الظاهرة السلفية في علاقتها بالأخلاق الإسلامية والقيم الإنسانية

الظاهرة السلفية في علاقتها بالأخلاق الإسلامية والقيم الإنسانية

الأستاذة سعاد رحائم عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وعضو المجلس العلمي المحلي بالجديدة
الأستاذة سعاد رحائم عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، وعضو المجلس العلمي المحلي بالجديدة

ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 28 – 29 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 7 – 8 نونبر 2018م بمدينة مراكش.

مدخل

إنَّ ممَّا بيَّنه الله تعالى في كتابه العزيز، وأرْشد إليه النَّبيّ الكريم ﷺ في سُنته النبوية الشريفة، وفي سيرته العطرة، وتواتر عليه نهج الصَّحابة الكرام والتَّابعين، ومن تبعهم بإحسان من الأئمة وأهل العلم: التمسك بالفهْم الصَّحيح لمقاصد الوحي، وضبط قواعده وأُسُسه.

ولعل ما أرساه السَّلف الصَّالح من مدركات الفهْم والتأويل، بما يمكَّن من الفهم الصحيح للإسلام في العقائد والعبادات، والمعاملات والسلوك، وغير ذلك من الأحكام الشَّرعيَّة، فعلى إثره يتبيَّن الحقُّ من الباطل، والسنَّةُ من البدعة.

لذلك فقد سمى اللهُ سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الرعيلَ الأوَّلَ من السلف الصالح بـ «المسلمين» فهي تسميةَ لوصف مطابق لِما كانوا عليه من التزامهم بالإسلام المصفَّى عقيدةً وشريعةً.

تمييزًا لهم عمَّا سواهم مما كان في زمانهم من أهل الكفر والضلال. ولما توسع الإسلام وانتشر، ودخل الناس في دين الله أفواجا. ظهرت بعض مُحدثات الأمور في الدين، وغيرها ممَّا ليس منه، فسلك أصحابها طُرُقَ الزيغ والضلال، فتفرَّقت بهم عن سبيل الحقِّ وصراطه المستقيم، فاقتضى الحالُ ودَعَتِ الحاجةُ إَلى تسميةٍَ مُطابقةٍ لِماَ وَصَفَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الفرقةَ الناجيةَ بقوله: «مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي»، ومتميِّزةٍ عن سُبُل أهل الأهواء والبدع ليستبين أهلُ الهدى من أهل الضلال.

فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكمُ ٱلمُسلِمِينَ مِن قَبلُ [الحج: 78]، إنما هو الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشرك والبدع الضالة، صافيا من الشوائب والمنكرات عقيدة وسلوكا.

لذلك ولمَّا سُئل الإمام مالكٌ رحمه الله : مَن أهلُ السُّنَّة؟ قال: «أهل السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قَدَرِيٌّ ولا رافضيٌّ»[1].

ومراده رحمه الله أنَّ أهل السُّنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه، وبَقُوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعةٍ أوفئة. ومن هنا يُعْلَم أنَّ سبب التسمية «بالسلف الصالح« أو السلفية، إنما نشأ بعد الفتنة عند بداية ظهور الفِرَق الدينية ليتميَّز أهلُ الحقِّ من أهل الباطل والضلال.

والتاريخ سِجلُ الأمم ومرآتها قال تعالى: ﴿إِناَّ نحْنُ نحْييِ المَوْتىَٰ وَنكَتُبُ مَا قدَّمُوا وَآثاَرَهُمْ وَكلُ شْيءٍ احْصَيناهُ فِي ِإِمَامٍ مُّبيِنٍ [يس: 12]. فهو الوثيقة الشاهدة على أعمال الناس خيرها وشرها، نجاحها ورسوبها، ومن خلاله يرسم الناس المستقبل. فكل أمة خلفت أثرا يبقى شاهدا على تاريخها، وسنن ماضيها. وقد عُني الإسلام بالتاريخ عناية بالغة، فدعا القرآن الكريم في العديد من الآيات القرآنية إلى تدبر أحوال الأمم السابقة. بل حدثنا في أخرى عن قصص الأمم التي سلفت، استجلاء لسننها وحركتها في التاريخ البشري. وما ذكر ذلك إلا اعتبارا وتذكرا، واعتمادا لمدلولاتها فيحاضرنا ومستقبلنا. من أجل بناء الإنسان المسلم على منظور سلفي صالح ونبذ نقيضه.

ويظهر ذلك جليا من خلال قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِے اِ۬لَارْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ اُ۬لْمُكَذِّبِينَۖ  هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُديٗ وَمَوْعِظَةٞ لِّلْمُتَّقِينَۖ  وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ اُ۬لَاعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّومِنِينَۖ  إِنْ يَّمْسَسْكُمْ قَرْحٞ فَقَدْ مَسَّ اَ۬لْقَوْمَ قَرْحٞ مِّثْلُهُۥۖ وَتِلْكَ اَ۬لَايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَۖ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ اُ۬لظَّٰلِمِينَۖ﴾ [آل عمران: 137]. في إظهارُ أهمية الاعتبار بسنن الأقوام الماضين مُن الفئة المصلحة، ثم من جهة الفئة المفسدة ومآلات كل واحدة منهما.

ولذلك نجد أن العلماء دونوا الكثير من الأحداث وتواريخ الأمم بحضاراتها وإخفاقاتها، هذا مع دخول بعض النزعات الفئوية في بعض المدونات. لذلك نرى أن دراسة تاريخ المسلمين بحاجة إلى منهج علمي رصين، ودراسة موضوعية تستند على المنهج الإسلامي الذي رسمه علماء الحديث في مجال علم مصطلح الحديث في بنية ميزان الجرح والتعديل.

لأن الإفادة من هذا التاريخ واجبة، وتمحيص الأخبار الصحيحة من غيرها أوجب. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. «فالوقوف عند المادة التاريخية المتراكمة في بطون المدونات المطولة، ونقدها نقدا خارجيا وداخليا، من شأنه أن يفرز الحقيقة من الوهم – في تاريخ المسلمين- ويفصل بين الثابت الذي لا يرقى إليه شك أو ريب، والمنحول المختلق الذي كان وراءه دوافع شتى، كالتعصب، والمحاباة، والاستغراق في نزعات مذهبية أو طائفية، أو عنصرية، كانت لا ترى وجودها إلا في نفي غيرها وإقصائه»[2].

ولما كان التاريخ مرحلة مهمة من حياة الإنسان، يسعى إلى بناء دورة إنسان جديد متمسك بثوابته الدينية والوطنية، وبالقيم الإنسانية الفاضلة النبيلة، ويسعى أيضا إلى تكوين مجتمع صالح متماسك، ثابت الكيان نحو تمثل المثل العليا. تعين على العلماء والعالمات العناية بالناشئة من خلال تقديم وصلات تاريخية ممحصة تروم تكوين أجيال وناشئة تستفيد من سلفية تاريخها الصالح، في تكوين الشخصية المتوازنة التي تعيش عصرها وتستحضر ماضيها التليد، الذي تمتد جذوره إلى آثار تربية نبوية كريمة، أنشأت مجتمعا من خيار المؤمنين الصادقين من السلف الصالح.

وحتى نتلمس موضوع السلفية في جانبها المقصود من الشرع الحكيم تنزيلا عمليا يخدم مصالح العباد في الحال والمآل، تأتي هذه المداخلة العلمية في موضوع « الظاهرة السلفية: في علاقتها بالأخلاق الإسلامية والقيم الإنسانية» لتؤكد المنظور المقاصدي في الدين عقيدة وسلوكا، من خلال الوقوف على العديد من العناصر المهمة، من أجل إبراز بعض المرتكزات الأساسية في بناء المجتمعات بناء سليما، يقوم على مبدأ العدالة الاجتماعية، والحرية المتوازنة، والحوار البناء والتبادل الثقافي والفكري، والانتماء للوطن في مجال الهوية العقدية والثقافية المحلية. ثم إنتاج المعرفة الإنسانية التي تنشد الحفاظ على الموروث الإسلامي بمقاصده المرعية لشؤون العباد، وكذلك السير نحو بناء حاضر ومستقبل إنساني ينشد التسامح والسلام والأمن العالمي.

لأن عالمنا اليوم يحتاج إلى جهد كبير من أجل الالتزام بالعدل والقسط في كل الأمور. والدين هو السبيل الأكبر لإيجاد الحلول الناجعة نحو تحقيق هذا المنشود. والعدل والقسط هما مبتغى الرسالات السماوية، ومن أجله أرسل الأنبياء والرسل قال تعالى: ﴿لَقَدَ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَ۬لنَّاسُ بِالْقِسْطِۖ﴾ [الحديد: 25].

وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنََٔانُ قَوْمٍ عَلَيٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْۖ اُ۪عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْو۪يٰۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ [المائدة: 8].

وعليه فقد تميزت خصائص منهج السَّلف الصالح بمجموعة من الصفات نلخصها في الآتي:

  • الثَّبات على الحقّ في مسائل الاعتِقاد.
  • ملازمة الفطرة السليمة والتوازن الفكري.
  • التوسُّط والاعتدال واليسر في الدين.
  • تبيين مخاطر البدع الضالة وأوصافها ثم التَّحذير منها.
  • سن مبدأ الحوار الهادف وتجنب الجدَل المذْموم في الدّين.
  • نبذ الجمود الفِكْري والتعصُّب المذهبي.
  • الوضوح والبيان والسَّلامة من التناقُض والاضطِراب في تنزيل الأحكام الشرعية.

وإسهاما مني في إبراز معالم المنهج الإسلامي الصحيح في التأسي والاقتداء بالسلف الصالح قسمت الموضوع إلى مبحثين رئيسين:

المبحث الأول: الظاهرة السلفية: في علاقتها بالأخلاق الإسلامية، وجعلته في العناصر الآتية:

  • العقيدة الصحيحة وسمو أخلاق منهج السلف الصالح.
  • مكارم الأخلاق غاية إكمال الدين.
  • من أصول الأخلاق النبوية.

المبحث الثاني: الظاهرة السلفية: في علاقتها بالقيم الإنسانية، وجعلته في العناصر الآتية:

  • السلفية الصالحة ودورتها الحضارية في نشر القيم الإنسانية
  • عالمية الخيرية في أمة السلف الصالح
  • الوحدة والتنوع والشمولية في سلفية القيم الإنسانية
  • شهادات إنسانية على كونية السلفية الصالحة

المبحث الأول: الظاهرة السلفية: في علاقتها بالأخلاق الإسلامية

  1. 1. العقيدة الصحيحة وسمو أخلاق منهج السلف الصالح

إن المنهج النبويَّ في الدعوة إلى الله تعالى كان مؤسَّسًا على توحيد الله عزَّ وجلَّ، ومُحارَبةِ مَظاهِرِ الشرك، وأشكالِ الخُرافةِ، وأنماطِ البِدَعِ؛ سعيا لتمكينِ عقيدة الإسلام مِنَ الانتشار على نحوِ ما فَهِمَه السلفُ الصالح؛ وانتهجوها في إخلاص العبودية لله عز وجل.

«فكان مناط استحقاقهم لهذا اللقب التزامهم بمنهج المعرفة القائم على التنسيق الدقيق بين حكم العقل ودلالة النقل، ثم التزامهم بقواعد اللغة العربية المعتمدة في تفسير النصوص، ولقد كان لهم في فهم رسول الله ﷺ واجتهادات الصحابة في تفسيره وتأويله، خير مظهر تطبيقي لذلك كله… فكل من التزم بهذا المنهج فقد دخل في دائرة هذه المرحلة التي عنون لها بأهل السنة والجماعة، وإن عاش في القرن الأخير من عمر الدنيا. وكل من لم يلتزم به فقد خرج عن دائرة تلك الوحدة الجامعة، وإن عاش في أول قرن من عُمر الإسلام»[3].

فكانت العقيدة في منهج من سار من الأئمة والعلماء والدعاة على هدي النبي ﷺ وصحابته الكرام مِنْ أَوْلى الأولويات وأَسْمَى المَهَمَّات تعليمًا وتصحيحًا وترسيخًا.

وهذه بعض معالم منهج النبي الكريم في النصح للأمة في أمور دينهم يتجلى بيانه في هديه صلَّى الله عليه وسلَّم حين قوله: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟»[4]. وقولِه ﷺ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ؟»[5]. وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ، وَلَكِنْ يَقُولُ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا»[6]؛ فهو منهج أَبْعَدُ عن التفرق والتشرذم في لحمة المجتمع الإسلامي. ويبتغى منه أيضا عدم النفور من تقديم النصح في التقويم والتصويب، مع مراعاة حفظ الكرامة الإنسانية والأنَفَة والاعتزازِ بالذات. وكلها كانت مقاصد مرعية في الخطاب النبوي ومن سار على هديه من السلف الصالح.

ولما اتسعت رقعة الأمصار وظهرت السجالات الفكرية والعقدية في العديد من الأقطار. نهج فريق من جيل الصحابة والتابعين منهجا جديدا يعمل بالرأي، ويُساجل غيرها بما تقتضيه ضرورة الدفاع عن العقيدة الصحيحة. فقد خاض الحسن البصري – وهو من جلة التابعين-، في مسائل العقيدة يجادل عنها، ويرد شبه أصحاب الزيغ، وقد كانت دروسه حافلة بمناقشة بدع المبتدعة، كما كانت رسائله مليئة بمسائل الكلام ومشكلات العقيدة. فكان يذكر بين الحين والآخر العوامل التي تضطره وأمثاله من أهل العلم إلى الخوض فيها والجدل حولها. يقول في رسالة أرسلها إلى عبد الملك بن مروان، أ وكما قيل إلى الحجاج، يتحدث فيها عن القضاء والقدر: «لم يكن أحد من السلف يذكر ذلك ولا يجادل فيه، لأنهم كانوا على أمر واحد. وإنما أحدثنا الكلام فيه، لما أحدث الناس من النُكرة له. فلما أحدث المحدثون في دينهم ما أحدثوه، أحدث الله للمتمسكين بكتابه ما يبطلون به المحدثات ويحذرون به من المهلكات»[7].

إن تطور المنهج العقدي عند السلف الصالح من النص إلى العقل اقتضته ظروف الزيغ العقدي عند أهل الأهواء في مسائل الاعتقاد، كمسألة خلق القرآن، والقضاء والقدر، وخلق أفعال الإنسان، وقضية النشأة الثانية. فكان لزاما الأخذ بمجادلة المبطلين التائهين في هذه المسائل بالمقاييس العقلية، والحجج المنطقية، وبالمنهج الحجاجي الذي يفهمه أهل الزيغ والضلال.

  1. 2. مكارم الأخلاق غاية إكمال الدين

إن غاية الإسلام الارتقاء بالإنسان إلى مكارم الأخلاق، حتى جَعَلَ اللهُ تعالى الأخلاقَ

الفاضلة سبيلا للمسارعة إلى حسن الجزاء في الآخرة كما جا ء الإخبار به في قوله تعالى:﴿ سَارِعُوٓاْ إِلَيٰ مَغْفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا اَ۬لسَّمَٰوَٰتُ وَالَارْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) اَ۬لذِينَ يُنفِقُونَ فِے اِ۬لسَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَٰظِمِينَ اَ۬لْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ اِ۬لنَّاسِۖ وَاللَّهُ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ﴾ [آل عمران: 133-134]. بل جاء الأمر به في أقصى غايات الحفاظ على اُللحمة الإنسانية في جانب المُعامَلات بالإيجاب، لما قال تعالى:﴿وَلَا تَسْتَوِے اِ۬لْحَسَنَةُ وَلَا اَ۬لسَّيِّئَةُۖ اُ۪دْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِے بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞۖ﴾ [فُصِّلت:34].

والخُلق الرفيع هو مسلك الأنبياء والرسل وبه نُعث صاحب الكمالات الخُلقية محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، حتى أثنى عليه مولاه بوصفه به في قوله تعالى: ﴿وَإِنكَّ لعَلَٰى خُلقٍ عَظِيمٖ [القلم: 4] بل غاية بعثه صلَّى الله عليه وسلَّم إكمالِ هذه الأخلاقِ وإتمامها كما جاء بيانه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»[8].

وبيَّن صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّ: «البِرَّ حَُسْنُ الخُلُقِ»[9].وقالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وََأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أحَاسِنَكُمْ أخْلَاقًا»[10]، وقال: «أكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أحْسَنُهُمْ خُلُقًا»[11].

لذلك جاءت الدعوة من الله تعالى باتباع هَدْيِه صلَّى الله عليه وسلَّم ومنهجِه وطريقته، و اقتفاء أثَرِه وتَرسُّمِ خُطاهُ، قال تعالى: ﴿لقَد كاَنَ لكُم فِي رَسُولِ ٱللِه أسُوَةٌ حَسَنَة [الأحزاب: 21]، بل ليس للمؤمنين في ذلك وُسْعٌ ولا خِيَرَةٌ فيما قضى الله ورسوله فيه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كِاَنَ لِمُومِنٖ وَلَا مُومِنَةٍ إِذاَ قَضَى ٱلله وَرَسُوله أمَرًا أنَ تكُونَ لهُمُ ٱلخِيَرة مِن أمَرهِم [الأحزاب: 36]؛ وقد جَعَله اللهُ تعاُلى هاديا وُسراجا منيرا قاِل تعالى:﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّبِےٓءُ اِ۪نَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداٗ وَمُبَشِّراٗ وَنَذِيراٗ وَدَاعِياً اِلَي اَ۬للَّهِ بِإِذْنِهِۦ وَسِرَاجاٗ مُّنِيراٗۖ ﴾ [الُأحزاب:46]،

وقال تعالى: ﴿قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَ۬للَّهَ فَاتَّبِعُونِے يُحْبِبْكُمُ اُ۬للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ [آل عمران:31].

  1. 3. من أصول الأخلاق النبوية

إن سائر تجليات نعوت الجمال والجلال والكمال في النبي الكريم ﷺ، جمعتها مكارم أخلاق سامية مِنَ الإخلاص والأمانة والبِرِّ والحكمة والحِلْم والرحمة والرِّفْق والتواضع والصدق والإيثار والوفاء وغيرها. فكانت هديا نبويا كامل الأوصاف في سلوك نبي الرحمة والهدى خاتم الأنبياء والمرسلين محمدا ﷺ.

ومِنَ أجل الأخلاق التي ينبغي على المسلم التحلِّي بها: اقتفاء سلوك النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحياء، فهو خلق رفيع يُجنب الإنسان الأمراض اَلنفسية المُفْسِدة، و الأحقاد والضغائن المُهْلِكة؛ فقَدْ كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم «أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»[12].

التأسي والانضباطُ بخُلُق الرحمة الذي وَصَفه اللهُ تعالى بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اَ۬للَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ اَ۬لْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِے اِ۬لَامْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اَ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يُحِبُّ اُ۬لْمُتَوَكِّلِينَۖ ﴾ [آل عمران: 159] وفي الحديث النبوي الشريف: «لمَْ يَكُنِ النَبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلَاقًا»[13].

التمسك بإيثار الحِلْم وتركُ الغضبِ المذمومِ الذي يكون حميَّةً أو انتصارًا للنفس، وقد وَصَفَ اللهُ تعالى الكاظمين الغيظَ بأَحْسَنِ وصفٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ اَ۬لذِينَ يُنفِقُونَ فِے اِ۬لسَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَٰظِمِينَ اَ۬لْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ اِ۬لنَّاسِۖ وَاللَّهُ يُحِبُّ اُ۬لْمُحْسِنِينَۖ  [آل عمران: 134]؛ وقال عليه الصلاةُ والسلام: «ليْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[14].

الدفع بالتي هي أحسن، فقد كان ﷺ يقابل إساءة من أساء إليه بالإحسان، وجهله بالحلم، وظلمه بالعفو، وقطيعته بالصلة: امتثالا لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِے اِ۬لْحَسَنَةُ وَلَا اَ۬لسَّيِّئَةُۖ اُ۪دْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِے بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞۖ وَمَا يُلَقّ۪يٰهَآ إِلَّا اَ۬لذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّ۪يٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٖۖ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ اَ۬لشَّيْطَٰنِ نَزْغٞ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْعَلِيمُۖ﴾ [سورة فصلت: 34-35].

الدعوة إلى لزوم الإمام وجماعة المسلمين والاقتداء بهديهم الصالح: فعن حذيفة ابن اليمان قال :« كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر، قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير. قال نعم وفيه دخن، قلت ما دخنه، قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر، قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»[15].

المعاملة بالرِّفْقُ واللين ومجانبةُ العنف في الخطاب والحجاج، فهو مسلك فريد في نشر المحبة والسلام والأمن والتسامح بين الناس؛ فقَدْ قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأمْرِ كُلِّهِ»[16]، وقال أيضًا : «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي سَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ سَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، وفي الحديث: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»[17].

فالرِّفقُ في المعاملة والخطاب مِنْ أَبْرَزِ خصائصِ الدعوةِ إلى الله؛ قال تعالى: ﴿ اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ ﴾ [النحل: 125].وكان هديه ﷺ أيضا اليسر في اتخاذ القرارات كما جاَء في حديثَِ عاَئشة رضي الله عنها قالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بَيْنَ أمْرَيْنِ إِلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَاَنَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِنَفْسِهِ إِلَّا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا»[18].

هذا، ومَنْ تَحلَّى بمثلِ هذه الأخلاقِ السامية التي تُمثِّلُ عمادَ الدعوةِ في جانِبِها العمليِّ المفسِّرِ للجانب البيانيِّ؛ أَصْلَحَ اللهُ به الناسَ وعَمَّ خيرُه وانحسر شرُّه.

ولا يخفى أنَّ الدعوة السلفية الراشدة لا تكون في أعلى مقاماتها إلَّا إذا تَوافَقَتْ مع الهدي النبويِّ الشريف، فقَدْ قال تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾ [يوسف:107].

المبحث الثاني: الظاهرة السلفية: في علاقتها بالقيم الإنسانية

  1. 1. السلفية الصالحة ودورتها الحضارية في نشر القيم الإنسانية

إن الفطرة السليمة تقود الإنسان نحو التأمل والتدبر في ملكوت الكون، فتصنع منه حسا يقظا نحو النظر السليم في مدبر الكون وصانعه، وهو الذي أبدع كل شيء خلقه فجعله في أحسن تقويم. فالفطرة إذا من الدين، وهي التي أيقظت حس الحكماء وأولي الألباب. بل حافظت على عقيدة الروح في البدايات قبل مجيء الإسلام. فلما جاء الإسلام «أحدث تطورا جذريا عميقا في حياة عرب شبه الجزيرة العربية أولا، وفي كثير من الأمم المسلمة منذ عصورها الأولى ثانيا. فهو إلى جانب العطاء الإلهي الخالد جسد بداية الدورة الثقافية الهائلة التي اتخذت مجراها حتى سادت العالم بأسره. ذلك أن مجموعة العشائر والقبائل التي كانت تدأب في الدفاع عن موطنها، تجاوزت بالإسلام هذا الانتماء والالتزام إلى التزام أسمى مجسد في مثل عليا وقيم سامية، وبذلك أصبح للعرب دورة ثقافية، تطورت فيما بعد إلى دورة حضارية سائدة ثابتة ذات إشعاع ثقافي واسع الأضواء، بعد أن تجاوزت معقلها الأساسي، وتبنتها شعوب أخرى خارج حدود أرض العرب.

«ويقينا فإن مفهوم الثقافة-المتسامحة- إذا ما اتسع ليصبح مستأنسا بخدمة المثل العليا والقيم الخالدة والعقيدة السامية. في هذا الحال، كما هو الحال بالنسبة إلى الإسلام يغدو دورة حضارية ذات انتماء مزدوج، انتماء روحي وانتماء مادي»[19].

ومن هنا يبدو واضحا أن بداية النور الإسلامي الخالد، الذي حمل مشعل حضارته السلف الصالح صار سلفية عالمية، تسامت بالإنسان ولم تنحدر به، وذلك بفعل دورته الخالدة والممتدة زمانا ومكانا.

وبهذا الاعتبار فالإسلام بسلفيته الصالحة، حافظ على وجود المسلم اسما وصفة إلى القرن الواحد والعشرين ﴿هُوَ سَماكمُ المُسلِمينَ [الحج: 78] بل سيخلد بقاؤه بقاء الدنيا. بالرغم مما طرأ على الأمة الإسلامية منذ تاريخها الأول من أزمات ونكبات وحروب أساسها الفكر والمعتقد.

ولضمان استمرار هذه السلفية وتفاعلها مع محيطها القطري والدولي، فلابد من إعداد برنامج تربوي رائد يضمن للناشئة هوية الانتماء لثوابت الوطن والعقيدة، وهذا لن يتم بشكل صحيح إلا إذا ما تم التمكن من وضع برنامج متكامل تشتغل عليه المؤسسات التربوية والدينية والأسرية والإعلامية في سائر البلدان الإسلامية، وخاصة في إفريقيا بوابة التسامح الديني.

ويتطلب ذلك وضع تصورات واضحة لحياة الناس دينهم ودنياهم، تعتمد رؤية منهجية تجعل المسلم يعيش بإسلامه وسلفيته داخل عصره، وفي محيطه الدولي بكل تمثلاته.

  1. 2. عالمية الخيرية في أمة السلف الصالح

إن عقيدة الإسلام هي السبيل إلى سبل السلام، ليس لها حدود في الزمان والمكان. قال تعالى ﴿وَمَا أرْسَلنَاكَ ِإِلاَّ رَحْمَةً لْلِّعَالمِينَ [الأنبياء: 107]. فعلاقة الرسالة المحمدية بالإنسان والكون هي علاقة تأسست على مر الدهور والأزمان، على إنتاج الكمالات الروحية والفعلية على وجه الأرض إعلاء لشأن الإنسان والسمو ببشريته، فسخر له الخالق المدبر الكون لخدمته وخدمة البقاء النافع في الأرض، وتذويب الزبد جفاء.

فلولا هذه الروح المحمدية الزكية لسقطت الموجودات، وهلكت الكائنات، فهو النور الخالد الذي توارثته الأصلاب الطاهرة، والأرومات النقية. فهو المصطفى الخاتم لكل الرسالات، والمبعوث رحمة للعالمين. هذا هو قبس نور السلفية الصالحة الممتدة لكل إنسان. وفي هذا السياق يقول النورسي: «انظر لأي مقصد وغاية يتضرع عما هو يدعو لمقصد، لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان بل العالم، بل كل المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى، وبمطلوبه تترقى الموجودات إلى مقامات كمالاتها». فبرسالة محمد ﷺ تحولت الحياة كلها -الكون والإنسان- إلى لحظة صلاة كونية تتعالى عن الزمن، فيحضرها كل العباد من آدم عليه السلام إلى آخر الزمن. ويصطف فيها من يعبد الله اختيارا وهو الإنسان ومن يعبده اضطرار وهو الكائنات»[20].

فرسالة الإسلام في سلفيتها السنية، هي رسالة عالمية، جاءت بالخير لكل الناس، تأمر المسلم بمكارم الأخلاق وبالتسامح والإخاء، والتعاون على أساس أن البشرية تشكل وحدة إنسانية متكاملة، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ اُ۪تَّقُواْ رَبَّكُمُ اُ۬لذِے خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاٗ كَثِيراٗ وَنِسَآءٗۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ اَ۬لذِے تَسَّآءَلُونَ بِهِۦ وَالَارْحَامَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباٗۖ [النساء: 1].

لأجل ذلك اخترقت الرسالة المحمدية الحدود الزمانية والمكانية، عبر مشارق الأرض ومغاربها، واحتوت كل اللغات فأسلم العجم والعرب. بل شكلت سياج أمن وأمان لأصحاب النفوس الطاهرة من بني الإنسان، كل ذلك لأنه دين العدل المطلق والتسامح المثالي.

فهي رسالة تحث على تعميق التساكن والتعايش والتعارف بما يفضي إلى إسعاد البشرية تصلح لكل زمان ومكان، وتنصهر مع كل التيارات الفكرية الإنسانية. وتساير عصر التكنولوجيا الحديثة للتواصل الحضاري في المشترك الإنساني النافع، وهو التوجيه الذي ذكره الله عز وجل في محكم تنزيله حين أرشد تعالى الناس إلى التعارف والتواصل قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ [الحجرات: 13].

والتعارف المشار إليه في الآية الكريمة بدأ بالشعوب ومعناه بمصطلح عصورنا الدول والمؤسسات، ثم بالقبيلة وهي أجزاء الشعوب من المجتمع الإنساني. وقد يكون فيها التواصل والتعارف بالأفراد أو بالجماعات.

والدين الإسلامي هو آية الكون كله، والإنسان هو محوره، يحمل في مقاصده آيات الوحي وآيات الوجود، ويقوي دعائم المجتمع ويجعله الأصل، بينما الأفراد هم مكونات هذا المجتمع، ومنهم تتشكل لحمة الكيان الإنساني.

  1. 3. الوحدة والتنوع والشمولية في سلفية القيم الإنسانية

من خصائص السلفية السنية الوحدة في العقيدة والمثل والقيم، حتى صارت خصيصة عالمية يعرف بها من اقتفى أثر السلف الصالح على مر العصور والدهور. لأنها انطبعت بخطى الحبيب المصطفى ﷺ. فصارت لها وصفا قارا تتميز به عن سائر المعتقدات والأديان والطوائف الفكرية المعادية أو المخالفة.

فقيام السياسة المرنة لعقيدة الإسلام استطاعت عند بناء الدولة الإسلامية أن تحافظ على الوحدة وأن تستوعب التنوع في وقت واحد، دون أن تغرس في نفوس المسلمين أسلوب التفكك والتشرذم في المجتمع الواحد. ذلك لأنها عقيدة كونية إنسانية إسلامية في آن واحد: ﴿وَمَا أرْسَلنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّْلِعَالمِينَ [الأنبياء:107].

بل إن الفكر السلفي الصالح نهج التوجيه الرباني في عدم فرض سلطة التدين أو الإيمان على الأقليات الدينية في التاريخ الإسلامي، أو إكراه أحد على الدين. ولعل قوانين هذه الوحدة والتنوع كان بارزا في مجتمع المدينة المنورة عند بناء الدولة الإسلامية بعد الهجرة النبوية.

فشكلت بذلك وثيقة المدينة أو ما عرف بصحيفة المدينة، أول دستور مدني متكامل في التاريخ الإسلامي أرسى قواعد المواطنة الإنسانية، وثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه، ونظم العلاقات بينهم على أساس التسامح والتعايش والسلم.

فدخل المسلمون في ميثاق العهد الإنساني الجديد مع القبائل العربية واليهودية، وبقية الطوائف الأخرى فكانت «وثيقة المدينة» هي القانون الرسمي الذي ينظم العلاقات بين مكونات المجتمع الجديد في وحدته وتنوعه في نفس الآن، والتزموا جميعاً بموجبها على إقامة العدل، والحفاظ على الأمن وحماية الدولة الجديدة من كل أشكال التصدع الاجتماعي والفكري والسياسي والعمراني.

ومن أهم ما نصت عليه الوثيقة في البند (25): مبدأ حرية الاعتقاد وجاءَ فيه: «وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوَفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأهْلَ بَيْتِهِ» وهذا بيان واضح لضمان الحريات الأساسية للأفراد.

كما ساهمت الوثيقة في توطيد الصلات والعلاقات الأخوية، وتعزيز الروابط المجتمعية بين المهاجرين والأنصار، وقلّصت التفاوت الاجتماعي والثقافي والنفسي والمعيشي الذي كان بينهم، كما كان لها الفضل الكبير في تذويب العصبيّات القبلية والنزاعات الجاهليّة، وخففت حالة العداء والحروب بين الطوائف التي كانت تسكن المدينة.

وإن التطورات والتغيرات السريعة التي يمر بها العالم اليوم في ظل ظاهرة العولمة، تتطلب من الأمة الإسلامية أن تقوم بمراجعة فكرية وحضارية، تعود فيها إلى ثوابتها وأصولها العقدية والفكرية، فتُقرأ قراءة متجددة تتناسب مع طبيعة التطورات الحضارية التي يشهدها العالم، لتكون لهذه الأمة مشاركة فاعلة، تجمع بين أصول الماضي وثقافة الحاضر، نُفيد فيها من جميع الطاقات والخبرات المتوفرة في الأمة، ضمن مبدأ الوحدة والاتفاق، ومن دون الإخلال بالتنوع والتعدد الثقافي غير الغازي والمغيب لسلفية الأمة الإسلامية في عقائدها، وفي ثوابتها القارية و الوطنية.

  1. 4. شهادات إنسانية على كونية السلفية الصالحة

لقد تركت الدعوة إلى كلمة السواء من لدن نبي الرحمة ومن اهتدى بهديه من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان. في كثير من الناس من أطياف ومعتقدات مخالفة أثرا إيجابيا وسلوكا حضاريا لدى كل من تلمس الهدي النبوي في نهج الحاملين لواء هذا الدين. إلى الانبهار بسلوك قائد الأمة ومعلمها النبي الكريم محمدا ﷺ. وهذه شهادات نابعة من أفئدة صادقة من مفكري العالم:

قالت الشاعرة الهندية ساروجني ندو: «يعتبر الإسلام أول الأديان مناديا ومطبقا للديموقراطية، وتبدأ هذه الديموقراطية في المسجد خمس مرات في اليوم الواحد، عندما يُنادى للصلاة، ويَسجد القروي والملك جنبا إلى جنب اعترافا بأن الله أكبر. وما أدهشني هو هذه الوحدة غير القابلة للتقسيم، والتي جعلت من كل رجل بشكل تلقائي أخا للآخر»[21].

وقال المستشرق إدوارد جيبون أوكلي: «ليس انتشار الدعوة الإسلامية هو ما يستحق الانبهار، وإنما استمرارُها وثباتُها على مر العصور. فما زال الانطباع الرائع الذي حفره محمد ﷺ في مكة والمدينة له نفس الروعة والقوة في نفس الهنود والأفارقة والأتراك حديثي العهد بالقرآن… لقد استطاع المسلمون الصمود في مواجهة فتنة الإيمان بالله، رغم أنهم لم يعرفوه إلا من خلال العقل والمشاعر الإنسانية. فقول» أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي ببساطة شهادة الإسلام، ولم يتأثر إحساسهم بألوهية الله عز وجل بوجود أي من الأشياء المنظورة، التي كانت تُتخذ آلهة من دون الله، ولم يتجاوز شرف النبي وفضائلهُ حدودَ الفضيلة لدى البشر. كما أن منهجَه في الحياة جعل مظاهر امتنان الصحابة له لهدايته إياهم، وإخراجهَم من الظلمات إلى النور منحصرة في نطاق العقل والدين»[22].

وقال الإنجليزي برناردشو: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة.

وسيجد هذا مجاله الفسيح في هذه القارة -يعني أوربا. –

إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد ﷺ صورة قاتمة. لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية. بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أن لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل المشكلات بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها»[23].

وأختم هذه الأقوال المنصفة برأي المؤرخ مايكل هارت، أكد فيه حقيقة وعدالة وموضوعية وعالمية الرسالة السلفية المحمدية الخالدة، قال: «-مائة رجل من التاريخ- إن اختياري منهم ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله، الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي. فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدؤوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحية، وشاركهم فيها غيرهم. أو سبقهم إليها سواهم كموسى في اليهودية. ولكن محمدا هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام بجانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضا وحد القبائل في شعب. والشعوب في أمة. ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم.»

وخلاصة القول: إن وجود القيم الإنسانية في ظل القيم الإسلامية لا محالة سيفضي إلى حل المشكلات وتذويب الخلافات، وبالتالي النظر في المشترك الإنساني عن طريق الحوار الجاد لأجل التلاقي في القضايا المصيرية. والتي حددتها مقاصد الشريعة الإسلامية في ضرورات ومصالح غاية كل إنسان وهي: قيمة الحياة والنفس، وقيمة الدين والروح، وقيمة العقل والفكر، وقيمة الأسرة والأخلاق، وقيمة المال والاقتصاد. وعلى الله قصد السبيل.

الهوامش

[1] الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البرِّ ص:35/ و«ترتيب المدارك» للقاضي عياض ( 1/ 172).

[2] دور التاريخ الإسلامي في بناء المستقبل للدكتور بشار عواد، ص: 260/ 270 ضمن كتاب «الإسلام والمستقبل» لمؤتمر القمة الإسلامي الخامس / الكويت 1987م

[3] السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي / للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي/ص: 231/الناشر دار الفكر– دمشق- سنة 1998.

[4] أخرجه البخاريُّ في «الشروط» بابُ المكاتب وما لا يَحِلُّ مِنَ الشروط التي تُخالِفُ كتابَ الله (2735)، ومسلمٌ في «العتق» (1504)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

[5] أخرجه البخاريُّ في «الأذان» بابُ رفعِ البصر إلى السماء في الصلاة (750) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.

[6] أخرجه أبو داود في «الأدب» بابٌ في حُسْن العِشْرة (4788) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

[7] السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي / للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي/ص: 52/الناشر دار الفكر– دمشق- سنة 1998.

[8] والبخاريُّ في «الأدب المُفْرَد» (273)،

[9] أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة» (2553) مِنْ حديثِ النوَّاس بنِ سَمْعانَ رضي الله عنه.

 

[10] أخرجه الترمذيُّ في «البرِّ والصِّلَة» بابُ ما جاء في مَعالي الأخلاق (2018) مِنْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه

[11] أخرجه أبو داود في «السنَّة» بابُ الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4682)، والترمذيُّ في «الرضاع» بابُماجاء في حقِّ المرأةِعلى زوجها) 1162)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

[12] أخرجه البخاريُّ في «الأدب» بابُ مَنْ لم يُواجِهِ الناسَ بالعتاب (6102)، ومسلمٌ في «الفضائل» (2320)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه.

[13] أخرجه البخاريُّ في «المناقب» بابُ صفةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (559)، ومسلمٌ في «الفضائل» (2321)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما.

[14] أخرجه البخاريُّ في «الأدب» بابُ الحذر مِنَ الغضب (6114)، ومسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة» (2609)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

[15] الحديث أخرجه البخاري من طريق محمد بن المثنى، باب الفتن.

[16] أخرجه البخاريُّ في «الأدب» بابُ الرِّفقِ في الأمرِ كُلِّه (6024)، ومسلمٌ في «السلام» (2165)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها

[17] أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة» (2593) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

[18] أخرجه البخاريُّ في «المناقب» بابُ صفةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (3560)، ومسلمٌ في «الفضائل» (2327)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

[19] المسلمون وتحديات المستقبل / للدكتور رشدي فكار، ص: 270ضمن كتاب «الاسلام والمستقبل لمؤتمر القمة الاسلامي الخامس / الكويت 1987م

[20] الكلمات لبديع الزمان النورسي: 163.

[21] كتاب تاريخ تركيا: لامارتين / باريس 1854

[22] تاريخ إمبراطورية الشرق/ طبعة لندن سنة 1870/ص: 54.

[23] الحضارة الإسلامية جذور وامتدادات / للمؤلفة سعاد رحائم /سلسلة كتاب الأمة/ الناشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قطر/العدد 121

كلمات مفتاحية :