الظاهرة السلفية بين التصورات المصطلحية والتصديقات الشرعية

الظاهرة السلفية بين التصورات المصطلحية والتصديقات الشرعية

ذ/عبد الحميد العلمي أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة القرويين بفاس، أستاذ كرسي أصول الفقه بجامع القرويين بفاس
الأستاذ عبد الحميد العلمي أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة القرويين بفاس، أستاذ كرسي أصول الفقه بجامع القرويين بفاس ومدير مجلة العلماء الأفارقة

ألقيت المداخلة في الندوة العلمية الدولية الأولى التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع «الظاهرة السلفية: الدلالات والتداعيات» يومي الأربعاء والخميس 2829 صفر 1440هـ، الموافق لـ: 78 نونبر 2018م بمدينة مراكش.

نحن المسلمين قولا واحدا وإجماعا قائما نعتقد اعتقادا جازما أن النصوص الشرعية إنما تفهم من جهة العلم باللسان، وما تعارف عليه العرب من تصريف أساليب البيان، قال علي كرم الله وجهه:

«إن كلام العرب كالميزان الذي تعرف به الزيادة والنقصان، وهو أعذب من الماء وأرق من الهواء، فإن فسرته بذاته استصعب، وإن فسرته بغير معناه استحال، فالعرب أشجار وكلامهم ثمار، يثمرون والناس يجتنون، بقولهم وإلى عملهم يصيرون»[1]

ومعلوم أن الدارس في المجال اللغوي لا يقصد الألفاظ لذاتها، بل لأغراض تقتضيها طبيعة تداولها، فإذا كانت جمال الأسلوب عند الأدباء، وأداة تصوير عند البلاغيين، وصيغة وبناء. .. واسما وفعلا وحرفا عند النحويين، ووسيلة للحجاج والتأويل عند المتكلمين، فهي في المجال الشرعي دلالة على طلب المعاني واستثمار الأحكام. لذلك أحاطوها بسياج من عناية البحث، ودقة التحري مما جعلها تنخرط في البناء الدلالي الذي أرصى دعائمه أهل التحقيق من علمائنا.

قال الإمام الطبري: «غير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل أو خبر عن الرسول ﷺ».

وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: «للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية كلام تدل عندهم على معانيهم وإرادتهم، ولتلك الألفاظ مواضع أخر، ولها حينئذ دلالات أخر، فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة» …[2].

وإلى هذا مال أبو حامد الغزالي عندما نص على أن المعنى «لا يعرف المراد منه إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ والقرينة إما لفظ مكشوف، وإما إحالة على دليل العقل وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها»[3].

وباستنطاق النصوص السابقة يتبين أن عناية علماء الشريعة بدلالة الألفاظ فاق ما هو مقرر عند النحاة واللغويين.

قال عبد الملك الجويني: «واعتنوا في فنهم بما أغفله أئمة العربية واشتد اعتناؤهم بذكر ما اجتمع فيه إغفال أئمة اللسان وظهور مقصد الشارع.[4]»

وسعيا إلى تجلية مصطلح السلفية بأبعاده الدلالية وتداعياته الفكرية والعقدية، فقد اخترت أن أترجم محاضرتي الافتتاحية بـ «لفظ السلفية بين التصورات المصطلحية والتصديقات الشرعية»

وعند النظر في قيوده وجدته مؤسسا على قضية تحتها مسألتان.

أما القضية فتصدق على مسمى السلفية وموقعها من الألفاظ الشرعية.

وأما المسألتان:

فإحداهما لها تعلق بالتصورات المصطلحية

والثانية لها ارتباط بالتصديقات الشرعية

السلفية وموقعها من الألفاظ الشرعية

وهي عبارة عن بحث مصطلحي في مسمى السلفية وعلاقتها بالدوال الشرعية. فمن المعلوم أن مصطلح السلفية من الألفاظ التي أثارت اهتمام الباحثين، ولفتت انتباه المهتمين نظرا لتزاحم حمولاته الدلالية والعقدية، فأصبح ظاهرة لها حضورها في الحقل الديني، كما وجد المنتسبون إليها في ياء النسبة وهاء السكت ما يضفي الشرعية على ذلك الانتساب، الشيء الذي أسفر عن قناعات انعكست آثارها على الجوانب الفكرية والعقدية، والفتاوي الشرعية وغيرها.

انطلاقا من أهداف مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة القائمة على خدمة الدين ومصالح المسلمين، وسعيا منها إلى توحيد جهود العلماء الأفارقة في التعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها وترسيخها، ورغبة في المحافظة على وحدة الإسلام ورصد التيارات الفكرية والعقدية رصدا موضوعيا مؤسسا على النقول الشرعية والأدلة العقلية فقد بات لزاما على من بوأه الله تعالى شرف تلك المحافظة أن يعمل على حمايتها طلبا لضبط حدودها والتعريف برسومها.

وهذا ما ستتولى بسطه هذه المحاضرة الافتتاحية.

المسألة الأولى: ضبط التصورات المصطلحية

وبابها الوقوف على الماهيات، وما جرى به العمل من ضروب التعريفات مع استحضار الخصوصيات والاحتكام إلى الأبنية المعجمية في أوضاعها الإفرادية والتركيبية وطرق الظفر بالمعاني في سياقاتها الحالية والمقالية وما تتطلبه طبيعة تداول الألفاظ في مجالاتها الفكرية ومرجعياتها العقدية، وهذا يقتضي البحث في أصل المادة دون ياء نسبتها وهاء سكتها، حسب ورودها في المظان الآتية:

1- في المعاجم اللغوية

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: «السين واللام والفاء: أصل يدل على تقدم وسبق من ذلك: السلف الذين مضوا والقوم السلاف أي المتقدمون».

وقال الراغب الأصفهاني في المفردات:

السلف هو المتقدم قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَٰهُمْ سَلَفاٗ وَمَثَلاٗ لِّلَاخِرِينَۖ[5] أي: معتبرا متقدما.

وقال ابن منظور: «ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين: السلف الصالح»

ومنهم من ذهب إلى أن «سلف» جمعه أسلاف وسلاف. ومعناه: كل من تقدم من الآباء وذوي القرابة في السن والفضل وغيرهما.

وبه يعلم أن المادة في الاستعمال العربي لم تخرج عن معنى التقدم والسبق من الماضين الأولين.

2- في القرآن الكريم

وردت مادة السين واللام والفاء في القرآن الكريم بالصيغ الآتية:

  • سلف من الثلاثي بفتحتين قبلها ما الموصولة كما في قوله تعالى: ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَانتَه۪يٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَي اَ۬للَّهِۖ[6] أي ما تقدم من أمر الربا فلا تباعة عليه في الدنيا والآخرُة. وفي قوله سبحانه: ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلفَ[7]
  • سلف بفتحتين قبلها قد التحقيقية كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ اَ۬لنِّسَآءِ الَّا مَا قَدْ سَلَفَۖ.[8]

وفي قول عز من قائل:      ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ اَ۬لُاخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَۖ[9] وفي قوله تعالى: ﴿قُل لِّلذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنْ يَّنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾[10]

  • أسلف من الرباعي المقرون بتاء التأنيث الساكنة العائدة على النفس، كما في قوله سبحانه: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٖ مَّآ أَسْلَفَتْۖ[11]
  • أسلف من الرباعي المقرون بميم الجماعة، والمخاطبون هم أهل الجنة كما في قوله تعالى:﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيٓـٔاَۢ بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِے اِ۬لَايَّامِ اِ۬لْخَالِيَةِۖ [12].
  • سلفا المنصوبة على المفعولية الثانية كما في قوله سبحانه:﴿فَجَعَلْنَٰهُمْ سَلَفاٗ وَمَثَلاٗ لِّلَاخِرِينَۖ[13]

والمقصود بهم أصحاب فرعون الذين أغرقهم الله تعالى في البحر، وجعلهم سلفا لمن يأتي بعدهم ويعمل بعملهم في استحقاق العذاب من جهة، وليكونوا عبرة وموعظة للاحقين.

وبإمعان النظر في الاستعمال القرآني للمادة نجده دائرا على ما تقدم في تصريف العرب لأساليب خطابها التي تعني السبق في العمل أو التقدم في الأشخاص والأجناس.

3- في السنة النبوية

ورد هذا اللفظ في السنة النبوية من الثلاثي غير مزيد للدلالة أيضا على السبق والتقدم، من ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال لابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها في مرض موته مواسيا لها: «اتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك».[14]

كذلك روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال بعد وفاة ابنته رقية رضي الله عنها: «ألحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون» وهو أخو النبي ﷺ من الرضاعة وأول من دفن بالبقيع.[15]

وما يستفاد من الرواية الأولى أن النبي ﷺ استعمل اللفظ معرفا بآل محلى بأداة:

نعم، مخبرا ابنته فاطمة رضي الله عنها أنه ﷺ سيكون سلفا لها بعد رحيله عنها.

كما يستفاد من الرواية الثانية اعتبار عثمان بن مظعون سلفا له مع نعته بالصالح لتقدمه في الوفاة على النبي عليه الصلاة والسلام.

4- في الأمثال والأخبار العربية

ورد اللفظ على أصله الثلاثي في الأخبار والأمثال العربية من ذلك:

  • ما رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير من أن الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل، قال: قال راشد بن سعد: «وكان السلف يستحبون الفحولة لأنها أجرى وأجسر»
  • ما جرى مجرى المثال في قولهم: «مجد السلف نور الخلف» ج. ما نقل عن شاعرهم:

وكل خير في اتباع من سلف           وكل شر في ابتداع من خلف.

د. ما أثر من دعاء أهل السنة والجماعة والأشاعرة منهم في قولهم: «اللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف».

والملاحظ أن استعمال اللفظ هنا أيضا لم يخرج عن أصله بقرينة تنصيصهم على مصطلح الخلف من باب المقابلة بين المتقدمين والمتأخرين.

5- في الإطلاقات المفهومية

بعد التسليم بأن لفظ السلف من أصله الثلاثي يقصد به كل من تقدم على من خلف، فيبقى الموضع مفتقرا إلى معرفة من يصدق عليهم مسمى السلف.

6- وها هنا ثلاثة إطلاقات هي:

  • إطلاق عام:

ويدخل فيه كل من سبقنا وتقدم علينا في الزمان والمكان في حقب متفاوتة، بحيث لم يعد لهم حضور بيننا، وأصبح العلم بهم من جهة ما يرويه التاريخ لنا، سواء كانوا من الصالحين، أو ممن حق عليه الوعيد من الغابرين، كما في قوله تعالى فَجَعَلْنَٰهُمْ سَلَفاٗ وَمَثَلاٗ لِّلَاخِرِينَۖ﴾[16] والمقصود بهم آل فرعون.

  • إطلاق خاص:

ذكرت بعض المعاجم أن من بين معاني السلف كل من تقدم من الآباء وذوي القرابة في السن والفصل. وهذا ضرب من الاقتصار الذي لا يعني عدم امتداده إلى السابقين من مختلف الأمصار.

أما وجه الخصوصية فيه بالاعتبار الثاني فهو تحليته بالنعتية القاضية بالصلاحية، وقد استعمله النبي ﷺ في حديث ابن مظعون رضي الله عنه عندما نعته بسلفنا الصالح.

وعلى هذا درج المحققون من علمائنا، إلا أن أقوالهم ترددت في تحديد الزمن الذي ينتهي إليه سلفنا الصلح:

    • فبعضهم عينه في الصحابة رضوان الله عيهم أجمعين.
    • وبعضهم أضاف إليهم التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
    • وبعضهم زاد عليهم الأئمة المهتدين.
    • وبعضهم قصد بهم كل من سلف من أهل الفضل والعلم والخير والصلاح من العلماء العاملين.
    • مرجعهم في ذلك قوله ﷺ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» [17]
  •  إطلاق خاص الخاص:

وعليه مدار الكلام هنا، لأن مستعمل المصطلح تصرف في وضعه الأصلي بإضافتين:

أ. إحداهما: إضافة ياء النسبة للدلالة على كل من يقتدي بمن تقدم ليستحق بذلك لقب «السلفي» ولا إشكال في هذه الصيغة من حيث شرف الانتساب، إلا أنها خضعت من حيث التداول إلى مؤثرات دلالية نسوقها ضمن المسائل الآتية:

مسألة التحول الدلالي:

وهي من المسلمات عند أصحاب الميزان وعلماء الشريعة والمشتغلين باللسانيات الحديثة. ذلك أن الدرس المصطلحي أفضى إلى أن الألفاظ المستعملة في الحقول المعرفية يعتريها قانون التحول من المعنى العام إلى ما هو أخص منه. كمصطلح الفقه الذي كان يعني في الصدر الأول فهم الدين كله من ذلك دعاء النبي ﷺ لابن عباس رضي الله عنه بقوله: «اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»[18] وقوله عليه الصلاة والسلام «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».[19]

ثم أصبح يطلق في عهد أبي حنيفة على معرفة النفس مالها وما عليها. ثم أفضى ذلك التحول به إلى الاقتصار على معرفة الفروع الفقهية، لذا عرفه الأصوليون بقولهم «الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية».

وهذا ما جعل أبا حامد الغزالي يشير إلى ما آل إليه معنى الفقه، فبعد أن كان يطلق على العلم بالدين كله ومعرفة ما ينبغي التفقه فيه ليكون عونا للمسلم على سلوك طريق الآخرة أصبح مقتصرا على معرفة الأحكام التكليفية.

وأرى من نافلة القول أن أشير إلى إضافة ياء النسبة لم يكن للتحول الدلالي تأثير يذكر عليها لدى المتقدمين الذين استعملوا لفظ السلفي في مصنفاتهم كالمقريزي والشهرستاني وغيرهما، وكأصحاب التراجم الذين استعملوها في طبقاتهم كالإمام الذهبي الذي قال في ترجمة الحافظ أحمد بن محمد المعروف بأبي الطاهر السَّلَفي: «السلفي بفتحتين هو من كان على مذهب السلف»[20].

وقال في ترجمة ابن الصلاح: «قلت وكان سلفيا حسن الاعتقاد كافا عن تأويل المتكلمين»[21].

ولا شك أن استعمال اللفظ في هذه المرحلة خضع لأولى مراحل التحول الدلالي، فياء النسبة هنا لا تعدو أن تكون تشريفا للانتماء لما عليه السلف الصالح بالإطلاق الثاني. ثم استعمله المتأخرون بما يقارب المعنى السابق وهم دعاة الإصلاح الذين لم يروا مانعا من الإعلان عن نهلهم من مشكاة السلف الصالح، كما لم يجدوا حرجا في أن يسمى المنخرط في مشروعهم بالسلفي، رعيا لما تتطلبه مسألة الإصلاح من الاقتداء بمن تقدم من الصالحين. وهكذا استمر اندراج اللفظ في مساره الدلالي إلى أن أصبح لقبا ضيقا يطلق على فئة مخصوصة لها مرجعياتها العقدية، ومسالكها التأويلية ومواقفها تجاه من ليسوا على منوالها من علماء الشريعة الإسلامية.

ب. أما الإضافة الثانية، فتتعلق بزيادة هاء السكت على ياء النسبة فانتقلت صيغة اللفظ إلى مصطلح السلفية، والأمر فيها جار على مقتضى التداول الدلالي، إلا أنه ارتبط بمسألة أخرى هي:

 الانزياح المصطلحي:

والمقصود به أن أصل مادة السين واللام والفاء التي كانت تعني في استعمالاتها اللغوية والشرعية المعنى الملمع إليه أعلاه. خرجت عما وضعت له في الأصل إلى معنى آخر لتصبح مصطلحا ذا صيغة لقبية يحيل معناها على جماعة أو مذهب أو طائفة أو غير ذلك من التصورات المصطلحية التي يشعر معناها بتبني أغراض معلومة وأهداف مخصوصة.

وهذا ما عبر عنه السمر قندي في ميزانه بقوله «إن تسمية المسميات في وضع اللغة ليس لذوات المسميات حتى تجب ملازمة المسميات ملازمة الذوات، إذ الحكم يبقى ما بقي العين وإنما الوضع تابع للأغراض مرتب عليها» ولا شك أن هذه اللقبية تحمل أغراضا تترتب عليها آثارها الحكمية وتداعياتها العرضية.

الاشتراك اللفظي والنقل اللغوي:

عرف العلماء اللفظ المشترك بأنه ما دل بالوضع الواحد على متعدد معلوم عند واضعه مبهم عند سامعه، كما ناقشوا مسألة نقل الألفاظ من معانيها اللغوية إلى مدلولاتها المصطلحية، أو إلى الحقائق الشرعية كلفظ الصلاة الذي يدل في اللغة على مطلق الدعاء وفي الشرع على العبادة المعروفة بالهيئات المعلومة والكيفيات المخصوصة، فهناك من قال بنقل معناها من اللغوي إلى الشرعي، وهناك من قال باشتراكها بينهما، ومن قال بأنها حقيقة في اللغة مجاز في الاصطلاح، ومن قال بالتوقف إلخ…

ومصطلح السلفية من الألفاظ التي تداخل فيها اللغوي والشرعي والمذهبي بفعل تأثرها بالتحولات الدلالية والتغييرات المصطلحية والنقل والاشتراك في المطلوبات الخبرية.

ومادام الأمر مرتبطا بالقضايا الشرعية فقد احتاج الموضوع إلى الحديث عن القسيم الثاني وبابه.

المسألة الثانية: التصديقات الشرعية

ورأس الأمر فيها: تنزيل التصورات المصطلحية على وزان ما تقتضيه قواعد الفهم السليم للشريعة الإسلامية. فهي مع الأولى ثنائية لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى. إذ بهما يكتمل عقد المواضعة في اللغويات، والمطابقة في الشرعيات والقول بالتصديق المفهومي يعني موافقة الاستعمال المصطلحي للمعنى الشرعي. وهذا يستدعي التمييز بين مستويات الوضع والحمل والاستعمال. إذ بها تكون المدارك بحسب تفاوت الأفهام وضابط ما نحن فيه هو موافقة الدوال اللفظية لمقاصد الشرع السامية، فما علاقة لفظ السلفي والسلفية بالمباحث الشرعية ؟

للإجابة عن ذلك أقترح عرضها ضمن إفادتين هما:

الإفادة الأولى

تتعلق بطرق فهم الأحكام التكليفية:

ومضمونها أ ن الكثير من السلفيين يرون أن السبيل إلى ذلك الفهم هو الأخذ عن كتاب الله تعالى، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم، وهم بهذا الاعتبار ينكرون من حيث لا يشعرون أخذ العلم عمن عداهم ومنهم أئمة المذاهب الفقهية وغيرهم من أعلام الشريعة الإسلامية. وللمعترض أن يوجه نقضه بأن الكثير منهم تقتصر سلفيته على أسماء يمكن عدها من المتأخرين.

ومع ذلك فهذا الرأي فيه نظر من أوجه:

أحدهما: اعتمادهم في دعوى سلفيتهم على حديث «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وهي دعوى فاسدة لدخول أئمة المذاهب في معنى الحديث ووجه فسادها أنها أوقعتهم في المعارضة التي لا تقبلها قواعد التأييد والمناصرة. فهذا الإمام مالك رحمة الله وهو من القرون الثلاثة الأولى يخبر أصحابه أن كل كلام يخالف ما جاء به رسول الله ﷺ يضرب به عرض الحائط. وهذا الإمام الشافعي يرى أن كل ما تقوله الأمة هو شرح للسنة، وجميع السنة هو شرح للقرآن. فعلى ما بنى جل متعصبيهم القول بتجاوز المذاهب الفقهية وعلماء الأمة الإسلامية؟

الثاني: على فرض التسليم لهم بحصر أخذ الدين في الصدر الأول دون غيره من طبقاته المتأخرين. يبقى التساؤل عن طبيعة علمهم القادر على فهم هذا الدين دون إسناد متين.

فهل علمهم لدني يخول لهم الفهم عن الله ورسوله وصحابته دون حاجة إلى غيرهم. أم هو كسبي يتوقف أخذه عمن هو خَلَفي مثلهم. إما أن يكون مساويا لهم في المعاصرة أو يفوقهم في العلم والمناظرة.

ولا مجال لهم لادعاء اللدنية، فلم يبق إلا أن يسلموا بالكسبية، فإن سلموا ولا بديل إلا أن يسلموا طولبوا بالإعراب عن سلسلة وسائطهم عن طريق الإسناد الذي اعتبره الحطاب خصيصة هذه الأمة فقال: «ينبغي الاعتناء به اقتداء بالسلف وحفظا للشرف، قال شيخ شيوخنا شيخ الإسلام ابن حجر الشافعي في أول فتح الباري: سمعت بعض الفضلاء يقول: الأسانيد أنساب الكتب فأحببت أن أسوق هذه الأسانيد مساق الأنساب».[22]

فإن هم تمادوا في دعواهم أن الأخذ لا يكون إلا بالمباشرة دخلوا فيمن لا نسب له ولا سند بالمغامرة.

وإن هم سلموا بالواسطة سقطت دعوى الحصر. وساووا غيرهم في القبول بالنشر، لأن علم القرآن والسنة وعمل الصحابة والتابعين وغيرهم انتشر ووصل إلينا على أيديالعلماء المسلمين، كما وصل إلى من سموا بالسلفيين، لأن منهم العوام والمقلدين والمبتدئين والمعلمين. فهم بهذا الوصف أخلاف يتفقهون عمن سبقهم من الأسلاف.

الإفادة الثانية

تتعلق بطرق بحثهم للمسائل العقدية: مثل القول في الذات والصفات والنبوات وغيرها.

ولا شك أن العلم بها لدى المتأخرين تم بوسائط تجاوزت عصرهم بسنين إلى أن شابتها عوادي الطائفية والحزبية فخرجت عن مسارها الموضوعي بفعل ما فهموه وسبب ما تأولوه .

والناظر في عقديات المتقدمين يجدها قائمة على التعلق بأصل التنزيه، وإن بدا لك خلاف فهو في الطريق الموصل إلى ذلك الأصل. فالكل يقر بوحدانية الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. كما أجمعوا على مبدإِ الإيمان بالصفات على قاعدة عدم التشبيه المعضدة للتنزيه.

ففي مسألة الاستواء ذكر ابن كثير أنه سلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك و الأوزاعي و الشافعي وأحمد و هو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. و على هذا سار ابن قيم الجوزية عندما قال:

«لسنا نشبه وصفه بصفاتنا، إن المشبه عابد الأوثان من شبه الله العظيم بخلقه» فهو النسيب لمشرك نصراني. كذلك ذهب ابن عبد البر التمهيد إلى أن «أهل السنة والجماعة على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القران و في السنة و الإيمان بها و حملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك[23]» لأنه ﴿ليْسَ كمِثْلِهِ شْيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[24]

وبهذا صرح ابن تيمية بقوله:

«وجماع القول في إثبات الصفات هو القول بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله و يصان ذلك عن التحريف و التمثيل و التكييف و التعطيل، فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله».

فهؤلاء ممن ذكروا و غيرهم كثير أقروا بخلفيتهم لمن هم أعلى منهم سلفا حيث نهلوا من علمهم و نسجوا على منوالهم.

إلا أن الخلفيين الجدد اتخذوا من بعض من تأخر سلفا لهم وهم السلفية المعاصرة الذين شغلتهم آفة الغلو والانتصار عن محاسن المحجة والافتقار.

أما دعواهم بأن ما هم عليه له استمداد من طبقة المتقدمين فلم تعد صحيحة لظهور سلف آخر تحت مسميات الوهابية والأثرية والإخوانية وغيرها فلم نعد ندري أي سلف يتبعون؟ وبأي مرجعية يقتدون؟

و لا سبيل إلى الخروج من هذه العماية إلا برد اللفظ إلى أصله اللغوي و اصطلاحه الشرعي و هو ما يصدق على أهل السنة و الجماعة من السلف الصالح الذين أخذوا علمهم عن سلفهم الموصول إلى الرسول الأمين، المبلغ عن رب العالمين، وعلى هذا إجماع الأمة من مختلف المذاهب الفقهية، و المدارس السنية، و لا عبرة بمن شذ من الذين أخذوا السلفية عمن تأخر من الخلفية فخرجوا عن الجماعة واعتقدوا كما قال سبحانه:﴿ كُلُّ حِزْبِۢ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَۖ [25] و هم بهذا يدخلونِ في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اَ۬لْقَادِرُ عَلَيٰٓ أَنْ يَّبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباٗ مِّن فَوْقِكُمُۥٓ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمُۥٓ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاٗ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍۖ اُ۟نظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اُ۬لَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَۖ [26]

وبه يعلم أن المذهب الذي يمثل السبق في الاهتداء والأصل في الاقتداء هو مذهبالأشاعرة الذين استحقوا بالأصالة لقب السلف المقتدى، والرعيل المحتذى، لأن كل من جاؤوا بعدهم يعتبرون خلفا لهم بالرغم من اختلاف الطرائق وتباين مستويات الفهم لدى الخلائق.

وخلاصة القول: فيمكن التمييز بين دعاة السلفية من خلال ثلاثة مستويات دائرة على الوصل والفصل وخلاف الأصل.

أما المستوى الأول:

فيمثله دعاة الوصل وهم المعتدلون الذين يرون أن التمسك بعمل السلف الصالح هو ما يتغياه كل من له انتساب لأهل السنة والجماعة، فلا فرق عندهم بين هؤلاء والأشاعرة، لأن العبرة عندهم بالجوامع الموضوعية لا بالفوارق الصورية.

وأما المستوى الثاني:

فيمثله دعاة الفصل وهم المتأثرون بالسلفية المتأخرة الذين فضلوا فصل مذهبهم عن غيرهم. فاختاروا التفرد بمسلكهم كماأخذوه عن شيوخهم، متناسين أن الأشاعرة من سلفهم بإجماع العلماء على إمامتهم.

وأما المستوى الثالث:

فهم الذين ساروا علي غير أصل، دون رعي لوصل أو فصل، و اختاروا عن علم أو تقليد أن ينسجوا سلفيتهم بالمرجعيات الطائفية و التأويلات العقدية و النزوعات السياسية فخرجوا بهذا النسيج عما تقتضيه التصديقات الشرعية بفعل فتاويهم التكفيرية، ومواقفهم التحريضية، وأقوالهم التبديعية، الأمر الذي أدى إلى الإساءة للإسلام والمسلمين بسبب خروجهم عن مقاصد الدين، وما يقتضيه حبل الله المتين.

إن سلفية هؤلاء لا علاقة لها بالصدر الأول، ولا بالقرون الأولى. بل بالقرن الثامن عشر الميلادي بما حمله من متغيرات إيديولوجية قدمت الإسلام والمسلمين بصورة غير مرضية لدى الشعوب الإسلامية والدول الغربية.

وبناء على ما تمت الإفادة به فقد حرص المغرب على التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهو منهج السلف الصالح القائم على الكتاب والسنة، وعلم الأئمة ومنهم الإمام أبو الحسن الأشعري، الذي ناصر هذا النهج وقواه، فاقتنع به المغاربة وتمسكوا به وجعلوه من ثوابتهم الدينية.

ومن الشواهد على ذلك رسالة السلطان مولاي سليمان العلوي إلى محمد بن عبد الوهاب التي ذكّره فيها بأن المغاربة على منهج السلف الصالح، لكنهم أشاعرة لا يكفرون أهل القبلة بذنب، ويتمسكون بمذهب الإمام مالك منذ القرن الثاني الهجري، وهو من أهل القرون الثلاثة الأولى.

وجريا على ذلك السنن، وقطفا من ذلك الفنن، فهذا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، ناصر السنة، وحامي الملة ما فتئ يسعى إلى توحيد جهود المسلمين من أوروبا والبلدان العربية والإفريقية، للتمسك بحبل الله المتين، ونهج الطريق المستقيم،

وها نحن في هذا اليوم المشهود بحضور إخواننا العلماء الأفارقة للمشاركة في أعمال هذه الندوة العلمية الدولية إسهاما منهم في خدمة الإسلام والمسلمين برعاية من مولانا أمير المؤمنين حفظه الله ورعاه.

هذا ما يسر الله تقييده بشأن هذا الموضوع، وأسأله سبحانه وتعالى أن يكون نافعا في بابه، وأن يجد محلا عند سامعه، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش

[1] كتاب الزينة 1/61

[2] كتاب الحيوان: 1/153

[3] المستصفى: 1/399

[4] البرهان: 1/169

[5] الزخرف:56

[6] البقرة: 275

[7] المائدة: 95

[8] النساء: 22

[9] النساء: 23

[10] الأنفال: 38

[11] يونس: 30

[12] الحاقة: 24

[13] الزخرف: 56

[14] كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة رضي الله عنها

[15] رواه الطبراني، ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف»، وفي رواية الطبراني هذه« رقية» بدل« زينب.”

[16] الزخرف:56.

[17] رواه البخاري )2652(، ومسلم) 2533(.

[18] رواه الإمام أحمد في «المسند« 4 / 225

[19] متفق عليه.

[20] كتاب السير 16/21

[21] تذكرة الحفاظ 4/31

[22] مواهب الجليل 1/8 وينظر فتح الباري 1/5

[23] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 7/145تحقيق عبد الله ابن الصديق، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1399هـ/1979م.

[24] الشورى الآية 11

[25] المؤمنون:53.

[26] الأنعام:66.

 

كلمات مفتاحية :