الدرس المالكي لدى علماء إفريقيا

الدرس المالكي لدى علماء إفريقيا

ذ. محمد الحنفي دهاه عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية.
ذ. محمد الحنفي دهاه عضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية.

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

 

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد الفاتح الخاتم الناصر الهادي وعلى آله حق قدره ومقداره.

يا لفاس وحبذا أرض فاس ** ولفاس تشوقي وحنيني

لعله ليس من الصدفة أن تنعقد هذه الندوة المتعلقة بأقوال العلماء في الثوابت الدينية في المغرب بهذه المدينة المباركة، مدينة فاس التي تعتبر العاصمة العلمية للمملكة المغربية والعاصمة العلمية والروحية لإفريقيا جنوب الصحراء؛ فمن هذه المدينة انطلق شعاع المذهب المالكي إلى عموم إفريقيا، فقد كان المولى إدريس بن عبد الله الكامل يحفظ موطأ الإمام مالك، وهو من دعا المغاربة إلى مذهب الإمام مالك وقراءة الموطأ، حيث قال: «نحن أحق باتباع مالك وقراءة كتابه»[1].

سماء بها إدريس يلمع قدره ** وأرض بها إدريس يكنز غاليا

وليس من الغريب -أيضا- أن يتم تنظيم هذه الندوة بالتعاون بين موقع الثوابت الدينية ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة؛ فموضوع هذه الندوة هو من صميم الأهداف التي أُنشئت هذه المؤسسة من أجلها.

ونحن إذ نثمن ما تقوم به هذه المؤسسة من خدمة كتاب الله سبحانه وتعالى، ومن ترسيخ للثوابت الدينية في القارة الإفريقية، ومن دعوة لنشر المحبة والأخوة بين المسلمين ومن تشجيع للتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم؛ نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ذلك كله في ميزان حسنات منشئها مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره، ونرجو من الله له الشفاء التام ودوام الصحة، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يجازي القائمين على هذه المؤسسة بدءا بالرئيس المنتدب والأمين العام وكل العاملين فيها أحسن الجزاء.

وبالنسبة لموضوع المحاضرة فهو: «الدرس المالكي لدى علماء إفريقيا»، وسأتناوله حسب الخطة التالية:

المبحث الأول: أسباب تمسك الأفارقة بالمذهب المالكي ومزاياه على القارة الإفريقية، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: أسباب تمسك الأفارقة بالمذهب المالكي.

المطلب الثاني: مزايا المذهب المالكي على القارة الإفريقية.

المبحث الثاني: الدرس العلمي في إفريقيا الإجراءات والخصائص، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: خصائص التعليم العتيق في إفريقيا.

المطلب الثاني: إجراءات الانتساب إلى التعليم العتيق في إفريقيا.

المبحث الثالث: سلم الدرس الفقهي المالكي في البلاد الإفريقية، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: ترتيب المتون في التعليم العتيق بإفريقيا.

المطلب الثاني: الحكمة من تأخير الدرس الفقهي.

الخاتمة.

المبحث الأول: أسباب تمسك الأفارقة بالمذهب المالكي ومزاياه على القارة الإفريقية

سنتعرض في هذا المبحث لأسباب تعلق الأفارقة بالمذهب المالكي، وسنبين مزاياه على القارة الإفريقية، وذلك في مطلبين، نخصص أولها لأسباب تعلق الأفارقة به، وثانيهما لمزاياه على القارة الإفريقية.

المطلب الأول: أسباب تمسك الأفارقة بالمذهب المالكي

من المرجحات التي جعلت مذهب مالك رضي الله عنه ينتشر في بلاد المغرب ومنها إلى القارة السمراء، خصائص بعضها متعلق بشخصية الإمام مالك رضي الله عنه، وبعضها متعلق بالمنطلق الأول للمذهب وهو المدينة المنورة، وبعضها متعلق بأصول المذهب، والجاذبية الروحية لأئمته، وهذا ما نفصله في الفقرات التالية.

الفقرة الأولى: الخصائص المتعلقة بشخصية الإمام مالك رضي الله عنه.

اكتسب الإمام مالك رضي الله عنه سمعة أهلته لثقة جماهير المسلمين به، فقد روى عنه كثير من العلماء، يقول ابن تيمية في الفتاوى: «ولا ريب عند أحد أن مالكا -رضي الله عنه- أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا؛ فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفا وسبعمائة أو نحوها، وهؤلاء الذين اتصل إلى الخطيب حديثهم بعد قريب من ثلاثمائة سنة، فكيف بمن انقطعت أخبارهم أو لم يتصل إليه خبرهم»[2].

كما أنه من الأسباب المتعلقة بشخصيته ما جبلت عليه النفوس من هيبته، حتى قال سعيد بن أبي هند القاضي: ما هبت أحدا هيبتي عبد الرحمان بن معاوية، حتى حججت فدخلت على مالك، فهبته هيبة شديدة صغَّرت هيبة ابن معاوية[3].

هذا بالإضافة إلى ما ورد فيه من تزكية خاصة؛ حيث قال أكثر أهل العلم أنه المعني بما رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة»، فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك[4].

والعلماء إن ذكرت فمالك
مذهبه من أحسن المذاهب
نجم ولا خلاف عند ذلك
ولست عن مذهبه بالذاهب

الفقرة الثانية: منطلق مذهبه وهو المدينة المنورة.

من مرجحات مذهب الإمام مالك والأسباب التي دفعت الأفارقة للتمسك به تميزه عن غيره من المذاهب بأنه تشكل وترعرع في دار الهجرة، مستقر الصحابة والتابعين، ومظنة تواتر أركان الدين، واتباع الأفارقة له إنما هو لميلهم إلى اقتفاء أثر أهل المدينة، فيما كانوا عليه من التشبث بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، يقول القاضي عبد الوهاب في اختصاص المالكية بالنسبة إلى عالم المدينة: «أنه إذا أطلق عالم المدينة أو إمام دار الهجرة فالمراد به مالك دون غيره من علماء المدينة»؛ فهو مفتي أهل المدينة، وفقيه أهل الأثر، ومحدث أهل السنة…

الفقرة الثالثة: وفرة أصول مذهب الإمام مالك وتمسكه بالسنة.

تميز مذهب الإمام مالك رضي الله عنه بكثرة الأصول، فهي تشمل الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة، وعمل أهل المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال والاستحسان، والأخذ بالأخف[5].

كما تميز ببعده عن البدع وحرصه على السنة، وهو ما حبب مذهبه إلى الأفارقة ورجحه عندهم، أضف إلى ذلك الأخلاق الطيبة التي تمتع بها الفقهاء والأعلام الذين نشروا هذا المذهب فكانوا يمثلون أسوة حسنة للأفارقة.

الفقرة الرابعة: الصلات العلمية.

نشأت صلات علمية بين الإمام مالك رضي الله عنه وبين بعض قضاة المغرب كعبد الله بن غانم وغيره، فقد كانوا يستفتون الإمام مالكا ويستفسرونه في قضايا ومسائل يرغبون في الاطلاع على رأيه فيها وحكمه عليها، فقد ذكر أبو العرب في طبقات علماء إفريقية أن عبد الله بن عمر بن غانم الرعيني سمع من مالك، وكان يكتب إلى عثمان بن عيسى بن كنانة، فيسأل له مالكا عن أحكامه[6].

المطلب الثاني: مزايا المذهب المالكي على القارة الإفريقية

من مزايا مذهب مالك على القارة الإفريقية:

الوحدة الفكرية

شكل المذهب المالكي وحدة فكرية في منطقة عريضة من إفريقيا لا يوجد فيها غيره؛ وهو ما ولد لحمة بين الشعوب، وحسم مادة التفرق الذي ينتج عن التعصب والانتصار للمذهب والهجوم على المخالف.

وقد عد العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم من أسباب تأليفه لمراقي السعود في أصول مذهب الإمام مالك عدم وجود المذاهب الأخرى في المنطقة المغاربية الشاملة لغرب إفريقيا ووسطها والمغرب العربي الكبير؛ حيث قال:

هذا وحين قد رأيت المذهبا
وغيره كمثل عنقا مُغرب
أردت أن أجمع من أصوله
رجحانه له الكثير ذهبا
في كل قطر من نواحي المغرب
ما فيه بغية لذي فصوله

الوسطية والاعتدال والانفتاح على الآخر

من مزايا المذهب المالكي في المناطق التي يحكم فيها بإفريقيا أنه رسخ في المجتمعات الإفريقية الوسطية والاعتدال، فهو معتدل في مواقفه وأحكامه، وفي أصوله وفروعه؛ فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تشديد، ولا غرابة ولا شذوذ ولا جمود ولا تعقيد.

ومن مظاهر ذلك أن الأفارقة في هذه المنطقة استطاعوا أن يتعايشوا سلميا فيما بينهم رغم اختلاف أعراقهم وتعدد طرقهم الصوفية، يلتمس كل منهم لصاحبه أحسن المخارج ويؤول ما يصدر عنه مما لا يراه موافقا، معتمدين في ذلك على أن من أصول مذهب الإمام مالك رضي الله عنه عدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب يصدر منه كما ذكر ذلك ابن يونس الصقلي في كتابه الجامع، حيث قال ما نصه: «وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة وإن كان كبيرا، ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله؛ كما قال تعالى:(لئن أشركت ليحبطن عملك)، وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

ولم يختل عقد هذا التآخي والتعايش إلا مع دخول الأفكار الواردة على القارة، والتي يستسهل أهلها تكفير المسلمين، بل يذهبون إلى نسبتهم إلى الشرك.

ومن أكبر المفاسد التي جلبها حملة الأفكار المتطرفة ودعاة الفتنة إلى المجتمعات الإفريقية دعوتهم لحمل السلاح باسم الجهاد رغم اختلال الشروط التي توجبه.

تعريب القارة الإفريقية

لقد كان للمذهب المالكي دور بارز في تعريب البلاد الإفريقية، فمذهب مالك بن أنس رحمه الله وهو الإمام الذي لا يُجَوّز قراءة القرآن بالأعجمية، ولا تكبيرة الإحرام للصلاة بها حتى ولو كان عاجزا؛ فإنه كما يقول خليل المالكي: «وإنما يُجزئ «الله أكبر» فإن عجز سقط»، فلم تقتصر اللغة العربية في مذهب مالك على وظيفة التواصل التي هي المهمة الأساسية للغة، فقد اتخذت بعدا تعبديا؛ حيث ارتبطت بها الشعائر الدينية.

ومن دواعي التعريب -كذلك- كون خطبة الجمعة لا تصح بغير العربية، كما أنه ورد النهي عن الدعاء بغير العربية، قال البراذعي في اختصار المدونة: «ولا يُحرم بالأعجمية، ولا يدعو بها، ولا يحلف بها»[7]، ولهذا نجد أن اللغة العربية والدين الإسلامي في عقلية الأفارقة اسمان لمسى واحد متلازمان تلازما كاملا[8].

المبحث الثاني: الدرس العلمي في إفريقيا: الإجراءات والخصائص

يأخذ الدرس الفقهي في إفريقيا كغيره من الدروس في التعليم العتيق طريقة تربوية خاصة – كما هو الحال في المغرب- تعتمد على التلقين؛ الطالب فيها هو محور العملية التربوية، فهو الذي يقرر الكتاب الذي يدرس، ويتوجه إلى الشيخ الذي يرغب في الاستماع إليه عند تعدد المشايخ. وسأبين في هذا المبحث المحفزات الذاتية للطالب في التعليم العتيق وخصائصه وإجراءات الانتساب إليه.

المطلب الأول: خصائص التعليم العتيق في إفريقيا.

استطاع التعليم العتيق في إفريقيا بسبب قوة الدفع التي اكتسبها من المحيط المتدين الذي يجعل من اكتساب العلم ونشره فريضة شرعية، أن ينسجم مع الواقع الطبيعي والاجتماعي؛ فخريجه يلقى من الحوافز المعنوية، والمادية – بدرجة نسبية – ما يشجعه على المضي في هذا الطريق، ليحوز ألقابا أثيرة في المجتمع مثل: الشيخ والإمام وتيرنو وسرن …

ولقد كان للطريقة التي يتم بها هذا التعليم، خاصة في مراحل التعمق والتخصص (الجامعية)، دور في النجاح الذي أحرزه؛ من ذلك مرونته وقلة كلفته (البنى التحتية، والأدوات التربوية، وغيرها)، بالإضافة إلى طابع القناعة الذي تتسم به حياة الطالب والمدرس معا، والدربة على الصبر على المشقة البدنية والمعنوية، حيث كان شعارهم المتعلق بتحصيل العلم:

له تغرب وتواضع واترع ** وجع وﻫن واعص ﻫواك تتبع

ويتم تنظيم محتويات ومقررات التعليم الأصلي حسب مراحل مرتبطة بمستوى التقدم في تحصيل واكتساب العلم والمعرفة، تبعا لمستوى الطالب وقدراته، لأن التعليم العتيق يراعي الفروق الفردية، ويشرك الطالب في اختيار الوحدات التي يدرسها (مقاربة تتحكم فيها قدرات وميول الفرد). ويغطي الدرس في التعليم العتيق جميع المستويات من مرحلة التهجي إلى مراحل التخصص والموسوعية، فضلا عن البرامج العامة التي تشترك فيها مدارسه، فلكل مدرسة برنامجها الخاص بها.

المطلب الثاني: إجراءات الانتساب إلى التعليم العتيق.

يتحكم في الانتساب إلى مدارس التعليم العتيق في إفريقيا عاملان، أحدهما: استعداد الطالب، وثانيهما: معلومات الشيخ، فإن توفر العاملان لم يبق إلا إجراءات تنظيمية تختلف باختلاف المدارس، وسهولة الوصول إليها باعتبار أن هذا العامل قد يسبب كثافة تتطلب إجراءات تنظيمية، وهذا ما نبينه في الفقرات التالية:

الفقرة الأولى: موسوعية الشيخ.

لا يتطلب الانخراط في مؤسسات التعليم العتيق في إفريقيا غالبا سوى استعداد الطالب، وثقته في علم شيخ المدرسة التي يطلب فيها العلم، وقد روى صاحب الوسيط أن النابغة الغلاوي (صاحب نظم بوطليحية) «سافر من أرض الحوض، يريد من يصحبه ليتعلم عليه، فكان كلما اجتمع بعالم وعرض عليه طلبه، يسأله العالم: أي فن تريد أن تقرأ، فلا يراجعه الكلام بعد ذلك، حتى لقي العلامة الشهير ولي الله أحمد بن العاقل الديماني، فقال له مشِّ، كلمة يقولها العالم هناك للتلميذ، إذا أمره أن يبتدئ في درسه[9]، فألقى عصا التسيار عنده، وجعل يعله من معينه الجاري، حتى تضلع منه»[10].

الفقرة الثانية: الإجراءات التنظيمية.

يبذل المشايخ في إفريقيا وقتهم وجهدهم في نشر العلم ابتغاء وجه الله تعالى، مكتفين بما ورد من الترغيب في نشر العلم من الأحاديث؛ ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»[11].

فالعلم مبذول، والطالب محور العملية التربوية، وإجراءات القبول مبسطة، ذلك أن المدارس العتيقة لا تعتمد على نظام المقاعد الدراسية، ولا تراعي في الطالب أي سن، ولا تراعي كذلك في الدراسة فترة زمنية معينة، فيمكن للطالب أن يلج تلك المؤسسة التعليمية في أي سن، وفي أي وقت حسب الجهد والإمكان.

ويلتزم الطالب بكتاب واحد حتى يكمله وذلك بعد حفظه للقرآن الكريم؛ لأنه في نظر مشايخ المحظرة يمنع قراءة أكثر من كتاب أو فن في ذات الفترة، ويكتب الطالب الدرس في اللوح، ثم يقوم بضبطه على الشيخ استعدادا لحفظه، ثم بعد ذلك يشرحه الشيخ له، على أن يقوم بعد ذلك ب «التكرار»، والمقصود به المراجعة، وهي في نظرهم مهمة جدا، وينبغي ألا تتوقف تحت أي ظرف، ولا في أي وقت، ومن هنا شاعت كلمتهم المشهورة: «من ترك التكرار لا بد أن ينسى». ويُوَزَّع الطلاب أحيانا إلى مجموعات -باختيارهم- تسمى كل مجموعة منها «الدولة»، تدرس كتابا من الكتب المعتمدة في المحظرة، وتقوم بالمراجعة الموحدة، ويتولى أحد الطلاب قراءة النص على الشيخ فقرة فقرة، أو كلمة كلمة، ويفضل أن يكون أجود المجموعة. ويشرح الشيخ الدرس باللهجة المتداولة وإذا اقتضى الأمر الاستنجاد بما يتطلب وسيلة توضيحية يلجأ الشيخ إلى التراب كوسيلة توضيح لقاعدة ما أو ترتيب صور ما، وربما لجأ إلى أحد الكتب المتخصصة لتوضيح مشكلة ما أو لمعرفة بعض الآراء والصور المتعلقة بها[12].

المبحث الثالث: سلم الدرس الفقهي المالكي في البلاد الإفريقية

نتعرض في هذا المبحث للدرس الفقهي في بلاد إفريقية، بادئين بمكانته في الترتيب، ومتحدثين عن الحكمة في هذا التأخر حيث لم يكن في المقدمة، وذلك في مطلبين نخصص أولهما: لترتيب المتون في التعليم العتيق بإفريقيا، وثانيهما: لبيان الحكمة من تأخر الفقه في الترتيب.

المطلب الأول: ترتيب المتون في التعليم العتيق في إفريقيا.

يبدأ طالب العلم عادة بالتهجي ثم بقراءة القرآن الكريم ثم بالسيرة النبوية، ويبدأ بتعلم العلوم بادئا بعلوم الآلة باعتبارها ضرورية لفهم الدرس الفقهي. وتجدر الإشارة إلى أن المسلك التربوي الذي يسلكه العلماء الأفارقة يقتضي تقسيم الفقه إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: يدرس الطالب فيها المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لابن عاشر، وقد تترسخ بدراسة الأخضري ورسالة ابن أبي زيد. والمقرر الفقهي في هذه المرحلة عام يركز على ما لا يسع المسلم جهله؛ وهو دراسة فرض العين خصوصا عند مناهزة البلوغ.

والمرحلة الثانية: من الدرس الفقهي متأخرة ومتخصصة، وتسبقها متون نذكرها حسب الترتيب التالي:

– اللغة العربية: الشعراء الست الجاهليين، النحو والصرف،

– علوم البلاغة من بديع ومعاني وبيان المنطق،

– ثم الدرس الفقهي المتخصص مختصر خليل.

المطلب الثاني: الحكمة من تأخير الدرس الفقهي.

يخصص هذا المطلب للحكمة من تأخير الدرس الفقهي، وهو راجع من جهة إلى مراعاة النضج الفكري للطالب، ومن جهة أخرى إلى الإحالات المرجعية، التي ترد في الدرس الفقهي؛ ذلك أن العلوم التي يتطرق إليها العلماء الأفارقة في شرحهم للدرس الفقهي متعددة، وعدم استيعاب الطالب لها يخل بفهمه للدرس لأنها قد تكون وسيلة لتقريره، وهو ما سنبين أمثلة منه في الفقرات التالية:

الفقرة الأولى: حضور الدرس المنطقي.

قدمنا أن المنطق من العلوم التي ينبغي أن يدرسها الطلاب قبل دراسة الفقه؛ حيث يتوقف استيعاب تقرير الأستاذ للدرس على استيعاب بعض المصطلحات، ومن أمثلة ذلك: أن الأستاذ عند شرحه لقول خليل مثلا في بيع الجزاف: (ولم يعد بلا مشقة) يقول في تقريره: هذه سالبة معدولة المحمول[13] أي جعل فيها السلب جزءا من مدخوله، وقد صرحوا بأنها لا تقتضي وجود الموضوع، وحينئذ فمنطوقها صادق بما إذا كان المبيع يعد بمشقة وبكونه لا يعد أصلا بأن كان مكيلا أو موزونا، ولو لم يكن في كيله أو وزنه مشقة.

كما أن استيعابه للدرس يتوقف كذلك على استيعابه للقضايا، ففي شرح الأستاذ لقول خليل في تعليق الطلاق: «وإن قال: إن لم أتزوج من المدينة فهي طالق فتزوج من غيرها نجز طلاقها»[14].

فإن الأستاذ عادة يستعمل مصطلحات لتقرير هذه المسألة، فيقول مثلا: «ولو (قال) الرجل (إن لم أتزوج من) أهل (المدينة) (فهي) أي التي أتزوجها من غيرها (طالق فتزوج) امرأة (من غيرها) (نجز طلاقها) بمجرد العقد سواء تزوجها قبل أن يتزوج من المدينة أو بعد؛ إذ هي قضية حملية في قوة قوله: كل امرأة أتزوجها من غير نساء المدينة طالق، وقيل: بل هي شرطية، نحو إن لم أدخل الدار فكل امرأة أتزوجها طالق.

فظاهره أنه إن تزوج قبل دخولها طلقت وإلا فلا، فكذا هنا إن تزوج قبل تزويجه من المدينة لزمه الطلاق وإلا فلا»[15].

الفقرة الثانية: حضور الدرس النحوي.

من أمثلة حضور الدرس النحوي ما يذكره الأستاذ في تقريره لقول خليل في بداية بيوع الآجال: «ومنع للتهمة ما كثر قصده»[16]، فيقول الأستاذ مقررا: «وبدأ المصنف – رحمه الله – بذكر موجب فساد هذه البيوع بطريق إجمالي فقال ومنع للتهمة ما كثر قصده، أي ومنع كل بيع جائز في الظاهر يؤدي إلى ممنوع في الباطن، لتهمة أن يكون المتبايعان قصدا بالجائز في الظاهر التوصل إلى الممنوع في الباطن، وليس ذلك في كل ما أدى إلى ممنوع، بل إنما يمنع ما أدى إلى ما كثر قصده للناس، وفي بعض النسخ قصدا فيكون الفاعل ضميرا مستترا في كثر عائدا إلى ما، وقصدا تمييز محول عن الفاعل»[17].

وعند قول خليل في استقبال القبلة: «وإلا فالأظهر جهتها اجتهادا»[18]، يقول في تقرير قوله: «(اجتهادا) تمييز محول عن الفاعل، أي ويحصل ذلك الاجتهاد، وأعربه الشارح حالا وليس بواضح قاله البساطي، وجعله بعضهم محولًا عن الخبر، أي فالأظهر الاجتهاد في الجهة، وقال أحمد الزرقاني: الأحسن كونه منصوبا بنزع الخافض أي بالاجتهاد»[19].

الفقرة الثالثة: حضور الدرس البلاغي.

يحتاج الطالب لدراسة البلاغة لاستيعاب تقرير الأستاذ لقول خليل في باب الربا: «الأجود أنقص أو أجود سكة ممتنع»[20].

يقول الأستاذ في تقرير هذا المقطع: «(أو أجود) بالرفع عطف على الأجود، أي وهو أنقص، فحذف منه لدلالة ما قبله عليه، كما حذف مما قبله جوهرية لدلالة قوله في هذا (سكة) عليه ففيه شبه احتباك[21]، والمراد أجود سكة وأنقص جوهرية ووزنا ويقابله رديء السكة، وكامل وزنا وجوهرية (ممتنع) لدوران الفضل من الجانبين»، وعند تقرير قول خليل في النفقة: «ورجعت بما أنفقت عليه غير سرف وإن معسرا كمنفق على أجنبي إلا لصلة»[22].

يقول الأستاذ: (كمنفق على أجنبي) كبير بدليل ما يذكره في الصغير بعده، فيرجع عليه بما أنفقه عليه غير سرف وإن كان الأجنبي معسرا (إلا لصلة) ففيه احتباك، حذف من هنا «غير سرف» لدلالة ما قبله عليه ومن هناك: «إلا لصلة» لدلالة هذا عليه، بناء على قاعدته الأغلبية من رجوع الاستثناء ونحوه لما بعد الكاف[23].

هذه مجرد أمثلة، ولو تتبعنا هذه الإحالات المرجعية لكلف ذلك مزيدا من الوقت.

خاتمة

تبين مما سبق ما يأتي:

  • – أن انتشار مذهب مالك في القارة الإفريقية يرجع إلى عوامل بعضها متعلق بشخصية الإمام مالك رضي الله عنه؛ فقد زكي في الأحاديث النبوية، وبعضها متعلق بالمنطلق الأول للمذهب وهو المدينة المنورة، دار الهجرة، ومستقر الصحابة والتابعين، ومظنة تواتر أركان الدين، وبعضها متعلق بالجاذبية الروحية لأئمة هذا المذهب وقواعده السهلة ووسطيته وتمسك أهله بالسنة وبعده عن البدع.
  • – أن الأفارقة قد استفادوا من اتباع هذا المذهب؛ حيث شكل وحدة تجمع أقطارا شتى، وعاشوا في جو أخوي بعيدا عن الاختلاف، وما تنتجه الخلافات المذهبية من تعصب وشقاق.
  • – الدور المتميز الذي اضطلع به المذهب المالكي في تعريب البلاد الإفريقية؛ الذي يحمل أتباع الدين على تعلم اللغة العربية لعدم جواز خطبة الجمعة ولا تكبيرة الإحرام إلا بها ولو لعاجز، فلم تقتصر اللغة العربية في مذهب مالك على وظيفة التواصل التي هي المهمة الأساسية للغة، فقد اتخذت بعدا تعبديا؛ حيث ارتبطت بها الشعائر.
  • – يأخذ الدرس الفقهي كغيره من الدروس في التعليم العتيق طريقة تربوية خاصة، تعتمد على التلقين، من جهة، كما أن الطالب فيها هو محور العملية التربوية؛ فهو الذي يقرر الكتاب الذي يدرس، ويتوجه إلى الشيخ الذي يرغب في الاستماع إليه عند تعدد المشايخ.
  • – يتم تنظيم محتويات ومقررات التعليم الأصلي حسب مراحل مرتبطة بمستوى التقدم في تحصيل واكتساب العلم والمعرفة، يتم تبعا لمستوى الطالب وقدراته، لأن التعليم العتيق يراعي الفروق الفردية ويشرك الطالب في اختيار الوحدات التي يدرسها.
  • – يبذل المشايخ في إفريقيا وقتهم وجهدهم في نشر العلم ابتغاء وجه الله تعالى، مكتفين بما ورد من الترغيب في نشر العلم، فالعلم مبذول، والطالب محور العملية التربوية، وإجراءات القبول مبسطة؛ ذلك أن المدارس العتيقة لا تعتمد على نظام المقاعد الدراسية، ولا تراعي في الطالب أي سن، ولا تراعي كذلك في الدراسة فترة زمنية معينة، فيمكن للطالب أن يلج تلك المؤسسة التعليمية في أي سن، وفي أي وقت حسب الجهد والإمكان.
  • – يبدأ الطلاب في البلاد الإفريقية بدراسة علوم الآلة، والحكمة من تأخير الدرس الفقهي، تعود من جهة إلى مراعاة النضج الفكري للطالب، ومن جهة أخرى إلى الإحالات المرجعية التي ترد في الدرس الفقهي؛ ذلك أن العلوم التي يتطرق إليها العلماء الأفارقة في شرحهم للدرس الفقهي متعددة، وعدم استيعاب الطالب لها يخل بفهمه للدرس.

الهوامش

[1] – تاريخ الجزائر العام، لعبد الرحمن بن محمد الجيلالي، ج1، ص:186، بواسطة الأستاذ محمد عز الدين الإدريسي، في مقال له تحت عنوان: «المذهب المالكي من المغرب إلى إفريقيا»، منشور في الموقع الإلكتروني لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.

[2] – ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (تـ728ﻫ)، مجموع الفتاوى، تح: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416ﻫ/1995م، 20/320.

[3] – عياض، أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (تـ544ﻫ)، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تح: ابن تاويت الطنجي وآخرون، 1965-1985م، 3/125.

[4] – ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مرجع سابق، 20/323.

[5] – القرافي، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (تـ 684ﻫ)، شرح تنقيح الفصول، تح: طه عبد الرؤوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، ط1، 1393ﻫ/1973م، ص:445.

[6] – أبو العرب، محمد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي (تـ333ﻫ)، طبقات علماء إفريقية، وكتاب طبقات علماء تونس، دار الكتاب اللبناني، بيروت-لبنان، ص:43.

[7] – البراذعي، خلف بن أبي القاسم محمد الأزدي القيرواني، أبو سعيد ابن البراذعي المالكي (تـ372ﻫ)، التهذيب في اختصار المدونة، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ط.1423ﻫ/2002م، 1/232.

[8] – أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات للشيخ عبد الله بن بية، المكتبة المكية، دار ابن حزم، :52.

[9] – فهم النابغة من هذه الكلمة التي تفيد أن العالم موسوعي وهو مستعد لشرح أي نص لعدم سؤاله عن الفن الذي يريد أن يقرأ.

[10] – الشنقيطي أحمد بن الأمين، (تـ1333ھ)، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط والكلام على تلك البلاد تحديدا وتخطيطا وعاداتهم وأخلاقهم وما يتعلق بذلك، الشركة الدولية للطباعة – مصر، ط:5، 1422ﻫ -2002م، ص93.

[11] – الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (تـ279ﻫ)، سنن الترمذي، تح: أحمد محمد شاكر وآخران، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، ط 2، 1395 ﻫ – 1975م، 3/652.

[12] -(موقع)

[13] – القضية المعدولة: هي التي يكون حرف السلب فيها جزءا من الموضوع، أو المحمول، أو منهما جميعا. معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم للسيوطي، (ص:121).

[14] – خليل بن إسحاق بن موسى، ضياء الدين الجندي المالكي المصري (تـ776ﻫ)، مختصر العلامة خليل، تح: أحمد جاد، دار الحديث القاهرة، ط:1، 1426ﻫ/2005م، (ص:115).

[15] – الدسوقي، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (تـ1230ھ)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، بدون طبعة وبدون تاريخ، (2/375).

[16] – مختصر خليل، مرجع سابق، (ص:150).

[17] – الحطاب، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، المعروف بالحطاب الرعيني المالكي (ت954ﻫ)، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، دار الفکر، ط:3، 1412ھ-1992م، (4/390).

[18] – مختصر خليل، مرجع سابق، (ص:31).

[19] – مواهب الجليل: 4/390.

[20] – مختصر خليل، مرجع سابق، (ص:146).

[21] – الاحتباك: من ألطف أنواع البديع وأبدعها؛ وقد يسمى حذف المقابل: وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول. الكليات، (ص:57).

[22] – مختصر خليل، مرجع سابق، (ص:137).

[23]– شرح الزرقاني، مرجع سابق، (4/455).

كلمات مفتاحية : ,