3]. وكان للفقه الإسلامي مكانته الخاصة، وأهميته الكبيرة في المجتمع الإسلامي، من حيث إنّه العامل الأساسي في إظهار سلوكياتنا الاجتماعية في حياتنا العلمية والعملية، على مرّ الأزمنة وتعاقب العصور.

وهو- أي الفقه الإسلامي- نظام عام للمجتمع البشري بصفة عامة: فيه توضيح لعلاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته مع بني جلدته، وعلاقة المجتمعات المختلفة ببعضها، بل فيه توضيح لعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته بالزمان والمكان والأشياء من حوله[4].

بدأ الفقه الإسلامي يأخذ مجراه نحو التطور في عهد الخلفاء الراشدين، ثم ازدهر بشكل كبير في العصر العباسي الأول، بفضل جهود الفقهاء والأئمة المجتهدين، إذ كانت الحواضر الإسلامية مراكز للفقه الإسلامي، وأصبحت في كل عاصمة منارةٌ فقهيةٌ لإمامٍ مجتهدٍ معروف، أو أكثر من إمام، مدون مذهبه، مقلدة آراؤه، معترف له بالإمامة والزعامة.

وهكذا نجد أنّ هذا العصر أنجب ثلاثة عشر مُجتهدا، دونت مذاهبهم، وقلدت آراؤهم في مختلف الأمصار الإسلامية، لكن لم يكتب البقاء إلاّ لأربعة مذاهبَ، وهي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعيّ، والمذهب الحنبلي[5].

وهذه المذاهب الأربعة هي المذاهب الفقهية السنية الباقية حتى اليوم، والتي حَظيتْ بالاهتمام من بين باقي المذاهب الفقهية التي اندرست على مرّ الأيام، إذْ دوّنت، وأُصّلتْ أُسُسُها، وقُعّدتْ آراءُ علمائِها ووضُعتْ لها الضوابطُ والمعاييرُ التي تبيّن المعتمد منها.

ب-نبذة تعريفية عن المذاهب الفقهية السنية

كان لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، وامتزاج الحضارات العريضة التي كانت سائدة في بلاد العراق والشام ومصر وفارس بحضارة الإسلام الطالعة أن عرضت للناس وقائع جديدة تستدعي وضع بعض التشريعات في المعاملات والحلال والحرام، وكان لابد للفقهاء من الاجتهاد، ممّا أدّى إلى ظهور مدارسَ ومذاهبَ فقهية كبيرةٍ.

ومن العوامل التي ساعدت على تكوين هذه المذاهب الفقهية جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق بعد أن ظهر اللحن في بعض البلاد المفتوحة ،ثم تدوين السنة النبوية في عهد عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- وبعد ذلك اهتم المسلمون بجمع فقه الصحابة وفتاوى التابعين، بالإضافة إلى تشجيع الخلفاء للحركة الفقهية ومؤازرتهم للعلماء، وعنايتهم بمجالس البحث والنظر، ورغبة الكثير منهم في النقاش العلمي الهادف، وفيما يلي عرض لأشهر المدارس الفقهية الأربعة الباقية.

  • المذهب الحنفي:

المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطَى بن ماه التميمّي الكوفيّ، إمام الملة، وفقيه الأمة (تـ 150هـ.)

فقد انتشر في العراق، ودخل مصر والروم وبلخ وبخارى، وفرغانة، وطشقند، وخبوي، وخوارزم، وبلاد فارس، وأكثر بلاد الهند، والسند، وبعض بلاد اليمن وغيرها، ولما كانت دولة الأتراك العثمانيين كان مذهبَ الدولة.

والحنفية اليوم يوجدون بقلة في شمال أفريقيا، وأكثرهم بتونس، وأكثرهم من بقايا الأسر التركية، ويكاد يكون نصف أهل الشام اليوم من الحنفية، وكانوا قلة بفلسطين، وهم الأكثرون من الأتراك العثمانيين، والألبان، وسكان بلاد البلقان، وهم قليلون في بلاد فارس، وهم الأكثرون في تركستان الغربية والشرقية، وبلاد القوقاز..، والكثرة الساحقة من مسلمي باكستان هم الحنفية، وهم الأقلون في سيام، نزحوا إليها من الهند، وفي البرازيل نحو 25 ألف حنفي.

  • المذهب المالكي:

وهو ثاني المذاهب الإسلامية المعتمدة في الفقه الإسلامي من حيث الترتيب الزمني، ونسب إلى عالم المدينة وإمام دار الهجرة، أبي عبد الله مالك بن أنس بن عامر بن عمرو بن حارث (تـ 179هـ). وهو أصح المذاهب وأعدلها.

نشأ مذهب مالك بالمدينة المنورة، وأدخله بمصر عبد الرحمن بن خالد وعثمان بن الحكم، ونشراه بها، هما وعبد الرحمن بن القاسم، ثم زاحمه مذهب الشافعي بها، وانتشر في أوائل القرن الخامس بأفريقيا وسائر بلاد المغرب، كما دخل الأندلس في عهد هشام وتغلب هناك.

وكان بالقرن الرابع بالعراق وبالأهواز، وهو اليوم متغلب في بلاد المغرب، أي شمال أفريقيا، وفي السودان وفي صعيد مصر، وينافسه المذهب الشافعي في المدن وفي بلاد الوجه البحري، ويغلب في قطر وفي البحرين والكويت، كما يوجد في بعض مدن الحجاز.

  • المذهب الشافعيّ:

المنسوب إلى أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، ويلتقي نسبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف (تـ 204هـ.)

ومذهب الشافعي ظهر بمصر وبالعراق، وغلب على بغداد وكثير من بلاد خراسان والشام واليمن، ودخل بلاد ما وراء النهر، وبلاد فارس، والحجاز، وبعض بلاد الهند، ودخل شيء منه في أفريقيا والأندلس. وله المرتبة الثانية بعد مذهب أبي حنيفة في العراق، ويغلب في بلاد الأكراد، وبلاد أرمينية، وأكثر السنيين من أهل فارس شافعية، ومنهم أقلية في القوقاز، والهند، ويغلب في جاوة وسيلان والفلبين وسيام والهند الصينية، واستراليا والحجاز واليمن وعدن وحضر موت.

  • المذهب الحنبلي:

وهو رابع المذاهب الأربعة المعتبرة عند جمهور المسلمين من حيث النشأة والظهور، المنسوب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (تـ 241هـ) ظهر مذهب الحنابلة ببغداد، وكان مقلدوه منذ ظهوره قليلين، وكان أكثرهم بالعراق والشام، ولم يسمع بأنه كان له تغلب إلا ببغداد حوالي323 هجرية ،حيث استفحل أمرهم، وكانت منهم بتلك السنة فتنة الأمر بالمعروف، وكانت لهم فتنة مع الشافعية أيضا.

ويغلب هذا المذهب اليوم على أهل نجد، وأتباعه نحو ربع أهل السنة بالشام، ويوجد بعضهم بالأفغان والحجاز وقطر والبحرين[6].

المبحث الثاني: المدرسة المالكية الفقهية المغربية السودانية

إنّ كلمة المذهب لم تكن معروفة في زمن الأئمة بمن فيهم الإمام مالك بمفهومها الحالي، ولم تحدث إلاّ بعد القرن الرابع الهجري، لما دعت الظروف إلى الالتزام بمنهاج معين في الفقه والتشريع، فكان الإمام مالك وغيره من الأئمة يرون أنهم ينشرون علم السنة وفقه الصحابة والتابعين… فمالك لم يأت بشيء جديد من عنده، وإنّما هو مفسِّرٌ لما فهم من الأصلين (الكتاب والسنة) وأقوال الصحابة والتابعين، وما وجد عليه أهل المدينة، وخير دليل على ذلك قوله في كثير من الأماكن في مُوَطَّئِه: «الأمر المجمع عليه، أو الأمر ببلدنا، أو عندنا، أو أدركت عليه أهل العلم»…[7]. وغير ذلك من العبارات التي تدل على أنّه لم يبدع شيئا من عنده، بل من أقوال الصحابة والتابعين، وما وجد عليه أهل المدينة، إضافة إلى ما فهمه من الكتاب والسنة.

وأكثر من هذا كان الإمام مالك يوصي طلابه ومستفتيه بأن ينظروا في كلامه، فما وافق الكتاب والسنة أخذوا به، ويقول: «ما من أحد إلاّ وهو مأخوذ من كلامه، ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم» …[8]، وعلى هذا فانتساب المذهب إلى الإمام مالك لا يعدو أن يكون تسامحاً أو تجاوزاً.[9]

بدأ المذهب المالكي، أو بالأحرى المذهب الذي ينتمي إليه الإمام مالك، مذهب الصحابة والتابعين وأهل السنة ينتشر منذ أواسط القرن الثاني الهجري في العالم الإسلامي عامة والغرب الإسلامي خاصة، واستمرّ في الانتشار بعد القرن الثاني، إلى أن وصل إلى السودان الغربي مع منتصف القرن الخامس الهجري، وتوطدت أركانه ودعائمه فيه، وبذلك «… غلب مذهب مالك على الحجاز، والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان» …

وقبل أن يصل المذهب المالكي إلى السودان في القرن الخامس الهجري، عانى كثيرا، وامتُحِنَ رجالُهُ في الغرب الإسلامي، ونكل بهم، وأُذيقُوا ألوان العذاب، وشُنت عليهم حربٌ لا هوادة فيها، وكان ذلك في عهد الأغالبة والفاطميين بتونس[10].

وبقي العلماء والمذهب المالكي في محنة شديدة، إلى أن وصل المرابطون إلى الحكم خلال القرن الخامس الهجري فانتصروا للمذهب المالكي، وكان ذلك أهم حدث تاريخي لانتصار المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، فمنذ هذا التاريخ، والمذهب المالكي في انتشار مستمرّ وأصبح المذهب الرسمي للدولة المرابطية، وبات الغرب الإسلامي، بما فيه السودان الغربي المعقل الرسمي له، حتى قال ابن خلدون: «… وأمّا  مالك –رحمه الله تعالى  فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنّهم لم يقلدوا غيره إلاّ القليل»…[11].

وهكذا أصبح القرن الخامس القرن الذي انتصر فيه المذهب المالكي انتصارا ساحقاً في الغرب الإسلامي، بعد صمود طويل، ولم يزاحمه أيُّ مذهب من المذاهب في الغرب الإسلامي حتى يومنا هذا. فكثر أتباعه في العالم الإسلامي، وفي الغرب منه على الخصوص، وحظي بمساندة العامة والخاصة، وأضحى المذهب الذي لا يبغي الناسُ عنه بديلاً.

وتعالت صيحات التنويه به من طرف العلماء والملوك في الغرب الإسلامي، وكان ذلك إعلاناً صريحاً بالانتصار النهائي للمذهب المالكي واعتباره المذهب الرسمي للدول المتعاقبة منذ تلك الفترة إلى الآن، وأصبح جميع الناس ملزمين بإتباعه.

ومن الملوك الذين نوّهوا بالمذهب المالكي الحكم المستنصر ملك الأندلس، الذي قال: «نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهبا من المذاهب أسلم منه… فالاستمساك به نجاة إن شاء الله» …[12]. وهذا أسد بن الفرات يقول منتصرا للمذهب المالكي: «…إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك بن أنس» …[13].

وهنا يبرز دور عبد الله بن ياسين الجزولي؛ ذلك الفقيه المجاهد الذي أمضى سبع سنوات يطلب العلم في الأندلس، وسنوات أخرى في المغرب، ورابط بجانب شيخه الفقيه الزاهد الولي الصالح وجّاج بن زلّو اللّمطي (تـ 445هـ)، الذي قام فترة بالقيروان يتلقى العلم والفقه المالكي على يد شيخ المذهب في عصره أبي عمران الفاسي، ثم عاد ليخطّ طريقه في مجال نشر الدعوة والإسلام السني الصحيح، ومحاربة البدع والمبتدعة، والخوارج وغيرهم، ويؤسس رباطه الذي أطلق عليه اسم (دار المرابطين)[14].

لقد انطلق ابن ياسين من دار المرابطين هذه متجهاً نحو أقاصي الصحراء رفقة يحيى بن إبراهيم الجُدالي أمير قبيلة صنهاجة… وقد كلّف بهذا الأمر – بعد اختيار دقيق وصائب- من شيخه وأستاذه في الدين والمذهب والورع وجاج اللّمطي، الذي إنّما فعل ذلك امتثالاً لتوصية الشيخ الكبير أبي عمران الفاسي ،نزيل القيروان، بأن يصطفى من قبله رجلاً يرتضيه لتولّي مهمة تعليم قبائل الصحراء الممتدة إلى أرض السودان أمور دينهم الذي اعتنقوه من قبل، وتعميق فهمهم له، وإصلاح عقائدهم على مذهب أهل السنة والجماعة، ولكن الرجل لم يقف عند مهمته الدعوية في الصحراء، وإنّما تطلّع لما هو أعظمُ وأخطرُ، فكان المؤسّس الحقيقي للدولة المرابطية، ثم استشهد ابن ياسين– رحمه الله- في إحدى معاركه مع البرغواطيين بالمغرب الأقصى (451هـ)[15]. ثم عهد إلى يوسف بن تاشفين إتمامُ مهمة تمهيد الشمال الإفريقي انطلاقا من المغرب الأقصى، وبذلك أصبح المرابطون يتحكمون في امبراطوريّة شاسعة موحّدة، تمتد أفقيّاً من الحدود المصريّة إلى البحر المحيط، وعَمُوديًّا من بلاد الأندلس إلى حدود النيجر ونهر السنغال جنوبًا[16].

المبحث الثالث: دخول المذهب المالكي إلى السودان الغربي

حينما يريد شخص ما أن يتحدث عن انتشار الإسلام وحضارته وثقافته ومثله العليا في المنطقة التي تعرف اليوم بغرب أفريقيا أو منطقة جنوب الصحراء، وتعرف قديما بالسودان الغربي، فسيستحضر المذهب المالكي؛ أحد المذاهب الفقهية السنية الباقية التي انتشرت في العالم الإسلامي.

إنّ دخول المذهب المالكي إلى السودان الغربي قديمٌ جدّاً؛ لارتباطه الوثيق بشمال أفريقيا، الذي يتمذهب بالمذهب المالكي، وتعتبر دولة المرابطين من الدول الإسلامية، التي لعبت دوراً كبيرًاً في توسيع نطاق انتشار الإسلام في السودان الغربي -كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الإسلام إنما دخل إلى السودان الغربي على أيدي المرابطين عام 460هـ، الموافق 1076م، بعد إسقاطهم لمملكة غانا التي كانت حينئذ شبه وثنية، والصحيح أنّ الإسلام كان موجوداً في المنطقة قبل وصول المرابطين إلى ملكة غانا، وذلك بعد فتح عقبة بن نافع الفهري- رضي الله عنه- لإقليم فزان في ليبيا، وتمكنّه من فتح بعض أجزاء السودان الغربي، وبخاصة منطقة الشمال الغربي لجمهورية النيجر الحالية. ثم انتشر تدريجيّاً عن طريق التجار الدعاة الذين يفدون إلى المنطقة للتجارة والدعوة في نفس الوقت، ولكن لم يزدهر الإسلام وتقوم له دولة يحكمها الإسلام إلا بعد وصول المرابطين، الذين أسهموا إسهاما فاعلا في نشره وتثبيته حيث قاموا بدور منقطع النظير في دفع حركة المدّ الإسلامي إلى مساحات واسعة في السودان الغربي[17].

ومما يؤيّد وجود الإسلام في المنطقة قبل المرابطين، ما ذكره البكري عن عاصمة مملكة غانا (كومبي صالح) ومدينة غانة؛ مدينتان سهليتان إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة وفيها اثنا عشر مسجداً، أحدها يجمعون فيه، ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء، وحملة علم.. وفي مدينة الملك مسجد يصلي فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس الملك، «فأهل التكرور اليوم مسلمون… أسلموا على يدي وارجابي بن رابيس، الذي أسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها.. وتوفي وارجابي سنة 432هـ[18]. وهذا يدل على قدم الإسلام في السودان الغربي قبل فتح المرابطين، ولكن المرابطين رسخوه ووسعوا نطاقه بإقامة دولة إسلامية، وأسهموا في نشر الثقافة الإسلامية فيها.

وقرر المحققون أنّ وجود الإسلام بهذه المناطق كان سابقا لقيام أمر الملثّمين، وهناك شواهد وأدلة تاريخية كثيرة على ذلك، وإنّما عمل هؤلاء في المقام الأول على تصحيح فهم هذا الدين فهماً صحيحاً، وتنقية العقائد من الشوائب والانحرافات بحكم كونهم من أهل السنة وأنصار المالكية، فدورهم إذاً كان دورا إصلاحيّا بالأساس، وهو الدور الذي قاموا به وركّزوا عليه في الشمال من بلاد المغرب الكبير كله شرقاً وغرباً، حين حاربوا البرغواطيين وغيرهم من أصحاب النِّحل والانحراف، لكن هذا لا يمنع من القول إنهم عملوا -أيضا- بجانب حركتهم الإصلاحيّة، على إتمام رسالة التبليغ والدعوة في المناطق الأخرى التي لم يكن الإسلام قد وصلها من قبل[19].

ولدولة المرابطين آثار كثيرة في السودان الغربي، ولعلّ أكبر أثر المرابطين في السودان الغربي، هو نشر المذهب المالكي فيها، والالتزام به في العبادات والمعاملات، ولا يزال المذهب المالكي هو السائد في المنطقة إلى اليوم.

والسودان الغربي تعد من المناطق التي انتشر فيها المذهب المالكي دون أن ينافسه مذهب آخر، وعدّ ابن فرحون المالكي السودانَ الغربي من المناطق التي انتشر فيها المذهب المالكي حين ذكر أهم الأصقاع والبقاع التي عرفها المذهب المالكي حيث قال: «غلب مذهب الإمام مالك على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما وراءها من بلاد إفريقية، والأندلس وصقلية والمغرب الأقصى، إلى بلاد من أسلم من السودان»[20].

ويرجع الفضل بعد الله تعالى أيضا في انتشار المذهب المالكي وسيادته وهيمنته في المنطقة إلى المرابطين، الذين حملوا لواء الإسلام والدعوة إليه، وانتصروا للمذهب المالكي بعد نجاحهم في إقامة دولة إسلامية مترامية الأطراف في السودان الغربي، وكان من الطبيعي أن يتبعهم السودانيون في مذهبهم، ولا يزال المذهب المالكيّ سائداً في غرب إفريقيا، وكذلك المدرسة المالكية الفقهية المغربية أثرت في المناهج والمقررات الدراسية الفقهية التي جلها من الكتب المالكية.

ومن أهم العوامل التي أسهمت في ترسيخ المذهب المالكي في السودان الغربي، أنّ المجتمع السوداني – خاصتهم وعامتهم- يعتبرون أنّ كل ما جاء أو جيء به من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام دينية وفقهية هو الحق، ولذا تعلقوا بالمذهب المالكي –أيضا- وتشبثوا به، ولم يبغوا عنه بديلا، ومما ساعد على انتشار المذهب المالكيّ  في السودان الغربي وبقائه فيه كذلك ندرةُ انتشار كتب المذاهب الأخرى في الغرب الإسلامي عامة وفي غرب إفريقيا خاصة، ممّا جعل كثيرا من الخاصة والعامة يجهلون كلياً ما يروج في المذاهب الأخرى من أحكام، وما تتميز به من مميزات ومحاسن، وهو ما زاد في ترسيخ المذهب المالكي وتقدمه على حساب المذاهب الأخرى.

ومما تجدر الإشارة إليه أن المكانة الاجتماعيّة والسياسية اللتين حظي بهما المذهب المالكي في السودان الغربي خلال القرن العاشر لم يسبق لها مثيل؛ إذ تعد الفترة التي نال فيها الفقه المالكي عناية كبيرة، ووجد علماؤه السلطة المطلقة في حرية التعبير والتفكير، وظهر ذويّ الحل والعقد، مثل: الشيخ محمد بغيوغو، وتلميذه الشيخ أحمد بابا التمبكتي، والشيخ ألفا محمود كعت ،وغيرهم.

وصفوة القول: إنّ السودان الغربي من أهم المناطق في الغرب الإسلامي التي ساد فيها المذهب المالكي، سيادة مطلقة دون منافس له يذكر، وأصبح بذلك من أكثر المناطق انغلاقاً عليه، وبعداً عن المذاهب الأخرى.

وقد قام علماء المالكية في المنطقة بجهود جبارة في خدمة السنة النبوية من خلال مؤلفاتهم، ومن أبرزهم في القرن التاسع عشر الميلادي: الشيخ عثمان بن فودي، الذي قام بجهود كبيرة في خدمة السنة ومحاربة البدع والعادات السيئة المخالفة لمفاهيم الإسلام الصحيحة في مجتمع السودان الغربي.

المبحث الرابع: دور فقهاء المدرسة المالكية الفقهية المغربية في امتداد ونشر المذهب المالكي في السودان الغربي

لقد كان للعلماء والفقهاء المغاربة الذين توافدوا على المنطقة من الشمال الإفريقي أثر كبير في نشر المذهب المالكي في السودان الغربي عبر الأزمنة والعصور، من خلال السعي إلى زيارة أقطاره، إما لنشر العلم والدعوة أو للتجارة والدعوة، ولعل من أقدم من وصلنا ممن زاروا السودان الغربي، واستقروا فيه للتعليم والتجارة هما:

  • الشيخ أحمد بن خلوف الفاسي، الذي استقر بغانا.
  • والشيخ سعيد الدوكالي، الذي «سكن مدينة نيامي (عاصمة إمبراطورية مالي)، خمسا وثلاثين سنة»[21].

ومن أشهر مشاهير العلماء الذين قدموا من الشمال (الإفريقي)، فزاروا المنطقة وأقاموا فيها واحتفظت لنا كتب التاريخ بأسمائهم، نذكر في مقدمتهم:

  • الشيخ أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي (تـ 909هـ)، صاحب التصانيف والرسائل والأجوبة المعروفة، كانت له حظوة كبيرة عند ملوك تغيدا في «آير» (شمال جمهورية النيجر)[22]. وقد بدأت النهضة العلمية في «آير» بمجيء الشيخ عبد الكريم المغيلي إليها عام: 1479م، وفتح مدرسة قرآنية للصغار، وأخرى للكبار، لتعليم علوم الدين والعربية في تغيدا، وبقي فيها فترة قبل مواصلة رحلته إلى «كتشنا» و «كانوا» (نيجريا).. وغيرهما»[23].

وللشيخ المغيلي اليد الطولى في تعلم ونشر المذهب المالكي، ويحكى عنه أنّه لما سافر إلى بلاد السودان الغربي أحضر معه كتب الفقه المالكي؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • الموطأ للإمام مالك.
  • والمختصر لخليل بن إسحاق
  • ورسالةأبيزيدالقيرواني ودرّسها لهم، ويقال: إنه أول من درّس مؤطأ مالك في السودان الغربي، وأرصى المذهب المالكي من خلال تدريسه لكتب المالكية التي حملها معه إلى المنطقة ودرّسها في «كانو» و «كتشنا» وغيرهما[24].

ولم يكن المغيلي وحده صاحب الشأن في ترسيخ المذهب المالكي من خلال تدريسه، فقد جاء آخرون أيضا وكان لهم دور كبير في ترسيخه وانتعاش الحياة العلمية والثقافية بالسودان الغربي منهم على سبيل المثال:

  • الفقيه البلبالي مخلوف بن علي بن صالح، تـ بعد 949هـ.
  • وعبد الرحمن شقّين (تـ 957هـ.)
  • وإبراهيم بن محمد الساحلي، الأديب المعماري المعروف بالطويحين (توفي بعد: 943هـ) ببلاد السودان.
  • ومحمد بن يوسف الزيّاتي الغماري (توفي 990هـ) ببلاد السودان.
  • ومحمد بن علي البلبالي (توفي بعد: 940هـ) [25].

وهناك أسماء أخرى لفقهاء وقضاة، وغيرهم ذكرهم ابن بطوطة في رحلته للسودان الغربي (القرن الثامن الهجري)، مثل:

  • الفقيه محمد الفيلالي، إمام مسجد البيضان بمدينة غاو.
  • ومحمد بن الفقيه الجزولي بعاصمة مالي، وصهره:
  • الفقيه المقرئ عبد الواحد.
  • وعلي الزّودي المراكشي من الطلبة.
  • وأبو إبراهيم إسحاق الجاناتي قاضي تغيدا (في النيجر)»[26].

والفقيه محمد بن عبد الله من أهل تغّيدا –أيضا- فضلا عن جماعة آخرين ممن لم يذكر صفتهم، وما هؤلاء الذين ذكرنا سوى عينة ممن احتفظ التاريخ بأسمائهم، من العلماء والفقهاء الذين وفدوا إلى بلاد السودان الغربي، وتركوا فيها بعض آثارهم وبصماتهم، مع العلم أن كتابة تاريخ العلم والعلماء في المنطقة لم تبدأ في الظهور، إلا مع أوائل القرن العاشر الهجري، أي مع ظهور كتاب ألفا محمود كعت، المسمى «تاريخ الفتاش»، الذي بدأ صاحبه في كتابته سنة 925هـ، وما تبعه من مؤلفات أخرى، ككتابي أحمد بابا التنبكتي: «نيل الابتهاج وكفاية المحتاج» و «تاريخ السعدي» المعروف ب «تاريخ السودان»[27].

يتبين مما تقدم أن علماء وفقهاء شمال إفريقيا أسهموا إسهاما كبيرًاً في تطوير المدرسة المالكية الفقهية في السودان الغربي من خلال كتبهم ومؤلفاتهم، وزياراتهم، وإقاماتهم، وكان علماء الشمال (الإفريقي) يرسلون إلى إخوانهم في الجنوب ما يطلبون من كتب ومؤلفات، ويذهبون إلى الجنوب ويحملون معهم الكتب والمؤلفات، وبخاصة كتب الفقه المالكي.

ويروى عن عالم قدم إلى بلاد السودان الغربي من الشمال (الإفريقي) مع تلاميذه لنشر العلم بين الطلاب الراغبين في التعلم، وكان يحمل معه «مختصر خليل بن إسحاق في الفقه المالكي، وما إن سمع به طلاب العلم حتى التفوا حوله لسماعه ونقله عنه، وهذا الإقبال على سماع مختصر خليل يدل على اهتمامهم بكتب الفقه المالكي ومؤلفاته، وكذلك كان ملوك السودان إذا سافروا للحج يشترون الكتب، وبخاصة كتب الفقه المالكي، وقد اشترى الملك كنكن موس (ملك مالي) في رحلته المشهورة إلى الحج من مصر بعض الكتب في الفقه المالكي، وكان متمسكا بالمذهب المالكي واعترف أمام السلطان الناصر محمد بن قلاوون المملوكي عندما طلب منه أن يقبل الأرض أمامه فقال: « أنا مالكي المذهب ولا أسجد لغير الله»[28].

وقد قام المغاربة بدور الوسيط الذي أوصل الرسالة إلى أهل السودان الغربي ،وقاموا بدور آخر هو رعاية الإسلام في تلك الديار بحكم القرب والجوار، وحماية ظهره والدفاع عن وجوده، والعمل على إرساء جذوره وتثبيت دعائمه، وتصحيح مسيرته باستمرار، ولذلك فإنّ الحضور المغربي وتأثيره القوي كانا متميزين عبر التاريخ عن باقي المؤثرات الأخرى.

الحضور المغربي وتأثيره القوي

فأين يتجلّى هذا الحضور والتأثير؟

يتجلى هذا الحضور والتأثير في مظاهر عديدة نذكر منها أربعة مظاهر؛ لأن المقام لا يسمح بذكرها كلها:

المظهر الأول

يتجلى أول مظهر من مظاهر الحضور الدائم والتأثير المغربي القوي في الطابع المذهبي للإسلام، الذي انتشر في إفريقيا الغربية، وظل قائماً على حاله إلى يوم الناس هذا.

فالإسلام في هذه المنطقة إسلام «سُنيّ على مذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، المشهور بوسطيته واعتداله،… وكان للمرابطين وفقهائهم ودعاتهم من المغاربة دورٌ أساسيٌ في تثبيت هذا المذهب السني … في نفوس الأفارقة ،والعلماء والفقهاء الذين توافدوا على المنطقة من الشمال الإفريقي بعد ذلك وعلى مر العصور كانوا جميعا من أصحاب هذا المذهب»[29]. وكل العلماء الذين برزوا واشتهروا في السودان الغربي كانوا من فقهاء المالكية وعلمائها بلا استثناء.

المظهر الثاني

أما المظهر الثاني من مظاهر الحضور والتأثير، فيتجلى في مناهج التعليم ومصادره ومراجعه وأساتذته، فهي في أغلبها مغربية روحاً وجسداً (قلباً وقالباً).

والمنهج المغربي في التعليم يبرز منذ الدخول إلى الكُتَّاب والبدء في حفظ القرآن الكريم برواية الإمام ورش، إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف والمتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه، إلى حفظ المتون الفقهية واللغوية والأدبية، ثم مرحلة التبحر في مختلف العلوم باستخدام المصادر والمراجع المغربية، والأندلسية في غالب الأحيان، باستثناء بعض المصادر السنية المشرقية المالكية وغيرها، كان المغاربة أنفسهم يعتمدونها ويرجعون إليها «كمختصر»  خليل وشروحه وكتب السيوطي وابن حجر.. وغيرها»[30].

وقد أورد الأستاذ إبراهيم الكتاني رحمه الله في مقدمة تحقيق كتاب «فتح الشكور» للولاتي، قائمة طويلة بأسماء الكتب المغربية، التي كانت تدرس في مراكز التعليم بالسودان الغربي… هذا فضلا عما ورد في حديث طويل له عن الأسانيد المغربية في الروايات والإجازات التكرورية السودانية»…[31].

المظهر الثالث

والجانب الثالث يتجلى في الطرق الصوفية التي انتشرت بإفريقيا الغربية، فكلها طرق مغربية كالسنوسية والزرّوقية والشاذلية والناصرية الدرعية والتّجانية …ولا شك أن تأثير الطرق الصوفية المغربية في هذه المنطقة تأثير قوي جدا ما يزال فاعلا وحاضرا في كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية على اختلافها، ولا شك أيضا في أنها قامت بأدوار وأدت خدمات جليلة بإسهامها الكبير في نشر الدين والثقافة والتعليم من جهة، وبصمود رجالها في وجه الاستعمار في العصر الحديث من جهة أخرى.

المظهر الرابع

ويتجلى هذا المظهر في دور علماء المغرب وفقهائه ودعاته، سواء منهم الذين كان تأثيرهم مباشرا بحضورهم في أرض السودان، أو الحضور إليهم في أرض المغرب، أم غير مباشر بواسطة كتبهم ومؤلفاتهم التي انتشرت واشتهرت في أفريقيا الغربية، وأصبحت تمثل المصادر والمراجع المعول عليها والمتون التي لابد من حفظها واستظهارها والاستشهاد بأقوالها ونصوصها، أما الوافدون من فقهاء المغرب وعلمائه ودعاته، فكانت رحلتهم إلى السودان الغربي مستمرة طيلة مراحل التاريخ الإسلامي دون انقطاع، ونحن وإن كنا لا نجد لائحة بأسمائهم في القرون الأربعة الأولى للهجرة، فإن الدليل على وجودهم قائم، وحضورهم ثابت لا شك فيه، فالإسلام لم يكن ليصل إلى تلك البقاع ويستقر في تلك الأصقاع …دون دعاة وفقهاء وأئمة كان همهم في نشر رسالة التوحيد وثقافة الإسلام ولغة القرآن»…[32].

المبحث الخامس: دور فقهاء السودان الغربي في نقل المدرسة المالكية الفقهية المغربية إلى السودان الغربي

هناك في مقابل الوافدين من المغرب على السواد الغربي، فئة من الأفارقة قدموا إلى المغرب، وذهبوا إليه في رحلات علمية خاصة، فأقاموا به وأخذوا عن أشياخه وعلمائه، وفئة أخرى جاءت في رحلات سفارية أو حجية، فوجدت في إقامتها مناسبة للاحتكاك بعلماء المغرب والاطلاع على مؤلفاتهم وربط الصلة العلمية المباشرة بهم، ولعل صيت الأديب الشاعر أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي (تـ 608 أو 609هـ) أقدم الوافدين الأفارقة المعروفين إلى المغرب…[33].

ومن أعلام السودان الذين رحلوا إلى المغرب أيضا الإمام القاضي كاتب موسى في عهد سلطان مالي- منسا موسى (تـ 80هـ) وقد كان من كبار المشايخ، وتولى إمامة المسجد الكبير بتنبكتو. قال عنه السعدي في تاريخه: «وهو من علماء السودان الذين رحلوا إلى فاس لتعلم العلم في دولة أهل مالي بأمر السلطان العدل الحاج موسى»[34]. وفي هذه الإشارة ما قد يفيد بأنّ هذا السلطان على الأقل كان يرسل بعثات طلابية للتعلم في المغرب، وربما كان يقدم لهم من المعونات المالية وغيرها ما يقوي عزمهم ويشجّعهم على تحمل أعباء الغربة والإقامة في طلب العلم، ولم يكن كاتب موسى أول شخص يبعث إلى المغرب للتبحّر في العلوم في عهد هذا السلطان المعروف بشغفه بالعلم والكتب والثقافة العربية، فمن الطرائف التي حكاها السعدي في تاريخه: أنّ الملك منسا موسى حين رحل للحج رجع ومعه الشيخ عبد الرحمن التميمي ليستعين به على نشر العلم في بلده مالي، ولكنّ هذا الفقيه المشرقي لم يكن له شغوف على علماء السودان وطلبتها، فوجد نفسه مضطرا للرحلة إلى المغرب لزيادة التعلّم وخاصة في فقه المالكية وفروعه.قال السعدي متحدثا عن الشيخ يحي التادلسى (تـ 863هـ) وهو من علماء تنبكتو الكبار: «وروي أن طلبة سنكري إذا جاءوه لأخذ العلم يقول: يأهل سنكري كفاكم سيدي عبد الرحمن التميمي، وهو جاء من أرض الحجاز، صحبة السلطان موسى صاحب مالي حين رجع من الحج ،وسكن تنبكتو وأدركه حافلا بالفقهاء السودانيين، ولما رأى أنهم فاقوا عليه في الفقه ،رحل إلى فاس وتفقّه هناك، ثم رجع إليه فتوطّن فيه»..[35].وإذا كان لنا ما نعلق به على هذه القصة، فهو أن الرحلة إلى المغرب وعواصمه، كانت عند أهل السودان من الأمور التي تكسب صاحبها جاها ومكانة بين العلماء ،وأن طريق الفقه المالكي إنّما يؤتى من المغرب لا من المشرق. والظاهر أنّ الذي دفع التميمي إلى الرحلة للمغرب وحفزه لها هو السلطان موسى، ولاسيما أنه كان بجانبه مستشارٌ أندلسيٌ مغربي ذو كلمة نافذة هو أبو إسحاق إبراهيم الساحلي الذي زار المغرب هو الآخر في سفارة بين سلطان مالي وأبي الحسن المريني[36].

ويقول أحد الباحثين المتخصصين في العلاقات الثقافية المغربية السودانية:

«إنّ ظاهرة الرحلة لطلب العلم بالمغرب، أخذت مع بداية القرن التاسع الهجري تعرف نموا مطّردا ومتزايدا، ويتضح لنا ذلك من خلال بروز عدد من العائلات العلمية السودانية، نخص بالذكر منها عائلتي«أقيت» و« بغبغ» اللّتين لمع نجمهما في بلاد السودان منذ النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، وكان العديد من أعلام هاتين الأسرتين قد دخل المغرب ليأخذ من فقهائه، ومنهم من توفي ودفن بالمغرب»[37].

ومن أشهر علماء السودان الغربي الذين كانت لهم رحلةٌ إلى المغرب في نهاية القرن الثاني عشر الهجري(الثامن عشر الميلادي):

  • الشيخ محمد الأمين الكانمي، الذي أصبح أميرًاً على بلاد برنو في تشاد (الحالية)، وكانت له قبل ذلك رحلة إلى المشرق، ثم عرّج على بلاد المغرب فأقام في فاس مدة سنتين وزار طرابلس والقيروان وتلمسان وغيرها[38].
  • ومن أشهرهم أيضا أحمد بن القاضي أبي بكر الفوتي أصلا، الدّوجفي مولدا ،ثم التنبكتاوي الجناوي، من أهل القرن الثالث عشر الهجري، فقد زار تونس خلال رحلته الحجية، كما زار مدينة فاس وأقام بها أيام المولى سليمان العلوي، وقرأ على عدد من مشاهير علمائها في ذلك الوقت، كمحمد الطيب بن كيران، وإدريس العراقي، وأحمد بن الشيخ التاودي، وأبي عبد الله محمد الزروالي، ومحمد بن عبد السلام الدرعي، وغيرهم.[39]
  • ومنهم في القرن الثالث عشر: الشيخ الحاج عمر بن سيد الفوتي (تـ 1284هـ) الذي كان على الطريقة التجانية، وكانت له رحلة للحج وطلب العلم، فزار فاس وتلمسان والقيروان وبرقة والقاهرة، وفيها وفي غيرها من البلاد التي مر بها وأقام، جلس لتلقي العلم والأخذ عن علمائها[40].
  • ويضاف هؤلاء الذين ذكرنا من الأعلام الوافدين على المغرب، إلى ما أورده إبراهيم الكتاني، رحمه الله، من أسماء أخرى كثيرة، في مقدمة تحقيق: «فتح الشكور»، وإلى أسماء غيرها واردةٍ في مصادر  ومراجع متعددة، فلتراجع في مكانها.

الخاتمة

توصلت من خلال هذا البحث إلى النتائج الآتية:

  1. أنّ المذهب المالكي هو المذهب الوحيد السائد في السودان الغربي.
  2. أن للعلماء والفقهاء المغاربة أثرًاً كبيرًاً في نشر الفقه والثقافة الإسلامية واللغة العربية بالمنطقة.
  3. أن الإسلام لم يكن ليستقر في المنطقة التي تحدثنا عنها لولا جهود المغاربة من أبناء الشمال الإفريقي عموما والمغرب الأقصى على وجه الخصوص.
  4. أن الناس وإن اختلفوا في الطرق التي سلكها الإسلام إلى إفريقيا عامة ،والجزء الغربي منها خاصة، بين من يقول إنّه جاء من المشرق مباشرة، وبين من يقول إنه عن طريق المغرب، إلا أنهم لم يختلفوا أن المذهب المالكي وفد إلى المنطقة عن طريق واحد فقط هو طريق المغرب والمغاربة.

وفقنا الله تبارك وتعالى جميعا إلى ما فيه صلاح وحماية هذا الدين، وصلاح وحماية المؤمنين به.

الهوامش

[1] سورة فصلت، الآية: 42.

[2] سورة التوبة، الآية: 123.

[3] الحديث أخرجه مسلم في باب النهي عن المسألة، ج3، ص 94.

[4] ينظر: المستشار علي منصور، المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي مقارنة بين الشريعة والقانون، ص139وما بعدها، ط1.عام 1386هـ/1966م القاهرة.

[5] يراجع: الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. وأبو زهرة، تاريخ المذاهب الفقهية ،11/221، دار الفكر العربي، القاهرة. ومحمد بن مخلوف، شجرة النور الزكية.

[6] الفكر السامي، للحجوي، مرجع سابق.

[7] ينظر: موطأ الإمام مالك.

[8] يراجع: الأستاذ عمر الجيدي، مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص9-10-54-55ن ط1 عام 1993م، مطبعة المعارف الجديدة. وهناك أبيات جميلة لأحد علماء السودان الغربي وهو الشيخ صالح الفلاّني في الأئمة الأربعة

[9] القاضي عياض: ترتيب المدارك، ج1،ص 65.

[10] ينظر: الأستاذ عمر الجيدي، مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص41-42.

[11] ابن خلدون، المقدمة، ص 356، ط1، عام 1993م، دار الكتب العلمية.

[12] القاضي عياض، ترتيب المدارك ،1/22 تحقيق وتعليق: محمد بن تداويت الطنجي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1995م الرباط.

[13] نفس المصدر:1/22.

[14]الدكتور عبد العلي الودغيري، دور المغرب في نشر الإسلام ولغته بالغرب الإفريقي، التاريخ العربي، مجلة علمية محكمة تعني بالتاريخ العربي والفكر الإسلامي، العدد الثالث والخمسون، صيف: 1431ه012-م، ص49-50.

[15] المرجع نفسه، ص50. بتصرف

[16] المرجع نفسه.

[17] ينظر: عصمت عبد اللطيف دندش، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب أفريقيا، ص112، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1988م.

[18] أبو عبيد البكري، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص175، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، بدون تاريخ.

[19] يراجع في ذلك: الدكتور عبد العلي الودغيري، دور المغرب في نشر الإسلام ولغته بالغرب الإفريقي، ص47، التاريخ العربي، مجلة علمية محكمة تعني بالتاريخ العربي والفكر الإسلامي، العدد الثالث والخمسون، صيف: 1431هـ 2010-م، ص49-5

[20] الديباج المذهب ،6/1.

[21] صبح الأعشى ،5/94.

[22] يراجع: «جهود علماء المالكية في خدمة السنة: الشيخ عثمان ابن فودي نموذجا»، للدكتور علي يعقوب، بحث تقدم به إلى الملتقى الدولي الثاني عشر للمذهب المالكي: «الاتجاه الحديثي في المذهب المالكي»، الذي نظمته وزارة الشؤون الدينية والأوقاف بالجزائر ،23- 24- رجب 1437ه الموافق: 2- 3- ماي- 2016م.

[23] نفس المرجع.

[24] علي يعقوب، مرجع سابق.

[25] ينظر ابن مخلوف، شجرة النور الزكية، ص 274- 278- 279.

[26] يراجع: «جهود علماء المالكية في خدمة السنة»، مرجع سابق، للدكتور: علي يعقوب.

[27] المرجع نفسه.

[28] المقريزي، الذهب المسبوق، ص 112.

[29] ينظر في ذلك ، الدكتور: عبد العلي الودغيري، ص 52، مرجع سابق.

[30] نفس المرجع بتصرف.

[31] المرجع نفسه، ص54.

[32] نفس المرجع، ص56.

[33] نفس المرجع ،

[34] تاريخ السودان، ص 57، وراجع الأستاذ الدكتور عبد العلي الود غيري، مرجع سابق.

[35] نفس المرجع، ص 57.

[36] الأستاذ الدكتور عبد العلي الود غيري، مرجع السابق، ص61.

[37] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني، ص223.

[38] ينظر عبد الرحمن الماضي، الدعوة الإسلامية في أفريقيا، وراجع الأستاذ الدكتور عبد العلي الود غيري، مرجع سابق، ص63.

[39] تراجع رسالته المسماة: شكاية الدين إلى رعاية الموكلين به، ضمن كتاب: مصلح فولاتي في بلاد المغرب، تحقيق:

محمد المنصور وفاطمة الحراق، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، الرباط ،2000م.

[40] ينظر المرجع السابق، ص63.

كلمات مفتاحية :