الثوابت الدينية وأثرها في وحدة الشعوب الإفريقية

الثوابت الدينية وأثرها في وحدة الشعوب الإفريقية

مداخلة بعنوان “الثوابت الدينية وأثرها في وحدة الشعوب الإفريقية” للأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439ه الموافق ل 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط

الأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى بالرباط
الأستاذ محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى بالرباط

أصحاب الفضيلة العلماء، سيدات العالمات الفضليات،

نحن اجتمعنا في هذه الدورة واللقاء المبارك لننظر في هذه الثوابت التي جمعت هذه الأمة الإسلامية في هذه القارة، هذه الثوابت هي قدر مشترك بين المسلمين في قارتنا العزيزة، ولذلك فعندما نتكلم عن ثوابت المغرب في شمال إفريقيا فكأننا نتكلم عن الثوابت الدينية في جنوب إفريقيا ووسطها وشرقها وغربها، أظن أن الأمر هكذا، إذ أن هذه الثوابت قدر مشترك بين المسلمين في إفريقيا، وعليها انبنى صرح الإسلام، وهي التي وحدت وجمعت كلمتهم، وهي التي كانت عاصمة لهم من كل القواصم التي قد يتعرض لها المسلمون، تلك العواصم التي تحدث عنها القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه ينبغي أيضا أن نجد من يتحدث عنها، لأن اليوم هناك قواصم تحتاج إلى قواصم، إلى التذكير بالعواصم من القواصم. هذه العواصم التي نسميها نحن بثوابت المغرب الدينية هي طبعا تبدأ بذلك المحور أو بذلك الركن الكبير التي تنضوي تحته كل تلك الاختيارات وهو السنة والجماعة. المغاربة منذ أن آمنوا بالله وبدينه وبهذا الإسلام الذي ختم الله به رسالاته، وختم بنبيه ورسوله سلسلة أنبيائه ورسله، عندما آمن المغاربة بهذا الدين وتلقوه اختيارا لا إكراها، فالمغاربة ما افتتحهم أحد بالسيف بل المغاربة انفتحوا على هذا بحبهم وفهمهم له، وارتبطوا به وتعلقوا بمبادئه وأخلاقه وشرائعه. لو أراد أحدٌ فتح المغرب والمغاربة بالسيف ما نجح أبدا، ولكن الإسلام هو الذي فتح قلوبهم وصدورهم منذ أن آمنوا به، لم يزيدوا مع الذين حملوه إلى المغرب إلا ما يشرح معانيه الكبيرة، ويقدم لهم ما هو مخزون في هذا الدين من مكارم ومن قوة محركة إذا هي مُسَّت، إذن الذي يمس هذه القوة هو العالِم بخطابه والذي يحركها، لذلك أهلنا منذ القرن الثاني للهجرة رحلوا إلى المشرق، لم ينتصف القرن الثاني للهجرة حتى بدأت أفواج الراحلين إلى المشرق من بني قومنا هنا في الغرب الإسلامي، أقصد الغرب الإسلامي ما كان معروفا في تاريخنا بشمال إفريقيا بأقطارها وبالأندلس أيضا، هذا الذي نسميه الغرب الإسلامي.

بدأ الراحلون من الأندلس ومن شمال إفريقيا إلى مهد الاسلام الأول من أجل أن يأخذوا علم هذا الدين، وعلم رسول الله الذي انتهى إلى صحابته، ثم إلى التابعين ،ثم إلى أتباع التابعين، ثم إلى الأئمة الكبار، ثم إلى مؤسسي المدارس العلمية الفقهية .لذلك رحل أهلُنا من طلاب الغرب الإسلامي إلى المشرق من أجل أن يأخذوا العلم من أهله ومن القائمين عليه، وتجولوا في ربوع الحجاز كما تجولوا في ديار الشام ،وفي أمصار العراق وتجاوزوا ذلك إلى ما وراء النهر، فكانت جولتهم جولة طويلة ،تعرفوا خلالها على الخريطة العلمية في المشرق الإسلامي، وتعرفوا على المدارس العلمية في ذلك الوقت التي عرفت نقاشا كبيرا، كانت تلك المدارس تناقش قضايا كبيرة، والإسلام جاء بأشياء جديدة ما تكلمت عنها فلسفة القدماء، ولا كانت في الملل والنحل القديمة، ولذلك كانت تعقد الجلسات من أجل المناقشة والنظر ،وتشكلت مجموعة من الفرق الكثيرة فيها المهتدي وفيها الضال. كما كانت أيضا مناقشات فقهية تولى النظر فيها أعلام الأمة في ذلك الوقت، ونظروا في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسسوا قاعدة لفهم هذا الدين وشريعته وفقهه.

أبناؤنا وطلابنا من شمال إفريقيا بعدما تجولوا في ذلك المشرق، جرهم وجذبهم الدرس الذي يلقى في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، علماء المدينة وعلى رأس علماء ذلك العصر نحن في منتصف القرن الثاني للهجرة، حيث نجد أعلاما من طبقة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وهو كان واسطة عقد علماء ذلك الوقت فحلقوا حول الإمام مالك، وأعجبهم خلقه وورعه وما عليه من سلوك جميل قوي تجلت فيه صورة الإسلام الوهاجة، كما أعجبهم علمهم وتحليلاته وفقهه، وكيف يتعامل مع مصادر هذه الشريعة، وكيف يؤسس فقهه عليها ،وكيف يمرر لب ذلك لطلابه الذين تحلقوا حوله، لذلك عندما رجع هؤلاء الطلاب إلى قومهم منذرين رجعوا وهم يحملون زاد علميا سخيا، معظمه من فقه مالك ،معظمه مدرسة مالكية، مدرسة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان عليه حملة هذا العلم من أخلاق اكتسبوها من أخلاق مالك واتصفوا بها كما اتصفوا بعلمه، أصبح لهم نفوذ وسلطة قوية، وأصبح للفقه الذي حملوه معهم تلك القوة في الأندلس. استطاع هذا الفقه المدني أن يطيح بفقه كان قد سبقهم إلى الأندلس بالخصوص وهو فقه شامي، فقه الإمام الأوزاعي الذي جاء إلى الأندلس في ركب الأمويين الذين أسسوا دولة ثانية بالأندلس، ومن جملة ما حملوه معهم فقه الأوزاعي الذي هو فقه الشام، لكن ما أن طلع نجم فقه مالك في الأندلس حتى اختفى تماما من الساحة فقه الأوزاعي فقه الشام. لابن حزم كلمة لطيفة وهي “أن مذهبين من مذاهب الفقه انتشرا بقوة السلطان، مذهب أبي حنيفة في المشرق ومذهب مالك في الأندلس” والسبب في انتشارهما بالقوة كما يقول هو أن أبا يوسف وهو من أصحاب الإمام أبي حنيفة تولى منصب قاضي القضاة ،فكان لا يولي قاضيا في دائرة سلطته إلا إذا كان خريجا من المدرسة الحنفية. قال: والناس يبحثون عن حقهم في الدنيا فلذلك أقبلوا على مذهب أبي حنيفة هناك ،أما في الغرب الإسلامي، فقال ابن حزم: سبب انتشار مذهب مالك هو أن رمز هذا المذهب في الأندلس  في ذلك الوقت هو يحيى بن يحيى الليثي المصمودي المغربي هو من شمال إفريقيا.

قال: هذا الرجل مع علمه كان مكينا عند السلطان، يعني السلطان في ذلك الوقت يصغي إلى فقه ونصح الإمام يحيى بن يحيى الليثي. فكان الليثي ذا يد طويلة في تعيين القضاة واقتراحهم، ولا يولى القضاء في الأندلس إلا من اقترحه الليثي، وكان يحيى لا يقترح إلا من كان ضليعا في الفقه المالكي فقه المدينة، والناس سُرّاعون إلى الدنيا، فأقبل الناس على دراسة الفقه المالكي من أجل الوصول إلى المناصب الكبيرة في الدنيا، هذا قول ابن حزم. ومعنى ذلك أن يحيى بن يحيى توفرت فيه شروط العالم الذي نبحث عنه اليوم، شروط العالم الذي يمكن أن تكون له سلطة ونفوذ في أمته لأن العالم وسلطته لا تملك جسد الناس، ولكن تملك قلوبهم فالعالم يملك القلوب وسلطته في قلوب الناس ووجدانهم لا على أجسادهم ،لذلك هي سلطة باقية ما بقي ذلك المخزون العلمي الذي وصل إليه، فإذا يحيى بن يحيى ما زاد في سلطته وقوته ومكانته عند السلطان في ذلك الوقت هو أنه لم يتول منصبا قط، وعُرض عليه القضاء فرفضه، قال ابن حزم: فذلك مما زاده تمكنا وزاد ثقته ثقة عند الناس. فإذن الزهد فيما يسعى الناس الوصول إليه، الزهد في منافسة الناس فيما يتنافسون فيه من شؤون الدنيا هو الذي يكسب العالِم تلك القوة وتلك السلطة، فإذا ابتلي العالم بما يقلل من إشعاعه وهبته ولا أضر للعالم من هبته وإشعاعه وسلطته من طمع. ولذلك قالوا ما بسقت شجرة ذل إلا على بذرة طمع.

إذا بالنسبة للمغرب والمغاربة وشمال إفريقيا كان الثابت الأول الذي اختاروه الأول هو هذا الفقه، فكان هو الثابت الأول بالنسبة للفقه، أما هو فيأتي بالدرجة الثانية بعد الإمامة العظمى بالنسبة للمغرب، إذ الإمامة العظمى لقومنا هنا في المملكة المغربية هي ثابت من ثوابت هذه الأمة. وولد التمذهب الفقهي بفقه المدينة بعد ظهور إمارة المؤمنين في المغرب إذ أول أمير للمؤمنين في المغرب فيما يقول التاريخ هو المولى إدريس الأول، وبعده المولى إدريس الثاني. ففي إمارة المؤمنين الإدريسية بدأ مذهب مالك في المغرب، إذن هو ولد في أحضان إمارة المؤمنين في المغرب فكان الثابت الأول إمارة المؤمنين، والثابت الثاني هو فقه مالك. طبعا المذهب الجامع الكبير هو مذهب أهل السنة والجماعة كل ذلك ينضوي تحت لواء السنة والجماعة.

أما الثابت العقدي والثابت الصوفي التزكوي فقد تأخر مجيئهما بوصفهما عنصرين أيضا في هذه المنظومة، وإن كان المغاربة على عقيدة قبل مجيء الأشاعرة، عقيدة أهل السنة والجماعة والتي يمثلها أشهرهم هو الإمام ابن أبي زيد القيرواني ،تجدون ذلك في رسالته، فعقيدته هي عقيدة السنة والجماعة، أما العقيدة الأشعرية فقد تأخرت قليلا، إذ وفدت مع وفادة دولة الموحدين في المغرب، إذ في هذا العهد بدأ علماء المغرب يتحدثون عن الأشعرية، وطبعا الموحدون عندما كانوا يهيئون للانقلاب على المرابطين كانوا يسمونهم بأنهم ليسوا على عقيدة صحيحة ،كانوا يسمونهم بالمجسمين فلذلك وجدوا الطريق للإطاحة بهم عن طريق الطعن في المذهب.

في هذا الوقت بدأت الأشعرية تظهر وتتحرك وأصبح لها حضور وظهور وسلطة ونفوذ وبدأ هذا الثابت يشتغل أيضا.

أما ثابت التصوف، فالتصوف قديم في وجداننا وفي تاريخنا وتديننا وفي شعورنا فهو قديم. لكنه لم ينظم تنظيما دقيقا فيما يبدو إلا في عصر متأخر بعض الشيء ،ربما في عصر المرينيين بدأت طلائع التنظيم، ومعنا علماء متخصصون يعرفون متى بدأ هذا التنظيم… ولكن متى أصبح ثابتا من الثوابت، إن التصوف مر بمراحل كثيرة تولاه مصلحون كثر، وتدخلوا في كثير من الأوقات من أجل إعادته إلى وهجه ووجهته الصحيحة .ربما التصوف تألق نجمه خلال الدولة المرينية والوطاسية، وبزغ في عهد السعديين بقوة، وتجلت سلطته وقوته في معركة وادي المخازن التي قام فيها التصوف بوظيفة رائدة في حشد الناس، وتعبئة وجدان الأمة من أجل التصدي للعدوان الخارجي. القاضي عياض رحمه الله في كتابه الغُنية يتحدث عن أصل السبحة، ومتى بدأت، وأتى بسند لهذه السبحة عن شيخه علي بن المشرف ،وهو من محدثي مصر الكبار، ثم عن شيخه المشرف سمع من أحد شيوخه أبي إسحاق الحبان، وهذا الأخير سمع من شيخه أبي علي بن المرتفق الذي سمع من الشيخ أبي عمرو بن علوان، قال سمعت شيخي هذا الصوفي، هذا ابن المرتفق سماه الصوفي، وفي ذلك الوقت ظهر هذا الوصف، قال: هذا الحبان ،رآه أحد تلامذته وهو يحمل السبحة، فقال له أنت مع قوة منطقك وإشعاعك وأنت مع هذه السبحة؟ فقال له أبو عمرو بن علوان: هذا السؤال نفسه طرحته على شيخي وقد رأيت في يده سبحة، قلت له: من هو شيخك؟ قال: هو شيخ التصوف هو الجنيد بن محمد، وقد رأيت في يده سبحة، فسألته عما سألتني عنه، فقال لي: أنا رأيت هذه السبحة في يد شيخي أحد شيوخه، فسألته عما سألتني، فقال لي: هذا السؤال طرحته على شيخي عامر بن شعيب، هذا الشعبي، الشعبي أيضا كانت عنده السبحة، فسأله تلامذته: ما قصة هذه السبحة؟ فقال هذا السؤال طرحته على شيخي الحسن بن أبي الحسن (الحسن البصري)، قال: فسألته عنه فقال لي: يا بني هذا شيء استعملناه في البدايات، ما كان ينبغي أن نتخلى عنه في النهايات، فأنا أحب أن أذكر الله تعالى بقلبي ولساني ويدي. هذا سند السبحة عند القاضي عياض، والسبحة طبعا هي رفيق العباد والزهاد، هي العصا التي يتوكؤون عليها دائما في مجالسهم.

إذا فالتصوف قديم في نفوسنا وفي أعماقنا ومشاعرنا، ولكنه دخل مرحلة التنظيم ومرحلة المشيخة ومرحلة المريدين والأتباع والزوايا… إلخ، ويتألق نجم هذا الثابت لا سيما عندما يضعف دور الدولة في حماية الكيان، فيتصدى ذلك شيوخ التصوف يعبئون الناس ويحشدونهم لمواجهة العدوان ولتقوية صفوف الأمة ووحدتها. فإذن بالنسبة لنا نحن المغاربة تجربتنا مع ثوابتنا أثبتت أنها هي سفينة نجاة المغرب، وهي طوق نجاته وهي قوته لمواجهة العدوان. لذلك هذه الثوابت حاضرة ولا تزال حاضرة محمية بالإمامة العظمى، ومن سعادة المغرب والمغاربة أنهم حافظوا وتمسكوا بهذا الثابت القوي، ثابت إمارة المؤمنين الذي يرتبط دائما هذا اللقب العظيم الجليل بحماية الملة والدين، عندما نقول أمير المؤمنين نردف وحامي الملة والدين، فلذلك فهو حامي هذه الثوابت. وقديما قالوا “الدين والدولة شقيقان”، الدين أصل والدولة حارسه، فما لا أصل له مهدوم، وما لا حارس له ضائع. فلذلك لا يمكن الفصل في ديننا وشريعتنا بين الدولة والدين، بين الدين والدنيا، وإن كان من له اختيار في ذلك، ولكنه اختيار خاطئ بكل تأكيد، أما الاختيار السليم القوي هو اختيارنا بعدم الفصل بين الدولة والدين.

لذلك فإن هذه الاختيارات -اختياراتنا- ضمت قوتين عظيمتين، قوة الإيمان وقوة السلطة، في ثوابتنا: إمارة المؤمنين وفقه مدني مالكي وعقيدة أشعرية وتصوف سني جنيدي، كل عنصر من هذه العناصر يملك سلطة وقوة لا تضاهى، ولذلك تم توزيع المهام بين هذه المكونات لهذه المنظومة، للتصوف دائرته التي يشتغل فيها تعبئة، وللفقه دائرته التي يشتغل فيها، وللعقيدة أيضا دائرتها التي تشتغل فيها، والسلطان يحمي كل هذه المكونات.

إذن تجربة المغرب مع هذه الثوابت تجربة ناجحة بكل الشهادات، الكل يشهد بذلك. والمغاربة راضون على ثوابتهم هذه، ومتمسكون بها أشد ما يكون التمسك. وهذه الثوابت نفسها لو سألتها ونطقت لقالت: أنا راضية كذلك عن أهلي في هذه الديار الذين تمسكوا وتعلقوا وحافظوا عليها.

هذه هي الثوابت الدينية، وهذه هي تجربتنا، وهذه هي قوتها، لذلك نحن نعتبرها عواصم من كل مكروه تتعرض له الأمة، فالمغاربة يعضون على هذه الثوابت بالنواجذ، ولا يقبلون أية مساومة عليها، وكم حاول بعضُهم أن يزيح هذه السنة من خريطة شمال إفريقيا فما استطاع، لأن عين السنة مفتوحة وسلطتها قوية في القلوب والوجدان والمشاعر. حاول بعض المتوسعين في المذهبية منذ النصف الأول من القرن الخامس الهجري في أحد ثغور السنة في المغرب الأدنى حيث استطاع مذهب يختلف مع السنة في الأصول والفروع، حاول أن يجد له مكانا هناك، واستطاع أحد المهديين الذين أسسوا الشيعة عبيد الله المهدي بدعم من بعض القبائل المغربية أن يجد هناك مكانا في القيروان وفي إفريقية )تونس( ،ولكن عين السنة كانت ترعى السنة، فقد تولت تربية أحد الأمراء الذين سيتولون الحكم من أمراء صنهاجة، وهو المعز بن باديس الصنهاجي الذي تربى تحت حكم الشيعة في القيروان، ولكن الذي رباه هو وزيره أبو علي بن أبي الرجال على السنة والجماعة، وحبب إليه الولاء لها، والانتصار لها وأطلعه على عيوب الشيعة وقبائحها، وكره له التشيع. فلما وصل إلى مقاليد الحكم كان أول ما فعله هو محو المذهب الشيعي من شمال إفريقيا عام 404 للهجرة. هذا المعز بن باديس السني الذي كان يُربّى من أجل أن يكون نصيرا للتشيع لكن سنيا مخلصا عالما هو ابن أبي الرجال استطاع أن يحوله. هذا عالم سني مالكي تشبع بروح سنيته، وباتجاهه السني العميق اشتغل حتى في ظروف صعبة، فاشتغل لنصرة السنة حتى وهو في قبضة الشيعة وتحكمهم، ولذلك قام بانقلاب هادئ ضد التشيع لذلك محي التشيع من شمال إفريقيا.

فإذن عندما يكون العالم عالما يتمثل مبادئ علمه، متصفا بخلقية علمه، فإنه يشتغل كيفما كانت الظروف المحيطة به من أجل نصرة ما يعتقده ونصرة دين الله الحق، إذن السنة قامت بدورها في حماية وجودها في شمال إفريقيا.

وثابت إمارة المؤمنين لا يمكن أن نتحدث عن الدور الذي قام به ملوكنا وأمراؤنا في هذا البلد، وكيف حافظوا على وحدة هذه الأمة، وكيف تعلقت بهم الجماهير لحمايتهم وحماية كيان هذه الأمة ووجودها الديني والدنيوي وبقائها كذلك دولة رغم تعرضها لانتهاك سيادة استقلالها.

إن دور أمراء المؤمنين ثابت وهو دور عظيم، ولعل من أجل ما يذكر هنا ما يفعله ولي أمرنا في تجديد هيكلة المؤسسة العلمية ومؤسسات أخرى، وهذا الصرح الذي نجتمع فيه الآن جاء نتيجة لهذه الصحوة الدينية التي يعيشها المغرب وهذا دليل على أن إمارة المؤمنين تشتغل وتواصل الاشتغال، ولذلك فالمغاربة متعلقون بها. في فترة من التاريخ وفي وهج الاستعمار وقوته وتسلطه وطغيانه، بدأ يشتغل كما وكأنه هو الذي يملك كل شيء، في حين أن رمز الأمة في هذا الوقت هو محمد الخامس طيب الله ثراه، كل شيء يمكن أن يخضع للسياسة وللمناقشة ولكن عندما يتعلق الأمر بقضية تتعلق بعقيدة المؤمن ودينه، فإن أمير المؤمنين لا يمكن أن يوافق عليها أبدا. لذلك عندما تطرف الاستعمار في عدوانيته ثار محمد الخامس ثورة ملك وغضبة ملك، إمارة المؤمنين غضبت، وعندما غضب أمير المؤمنين غضب الشعب كله، وغضبت الأمة كلها وعندئذ قامت ثورة في المغرب في جباله وسهوله، وفي مدنه وفي قراه، وفي شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، لأن أمير المؤمنين غاضب:

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ      في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا

إن المغاربة لا يسألون إمامهم لماذا غضب؟ ولماذا يفعل هذا وذاك؟ يعني أنهم يعلمون أن كل ما يفعله أمير المؤمنين هو صواب. إذن هذا ثابت، عندما غضب الإمام، وغضب الشعب رضخ الاستعمار، واعترف بحق المغرب واستقلاله. هذه غضبة واحدة، وتخلى الملك عن العرش قائلا إني لا أجلس على عرش لا تحترم فيه حرمات الوطن.

أما دور ثابت التصوف فهو دور جليل، لأن ما قام به رواد التصوف المصلحون الكبار الذين كانوا يواكبون رحلة التصوف في هذه الديار ويراقبون حركتها، عندما يحسون أن هناك خللا في الفهم الصحيح أو في التخلي عن بعض مقومات هذا التصوف السني العلمي، فإنهم أيضا يتدخلون، فهؤلاء هم من نقول عنهم: إنهم المحتسبون للمتصوفة والفقهاء، والمحتسب للتصوف لابد أن يكون فقيها عالما كي يكون متصوفا كبيرا راسخا. وربما كان الشيخ أحمد زروق أحد هؤلاء المصلحين الكبار في شمال المغرب، وأيضا الشيخ الجزولي في جنوب المغرب قام بدور الإصلاح وإصلاح التصوف. والمقصود بإصلاح التصوف هو أن يكون العمل في المدرسة الصوفية فيه لقاء بين العلم والوجدان وبين التربية، لابد من علم الحقيقة ومن علم الطريقة، ولذلك كان العلماء يتدخلون من أجل ذلك الإصلاح.

لا شك أن الحديث عن كل ثابت من هذه الثوابت يحتاج إلى جلسة خاصة من أجل استعراض كل ما يتعلق به، وهذه فقط إطلالة أفقية على ثوابت أهل المغرب وهي ثوابت مشتركة بين علماء إفريقيا جميعا، سواء كانوا في شمال إفريقيا أو جنوبها أو وسطها، أو شرقها.

أتمنى لإخواني علماء إفريقيا وأعضاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة إقامة سعيدة، ونظرة سديدة في الموضوعات التي سيناقشونها والتي سيدققون النظر فيها بدون شك، ولا بد من تلك الوثائق التي طلب السيد الوزير أن تنتجها هذه المؤسسة العلمية المولوية التي يرأسها أمير المؤمنين، والتي يجب أن تكون جزءا من الصحوة التي تسعى إليها إفريقيا اليوم، إفريقيا الآن وهي على مشارف الإكراهات الكثيرة، إفريقيا الآن هي على مشارف صحوة ونهضة، إفريقيا تريد أن تقول اليوم: أنا ها هنا، أنا موجودة، وتتكلم بلغاتها مع زملائها من رجالات القارات الأخرى، وعندها الشيء الكثير مما يمكن أن تساعد وتساهم في تحقيق الأمن والاستقرار والرفاهية لإفريقيا أولا، وللإنسانية كلها بصفة عامة.

أقول قولي هذا والحمد لله رب العالمين.

كلمات مفتاحية :