التعليم العتيق في إفريقيا: أسس الإصلاح ورهانات تعزيز دوره في بناء الإنسان الإفريقي

التعليم العتيق في إفريقيا: أسس الإصلاح ورهانات تعزيز دوره في بناء الإنسان الإفريقي

برنامج التعليم الديني الإفريقي: رؤية إصلاحية لتأهيل التعليم العتيق وتعزيز دوره في بناء الإنسان الإفريقي
برنامج التعليم الديني الإفريقي: رؤية إصلاحية لتأهيل التعليم العتيق وتعزيز دوره في بناء الإنسان الإفريقي

يعد التعليم العتيق في إفريقيا أحد أعمدة البناء الديني والثقافي بالقارة، إذ ارتبط تاريخيا بالزوايا والخلاوي والكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة، التي اضطلعت بأدوار مركزية في تحفيظ القرآن الكريم، وتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية، وترسيخ قيم الإسلام السمحة، وبناء الهوية الدينية للمجتمعات الإفريقية. وقد أسهم هذا التعليم، عبر قرون طويلة، في تخريج العلماء والقراء والمصلحين، وكان رافعة أساسية للاستقرار الروحي والاجتماعي، وعنصرا فاعلا في نقل المعرفة الدينية وضمان استمراريتها في سياقات ثقافية واجتماعية متعددة.

غير أن التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات الإفريقية في العقود الأخيرة، وما يرافقها من تحديات تربوية واقتصادية ومؤسساتية، أفرزت واقعا جديدا كشف عن محدودية النموذج التقليدي للتعليم العتيق في الاستجابة لمتطلبات العصر. فقد أبان هذا الواقع عن اختلالات مرتبطة بضعف التأطير المؤسسي، ومحدودية التكوين البيداغوجي للموارد البشرية، وهشاشة البنية التحتية، وغياب التنسيق المنتظم مع القطاعات الرسمية المكلفة بالتعليم والشؤون الدينية، إضافة إلى عدم استقرار مصادر التمويل. وهو ما أثر سلبا على جودة التعليم وعلى قدرة عدد من المؤسسات العتيقة على الاستمرار والاضطلاع بأدوارها التربوية والروحية.

وانطلاقا من هذا التشخيص، جاء برنامج التعليم الديني الإفريقي الذي تقترحه مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة كمشروع إصلاحي متكامل، يقوم على رؤية تربوية شمولية تستند إلى الثوابت الدينية المشتركة، وتزاوج بين أصالة التعليم العتيق ومتطلبات العصر، مع الاستفادة من التجربة المغربية الرائدة في هذا المجال. ويهدف هذا البرنامج إلى تكوين إنسان إفريقي متوازن، راسخ في القيم الدينية، منفتح على محيطه الإنساني والحضاري، قادر على التفاعل الإيجابي مع مجتمعه، ومؤهل للإسهام في التنمية الروحية والاجتماعية في إطار الوسطية والاعتدال.

ويتميز هذا البرنامج بتركيزه الواضح على منطق التنزيل العملي، من خلال إرساء هندسة تنظيمية دقيقة للتعليم العتيق الإفريقي على مستوى فروع المؤسسة. إذ يعتمد أطوارا تعليمية متدرجة تشمل التعليم الأولي، والابتدائي، والإعدادي، والثانوي، ثم التعليم النهائي، مع تحديد مدة الدراسة في كل طور، وضبط البرامج والمقررات وطرق التقويم والشهادات الممنوحة، وذلك وفق نصوص تنظيمية تصدر عن المؤسسة، مع مراعاة القوانين والأنظمة المعمول بها في كل بلد فرع.

كما يحدد البرنامج بوضوح الفضاءات المخصصة لتدريس التعليم العتيق، حيث يلقن التعليم الأولي في الكتاتيب القرآنية، وتدرس المستويات الابتدائية والإعدادية والثانوية في المدارس العتيقة، بينما يحتضن التعليم النهائي مؤسسات التعليم العتيق العليا، بما فيها الجوامع. ويتيح البرنامج، كلما سمحت القوانين الوطنية المعمول بها، إدماج مواد من التعليم العمومي، خاصة في مجالات اللغات والرياضيات، بما يعزز التكامل المعرفي، ويفتح آفاقا أوسع أمام المتعلمين، دون الإخلال بخصوصية التعليم العتيق وهويته.

ويولي البرنامج أهمية خاصة لمسألة الحكامة والتأطير، حيث يخضع التعليم العتيق الإفريقي لمراقبة تربوية وإدارية منتظمة من طرف المؤسسة، تشمل التحقق من احترام المناهج والبرامج المعتمدة، ومراقبة شروط التأطير والتجهيز والصحة الوقائية، وفحص الوثائق الإدارية والتربوية. كما يمكن إحداث في كل فرع من فروع المؤسسة جهاز محلي مكلف بتدبير شؤون التعليم العتيق، يتولى تتبع أوضاع المؤسسات التعليمية، واقتراح التدابير الكفيلة بتطويرها، وضمان حسن تنزيل توجيهات الأمانة العامة للمؤسسة، والتنسيق مع الجهات المختصة في البلد المعني عند الاقتضاء.

ويعد تأهيل الموارد البشرية أحد المرتكزات الأساسية لهذا التنزيل، حيث تلتزم المؤسسة بتنظيم حلقات دراسية ودورات تكوين أساسي ومستمر لفائدة المدرسين والمشرفين والعاملين في مؤسسات التعليم العتيق، بهدف الرفع من كفاءاتهم العلمية والبيداغوجية، وتوحيد مناهج الاشتغال، وتحسين جودة الأداء التربوي، بما يضمن تحقيق الأهداف التربوية والروحية للبرنامج.

وخلاصة القول، فإن برنامج التعليم الديني الإفريقي، في بعديه التصوري والتنزيلي، يشكل مشروعا استراتيجيا متكاملا يروم إعادة الاعتبار للتعليم العتيق، وتحديث آلياته، وضمان اندماجه الوظيفي في محيطه المجتمعي، وتعزيز دوره في ترسيخ الأمن الروحي والقيم الحضارية داخل القارة الإفريقية. ويأتي هذا المشروع في انسجام تام مع التوجيهات السامية لمولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، رئيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، بما يجعل من التعليم الديني رافعة أساسية لبناء الإنسان الإفريقي المتوازن ولمواكبة رهانات الاستقرار والتنمية المستدامة.

كلمات مفتاحية : , ,