الأفق الجمالي الروحي وإسهامه في ترسيخ الثوابت الدينية المغربية: معالم ومقترحات

الأفق الجمالي الروحي وإسهامه في ترسيخ الثوابت الدينية المغربية: معالم ومقترحات

ذ. محمد التهامي الحراق نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث
ذ. محمد التهامي الحراق نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

تسعَى هذه الدارسة إلى التعريف بأسس وتجليات الأفق الجمالي الروحي، مثلما تروم إبراز الوظائف النفيسة لهذا الأفق الجمالي الروحي في ترسيخ ثوابت تدين أهل المغرب عقيدةً وفقهًا وتزكية وثقافة، ومدى إسهامه في التلحيم الروحي للأمّة المغربية وتقوية وحدتها الوجدانية والرمزية، مما يفسّر رعايةَ علماءِ المغرب وصلحائه وزواياه ومجتمعِه لهذا الأفق؛ مثلما يفسر العنايةَ السامية لمؤسسة إمارة المومنين بالمظاهر الجمالية الروحية المغربية على أكثر من مستوى؛ لتنتهي الدراسةُ بتقديم مقترحاتٍ عملية للحفاظ على هذه الجماليات الروحية، وإعادة تثمير وظائفها في السياق المعاصر.

ولكي تنجز هذه الدراسةُ منهجيا وعودها سنحاول بدءا تحديدَ مقصودنا من الأفق الجمالي الروحي، لنقدم في لحظة ثانية بعض الإضاءات المبرِزَة لأهمية هذا الأفق في ترسيخ الثوابت الدينية المغربية، مع الوقوف على نماذج من ذلك في أبواب الاعتقاد والفقه والسلوك وإمارة المومنين، قبل الانتهاء إلى تقديم مقترحات لتجديد تثمير هذا الأفق في السياق المغربي والعالمي الراهن.

1- الأفق الجمالي الروحي: الأسس والتجليات

نشير ب «الأفق الجمالي الروحي» إلى الوجه الجمالي المعرفي والذوقي والفني الذي بلورَته التجاربُ الصوفية في اشتغالها على مرتبةِ الإحسانِ في الدّين. إنه الأفقُ الذي صاغه العارفون بخصوصيةِ المَرَاقي الذوقيةِ والمعارجِ الروحية التي بلغُوها؛ واستطاعوا أن يكشفوا عن بعض أبعادها في مُنْتَجاتهم العرفانية؛ فهمًا للقرآن الكريم، واستبطانًا لأسرارهِ المتحققةِ في سيرةِ «القرآن الحيِّ» و»الأسوة الحسنة» و»الإنسانِ الكامل» نبينا الكريم، وسلوكًا وتسليكا بهذه القيمِ الوحيانية الجمالية في الحس والمعنى، في الخَلق والخُلق، في الظاهر والباطِن، في الحُسن والإحسان. إنه كذلك أفقٌ تتواشج فيه الروحانية بالجمال بما يجعله قابِلا لِفتوحٍ متجددة لذاك الفهم وتلك الأسرار.

ونقف، هنا، عند أعتابِ هذا الأفق الرحب؛ حيثُ لا نزعم الإحاطةَ بمقوماته وأبعاده ووظائفه في شموليتها الجامعة المانعة، بقدر ما نطلبُ استجلاءَ بعضِ معالم هذا الأفق، والتنبيهَ على نفاسَة «أسُسهِ»، وعظيم شأو «تجلياتهِ»، والإشارةَ إلى بعضِ علامات احتياجنا الملحاحِ إلى وظائفه في مرحلتنا التاريخية الراهنة.

أ- أسس الأفق الجمالي الروحي

يَتشيّد الأفقُ الجمالي الروحي على أسسٍ شتى، نُلمِح منها إلى ثلاثة رئيسة باختصار واقتضاب؛ فهو ينبني على الجمعِ بين جمال الحسّ وجمال المعنى؛ وعلى علاقة بين عبد وربه قوامُها المحبة؛ وعلى إثمارِ معنى وجودي يُغذي عطشا أنطولوجيا للمعنى.

  • – الأساس الأول:

معنى كونِ هذا الأفق يتأسس على الجمع بين جمال الحس وجمال المعنى، وهو الأساس الأول، أنه يشج بين جمالِ الظاهر وجمالِ الباطن، بين جمال المظهر وجمال الجوهر،  بين جمال المقال وجمال الحال؛ أو قل إنه يُواشِج ويُوالِج بين ما هو جمال مادي ولا مادي، جسدي وروحي، شَهادي وغَيْبِي؛ وبالتالي تنفصلُ هذه الجمالية عن نوعين من الجماليات؛ تنفصِلُ، من جهة أولى، عن الجماليةِ الاستهلاكية المادية الدهرانية، وهي جمالية مادية تُسلّعُ الإنسانَ، وتوثِّنُ الربحَ، ولا تعبأ بغيرِ قيَمِ السوق في التعاطِي مع الاجتماع والحياة والمعنى، كما أنها جمالية دهرانية «تُقدِّس» المُحايثةَ، وتُخاصِمُ الغيب، وتنقطعُ عن التعالي، وتُعادِي المُطْلق، ولا ترى تحقُّقها إلا في نفيه ونسفه وخرق قيَمِه؛ بل تشرِط  تحرُّر الإنسانِ بتجفيف الكون من كل معنى للألوهية، ومحوِ كل أثر للقداسة المتعالية. وتنفصل الجمالية الروحانية، من جهة ثانية، عن نوع آخر من الجماليات، إنها الجمالية الزهدية التقشفية الأُخروية؛ تلكَ التي ترى أن «جمالية الآخِرة» تُناقِضُ «جماليةَ الأُولى»، وتُظهِر في سبيل ذلك «زُهْدًا» مغاليا في النِّعم، ونفورا من كل مظاهر الجمالِ الحسِّي والظاهري؛ حتى لو كان أخذاً بالطيباتِ من الرزق وبضروراتِ الحياة الطبيعية في وجهها الملموس والمحسوس والمادي البراني. إن هذا النوع الثاني يحتقرُ كلَّ نِعَم الحياة أو يمُجُّها طلبا لجمالية أُخروية، ونعيمٍ موعود؛ في حين أن الأفقَ الجمالي الروحي، وفي انفصالِه عن تطرُّف الجماليتين الاستهلاكية والأُخروية، يتأسّس على الجدل التكاملي بين الدنيا والآخرة، بين الظاهر والباطن، بين الجواني والبراني، بينَ حياةِ الدينِ ودينِ الحياة؛ ذاك الذي جسده  كمالُ الجمالِ المحمدي[1]؛ والذي وصفه شرف الدين البوصيري، ببهاء، في «همزيته» لما قال:

سُتِرَ الحسنُ منهُ بالحُسْنِ فاعْجَبْ — لجمالٍ لهُ الجمالُ وقاءُ[2]

وهذا الجدل التكاملي بين الحس والمعنى واحد من الأسس الناظمة والموجِّهة لرؤى الأفق الجمالي الروحي كما سنرى في آتي هذه الدراسة بحول الله.

  • – الأساس الثاني:

الأساس الثاني لهذا الأفق أنه يقوم على اعتبار العلاقة بين الخالق والمخلوق قائمةً على المحبة، ولا تحتجبُ بالخوفِ من الجحيم أو بالطمعِ في النعيم عن طلب كمالِ المحبة في الصلة بالله؛ علاقة تتأسس على كون الله «جميلا» فلا بد أن يُعْبَدَ بجمال، ويتجلّى هذا الجمال في عبادته لكونه أهْلا للعبادة كما قالت رابعة العدوية (ت180ﻫ)، مشيرةً إلى أن الحبّ الذي هو «حبّ الهوى»، ومدارُه الذكر، ليس سوى مرقًى للحب الذي يستأهلُه المحبوب؛ والذي ثمرتُه كشف الحجب عن تجليات جمالِ المحبوب؛ تقول:

أُحِبُّكَ حبَّيْنِ حبَّ الهَوى
فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ
  وحبًّا لأنّكَ أهلٌ لذاكَ
فشُغلِي بذكرِكَ عمَّنْ سواكَ
فكشْفُك لِي الحجبَ حتَّى أراكَ[3]

ويزداد جلاءً هذا المذهبُ في الحب الإلهي في أبيات اشتهرت أيضا بنسبتها لرابعة العدوية، ومطلعها دال في سياقنا:

نقرأ فيها:

كُلُّهُمْ يعبدونَ مِنْ خوفِ نارٍ
أو بِأنْ يسكنُوا الجنانَ فيضحَوا
ليسَ لي في الجنانِ والنار رأيٌ
  ويرونَ النجاةَ حظاً جَزِيلاً
في رياضٍ ويَشرَبُوا السَّلسبِيلا
أنا لا أبتغِي بِحِبِّي بَدِيلا[4]

ومن ثم، فأهل هذا الأفق لا يقفون عند مرتبة العبد الأجير الذي إنْ أُعطي عمل وإن لم يُعطَ لم يعمل، فهذه عندهم عبادةُ نوالٍ لا عبادةُ جمال؛ و»كلّ حبٍّ معهُ طلبٌ لا يُعَوَّل عليه» كما يقول محيي الدين بن العربي[5]؛ و»المحبةُ التي تكون على الحروف والحظوظ ليست محبة، وإنما مصانعة لقضاء الحاجة» حسب أحمد بن عجيبة[6]، فيما المحبة ما سُمِّيت محبة عند القوم إلا لأنها «تمحو من القلب ما سوى المحبوب» كما قال الشبلي[7]. يؤكد هذا المنحى محمد الحراق حين يكتب: «العبد الحقيقي هو الذي يعبد الله لا هروبا من النار ولا طمعا في الجنة، بل قياما بأوصاف العبودية وإذعانا لأحكام الربوبية، وإلى ذلك يشير في «الحِكَم» بقوله: «من عبد الله خوفا من ناره أو طمعا في جنته فما قام بحق أوصافه»؛ قلت: يشير لهذا المعنى قوله سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (سورة الحج، الآية11)»[8]. بهذه المثابة، يخرجنا الأفق الجمالي الروحي مما سماه عبد النّور بيدار «إسلام الخضوع»[9]، أو ما نعته عبد الجبار الرفاعي ب»لاهوت الاسترقاق»[10]، إلى نسُك آخر هو «إسلام المحبة» و»لاهوت المحبة»، وهو ما يشكل المَعْلم الثاني الناظم والموجّه لهذا الأفق.

  • – الأساس الثالث:

الأساس الثالث للأفق الجمالي الروحاني هو كونه يثمر بمَظاهره الجمالية، سواء منها المعرفية أو الأخلاقية أو الإبداعية؛ معنًى وجوديا يُروي عَطش الأرواح للمعنى، ويجعل الإنسان يستشعر جدوائية انطولوجية من وجوده هنا والآن. ومعنى هذا الأساس أن الأفق الجمالي الروحي لا يكتفي بتحقيق مُتَع لحظية عابرة فانية زائلة، وإن كان يحتفِي بفطرة الميل إلى الجمال في النفوس، سواء أكان ميلا إلى الجمال الخُلُقي المعنوي؛ إذ النفوس مجبولة على حب الفضائل والانشراح للإحسان إليها، أم كان ميلا إلى الجمال الخِلقي الحسي المرتبط بإنعاش النفس عبر مظاهر الجمال الحسية التي تبتهج لها الجوارح من طيب مأكل ومشرب ومنكح، ورائحة منعشة، ولباس أنيق، ومحيط بهي، وطبيعة  مبهجة، وأصواتٍ مطربة… وهو جمال مثمِر لدَفَق حب الحياة والإقبال على السعي السعيد فيها وبها إلى الله، كما السعي بالله وفي الله إلى التنعم بآلائها ولذائذها في الحس والمعنى. إن هذا الأساس يجْعَل من اللذائذ الحسية والمادية والجسدية نعيمًا يقود إلى نعيم آخر؛ نعيمًا حسيا يبهج الحياة، لكنه ينعش، في نفس الآن، نعيما معنويا قوامُه استشعار المؤمن لمعناه في الوجود. وبهذا تكونُ قيمُ الآخرة خادمةً للحياة الطيبة والسعيدة في الدنيا؛ وتكونُ سعادةُ الدنيا، حسّا ومعنى، طريقا للتقرب إلى الله[11]، وسبيلا للظفر بالزيادة، لا الحُسنى فقط، في الآخرة. وهذا ما يدفعُ عن أهلِ هذا الأفق كلَّ عدمية دينية تطلبُ الآخرةَ على حساب الدنيا، وكلّ عدمية لا دينية تطلبُ الدنيا على حساب الآخرة.

ب- تجليات الأفق الجمالي الروحي

هذه، إذن، أسسٌ ثلاثة نكتفي بها لبيانِ بعض معالمِ الأفق الجمالي الروحي الذي نشير إليه[12]. ويلزمُنا هنا، لمزيد إضاءة وإنارةٍ لهذه المعالم، أن نقف عند بعض تجليات هذا الأفق، وهي تجليات معرفية وأخلاقية وإبداعية، مع ضرورة التأكيد على أن هذا التقسيم إجرائي ليس إلا، لكون مظاهر هذه التجليات متوالجةً متواشجة يتعالق كل واحد منها بالآخر، يمدُّه ويستمدُّ منه، ينيره ويستنير به، وكلُّ فصل أو عزل لأحدها عن الآخر لا محالة مُفْضٍ إلى سوء فهم للأفق الجمالي الروحاني طبيعةً ووظائف.

  • – التجلي المعرفي:

يظهر هذا التجلي فيما أنتجه أهلُ هذا الأفق من عرفان؛ أي من معارف هي نتاجُ تجارب ذوقية ومسارات في المجاهدة والرياضة الروحانيتين، ومن إشراقات لمعارج في الترقّي ما تفتأ تطلب معرفة المطلَق وتستزيدُ من بحر كلماته الربانية التي لا تنفد؛ ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ (الكهف، الآية 104). لقد أثمرت تجاربُ القوم وخبراتُهم الروحية وأسفارهم الذوقيةُ معارفَ أسست لهذا الأفق؛ معارف تؤكد على الرؤية الجمالية للوجود، باعتباره مرآة لأسماء الله الحسنى، وفي طليعة هذا الوجود الإنسانُ ذاتُه بوصفه سرَّ الوجود ومبتدأ العالم ومنتهاه، يقول محيي الدين بن العربي في رسالته «تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان»: «.. فاعلم أن الإنسانَ سرُّ الوجود وروحه ومعناه، وهو البداية والنهاية، فهو المقصد الأقصى والعَمَد (الذي لا يُرى)، الممسوك لأجله السمواتُ العلى أن تقع على الأرض، وهو الخَتْمُ الحافظ للدنيا وبفَكِّه منها يكونُ ختماً على الأُخرى، فقد جَمعَت صورتُه من العوالم ما لا يُحصى، ومن الرقائق والدقائق والحقائقِ ما لا يُستقصى، فيه دارتِ الأفلاكُ وإليه تسجدُ الأملاك، فما أشرفَه إن عَرَف نفسَه هكذا، فيعرفَ ربّه الغفار، فهو إذًا في أحسن تقويم، وله أجرٌ غير ممنون، وما أسخَفه إن جهلها فيُدعَى الظَّلوم الكفار في لسان الأغيار، ويُردُّ إلَى أسفل سافلين»[13].

إن إحلالَ الإنسانِ هذه المكانةَ المحورية في الوجود، بوصفه نفخةً إلهية، ومُكرَّما بسجود الملائكة وحملِ الأمانة والاستخلاف في الأرض وتسخير الأكوان[14]؛ بل مُكرَّما بتخصِيصِهِ، في علاقته مع خالقِه، بأمانة «المحبة والعشق والمعرفة»[15]؛ هذا الإحلال يؤسِّسُ لرؤية جمالية للوجود ولآيات الله في الآفاق والأنفس. وهي الرؤية الجمالية ذاتُها التي تحكُم التعامل مع آياتِ الكتاب المسطور؛ بحيث يتميز التجلّي المعرفِي لهذا الأفق، على هذا المستوى، بِوُسْع فهم آيات الكتاب ورحابةِ تلقِّي فتوح هذا الفهم؛ إذ التلقي عند القومِ «أخذُك ما يَرِدُ من الحقّ عليك»[16]،  وهذا ما يجعل من الوحي القرآني دائمَ التنزُّل على قلب مُتلقّيه؛ نقرأ في «حِكَم» أبي مدين الغوث: «القرآنُ نزلَ وتنزَّل، فالنزول قد مضى، والتنزُّل باق إلى يوم القيامة»[17]؛ ويقول الشيخ الأكبر ابن العربي عن القرآن الكريم: «نزَل على قلبِ محمد ، ثم لا يزال ينزل على قلوبِ أمتهِ إلى يوم القيامة، فنزولهُ في القلوبِ جديدٌ لا يبلى، فهو الوحي الدائم»[18].

هكذا، نتبين أن مِنْ أبرز سماتِ التجلِّي المعرفي التأسيسَ لرؤية جمالية لآيات التكوين (آيات الله في الكون المنظور) وآيات التدوين (آيات الله في القرآن المسطور)، بحيث ما تفتأ هذه الرؤية تطلب التحققَ بوُسْع فهم هذه الآيات، وكذا تفسير معاني الجمال فيها؛ جمالِ الشهادة والغيب، جمال الحس والمعنى، جمالِ الظاهر والباطن، جمالِ المقال والحال؛ ذاك الذي يُحيل دوما على الجمالِ المطلق في عالم الذر، عالِم الإطلاقِ، عالَمِ ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ﴾ (سورة الأعراف، الآية 172). يكتب سيد حسين نصر: «كل جمال يمثل انعكاسا للجمال الإلهي في نظر العرفاء (…)إن أي نوع من الجمال هو طريق بالنسبة إليه (أي العارف) لتذُّكرِ واستعادةِ جمال الحق في ذلك اليوم الأزلي الذي عبر عنه القرآن: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ﴾ (سورة الأعراف، الآية 172)»[19].  وعن هذه الرؤية الجمالية لآيات التكوين وآيات التدوين تصدُرُ كلُّ القيم المعرفية المشكِّلَة لهذا الأفق؛ قيمِ تكريم الإنسان، و تمجيدِ العقل، وصونِ الحرية؛ وذلك في وصْلٍ جمالي لهذه القيم بالله تعالى، بوصفه أصلَ ومنبعَ هذا التكريم وضامنَ معناه.

إن هذه الرؤية المعرفية الجمالية تُخرجنا، بل تحرّرنا، من تناقض أوقعتنا فيه التجربة التاريخية الغربية في التعامل مع مفهوم الإنسية (humanisme)، تلك التي عارضت بين «الإنسية العَلمانية» التي تقولُ بمركزية الإنسان في الوجود، و»الإنسية الدينية» التي تقول بالمركزية اللاهوتية أو مركزية الله في الوجود. وهو ما جعل تحرّرَ الإنسانِ في هذا العالَم، حسب هذه التجربة، مقرونًا بإزاحة المطلَق من العالم وتجفيفه من التعالي، في حين أن الإنسية المنطلقة من هذا الأفق الجمالي الروحي، والتي ننعتها بكونها «إنسيةً روحانية»، تحرِّرُنا من هذا التناقض؛ إذ تعتبرُ كلَّ مركزية لله في العالم هي ضرورةً إقرارٌ بمركزية الإنسان باعتبارِه نفخةً إلهية وسرا للوجود ومستخلَفا لله فيه. إن الإنسان هنا ليس مُكَرَّما بالتبعية، بل هو مُكرَّمٌ بالأصل؛ وحضور الله سبحانه، هنا، هو تكريم للإنسان بإمكاناته الشَّهادية والغيبية، الحسية والمعنوية، المادية والروحية، الفيزيقية والميتافيزيقية؛ أو قل هو تكريم له بإيجاده من عدم، وإمداده بالنعم، وإعداده لتحمل أمانة الاستخلافِ في الأرض. وهو ما أساءت قراءتَه الإنسيةُ العَلمانية الأسيرة لتجربة حضور الدين في السياق الكنسي الأوربي الوسيط، القائمِ على التناقض الحدّي بين التدين وحريةِ الإنسان، فيما نحن نفهم أن روحَ الدينِ إثباتٌ لحرية الإنسان ذاتِه، وإقدارٌ له على الذهابِ بها إلى  تحقيقِ الاستخلافِ ووراثة الأرض[20].

هذه فقط بعض ملامح التجلي المعرفي للأفق الجمالي الروحاني. وقد أثمر هذا التجلّي منظومةً أخلاقية متميزة تنهل من هذه الخلفية المعرفية العرفانية التي تُمَجّد الإنسان بالله، وتسعَى إلى تحريره بالدين لا من الدين.

  • – التجلي الأخلاقي:

التجلي الثاني للأفق الجمالي الروحاني هو «التجلّي الأخلاقي»، ومعلوم أن تأسيس هذا الأفق على جمال الحس والمعنى، يفيد تأسيسَه على جمال الخِلقة والمظهر، وجمالِ الأخلاق والسلوك. ثم إنّ تأسيس هذا الأفق أيضا على المحبة يفيد العناية بالقيم المتفرعة عنها؛ من محبة الله، ومحبة خَلْقِه، ومحبة الطبيعة، ومحبة الخير في كل مظاهره، مع وصلِ قيمِ الدنيا بقيم الآخرة المثمِرَة لأخلاقِ الحياة، وطلبِ السعادة فيها؛ قال تعالى :﴿طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (سورة طه، الآية 1). كل هذه الاعتبارات جَعلت من التجلّي الأخلاقي واحدًا من أبرز تجليات هذا الأفق. ومعلوم أن روح الدين أخلاقية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء ليتمِّمَ مكارم الأخلاق، وأنّ السؤال الأخلاقي يقتضي نظرا دائما؛ لكون الحياة، على أهمية ما قد تعرفه من تطور علمي أو اجتماعي أو تقني أو اقتصادي أو عُمراني..؛ تبقى مُعرَّضة للانهيار في غياب منظومة سلوكية أخلاقية تستجيب لهذه التطورات، وتُعيد استنباتَ هذه التطورات في تربة إنسانية رحموتية كونية، من شأنِها أن تحاصرَ نوازع التملّك والتسيّد التي قد تنجم عن تضخم «أنا» الإنسان، تلك «الأنا» التي يُؤكّد هذا الأفقُ على ضرورة تزكيتها لتنتقل من كونها «أنا» نفسانيةً مهدَّدَةً بالغرقِ في مهاوي «الأنا الإبليسية»؛ ﴿قالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (الأعراف، الآية 11)، أو بالوقوع في شَركِ «الأنا الفرعونية»؛ ﴿فقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات، الآية 24)، إلى أن تترقى هذه «الأنا» فتصير «أنَا ربّانية» تسمعُ بالله وتُبصر بالله وتبطش وتمشي في الله..؛ «فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.. «[21]. طبعا، هذه «الأنا الربّانية» لا تُفيد أي حلولٍ أو اتِّحاد كما تَوهّم البعضُ ممّن غابت عنهم أذواقُ القومِ في «التوحيدِ الخاص»[22]، مثلما لا تُفيد ذوبان «أنا» الفرد في المُطلَق، أي في الإنيَّة الإلهية المطلقة، بحيث يصير الفردُ غَائبا عن الوجود، شارِدا عن الحياة، غيرَ فاعلٍ في التاريخ كما توهَّم آخرون؛ بل هي «أنا ربانية» لكونِها تُربِّي الجوارح على أن تكون بالله وفي الله؛ أي متخلِّقة بالأخلاق الإنسانية الملائِمة للفطرة، ومتعلِّقة بالمطلَق الإلهي تعلّقًا يُزكّي قدرتَها على الفعل الحرِّ في التاريخ؛ لكونِه تعلّقًا مؤسَّسا، من جهة، على المحبة ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾  (المائدة، الآية 56)؛ ومن جهة ثانية، على الأهلية للاستخلاف ووراثة اللهِ في الأرض بالصلاح الأخلاقي مع النّفس والآخَر والطبيعة؛ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء، الآية 104).

هذا ما نفهمه من «الأنا» حين تَصير ربَّانية. إنها كذلك من حيث كونُ الأخلاق الربانية، كما تمثَّلها العارفون، هي أخلاق إنسيةٌ وكونيةٌ وملائمةٌ للفطرة وتمثِّل روحَ الدين وثمرةَ التعبد[23]؛ إنها معالمُ المنظومة الأخلاقية المؤسِّسَة لهذا الأفق الجمالي الروحي، والتي تؤول في روحِها إلى مقاصد الوحي الكبرى، التي مدارُها هدايةُ الإنسان إلى ما فيه رشادُه وسعادتُه وقيامُه بأمانة الاستخلاف في الوجود على أكمل وأتم وجه.

  • – التجلي الإبداعي:

ثالث تجليات الأفق الجمالي الروحي هو «التجلّي الإبداعي»، ونشير به إلى الإبداعاتِ الفنية التي تروم بلورةَ هذا الجمال الروحاني من خلال ما يحقق متعةَ النفس وتزكيتَها في آن. إنه التجلّي الذي يتوسّل بالإبداع في الكلمة حكايةً ونظمًا، وبالإبداع في الصورة نَمنمةً ورسمًا، وبالإبداع في الموسيقى تنغيمًا وأداءً؛ فضلا عن امتداداتٍ إبداعية تجدُ أصداءَها في المعمارِ واللباس والخط والطبخ والتطيّب وتجميلِ محافل الذكر والأذان والتهاليل فوق المآذن وغيرها؛ مما قد ندرجُه في «مرايا» هذا التجلّي الإبداعي.

وإذا أردنا الوقوف بوجازة عند بعض معالِم هذا التجلي، علينا أن نشير إلى كونِ عنصرِ الإبداع كان دوما حاضرا في هذا الأفق، فقد اعتنى بالمجلَى الجمالي السَردي، والذي تمثَّل في العناية بالحكاياتِ في خطاب التربية الروحية، حيث نصوصُ وقصص العارفين وفتوحُهم وأحوالهم تستمِد من أبعاد وظائف القصص القرآني في تثبيت الفؤاد على الحق واستثارة المواجيد نحو الحق. كما اعتنى هذا الأفق بالمجلَى الجمالي الشعري، باعتبار الشعرِ أرفعَ استعمالٍ للّغة ولسحرها البياني وقدرتها على تفجير حيرةِ اللغة، وتحريرِ المعنى عبر المجاز والرمز والإشارةِ من كوابح العادة وجفاف التكرار ورتابة الإيقاع؛ ويُعتبر العارفون على مستوى التلقي التصويفِي للشعر أو نظم الشعر الصوفي فالعرفاني[24]، أنموذجا فريدا في ضخ ماءِ السر والشعر في إبداعيةِ اللغةِ؛ لاسيما وقد تبلّل هذا الإبداعُ بأحوال مُبْدعيهِ أو بأحوال متلقيه، مما جعلنا اليوم إزاء ميراثٍ في الإبداع الجمالي الروحي الشعري كفيلٍ بإحياء الروح ووَصْلها بعوالم اللطافة البهية، التي ما تفتأ الروحُ تفتتن بالحنين إليها والتحير في أسرارها المنبجسة، بما يتحدى القولَ ويحيِّر البوحَ ويدفَعُ إيقاعَ اللغة إلى تخوم الاستحالة. تلك واحدة من علامات البهاء المتفرّد للقول الشعري الصوفي.

أما المجلَى الثالث للتجلّي الإبداعي في الأفق الجمالي الروحي، فله صلةٌ بالشعر، إنه السماع؛ أي ترنيم أشعار القوم بعذب الألحان، والتغنّي بها بشجيّ الأصواتِ طلبا لتحريك المواجيد وقدْح الأحوال أو رغبةً في محاولة قول مالا ينقالُ منها باللغة؛ قولِ ذلك في لغةِ النغم وانتفاضِ الأجساد في حلقات الذكر ضمن دوائر الوجد الصوفي. والسماع، بِوَصْلِه بين النّظم والنغم، بين حركةِ الروح وحركة الجسد، بين صوتِ الشعر وصمت السر الساري اشتعالُه في الألحان والإيقاعات والترانيم، يكادُ يكون بذلك أشهرَ مجالِي التجلي الإبداعي للأفق الجمالي الروحي؛ لأنه يعانقُ الترنيم الروحِي بما هو لغةٌ كونيةٌ تتجاوز كلّ اللغات، وبما هو تبلُّلٌ بقطرةٍ من أسرارِ يَمّ «نغمةِ الألوهية» السارية في لغة الحرف القرآني المُطلَق[25].

هذه إذًا تجليات ثلاثة للأفق الجمالي الروحي؛ سواء على مستوى المعرفة أو الأخلاق أو الإبداع. وهي تجليات متوالجة كما أسلفنا، وقد شكلت في تاريخ التدين المغربي مجالا متوهجا، أسهم المغاربة في إغنائه بتميز وتفرد، بل شكل هذا الأفق مصدرا من مصادر الثوابت الدينية المغربية، وعاملا من عوامل تثبيتها وترسيخها.

2- الأفق الجمالي الروحي وخدمته للثوابت الدينية المغربية

لا مراء أن الأفق الجمالي الروحي، بالأسس والتجليات التي رصدناها آنفا، يشكل واحدا من أبرز مظاهر الممارسة الدينية المغربية، والتي اعتنت ضمن ثوابتها إلى جانب العقيدة الأشعرية والفقه المالكي، بالتصوف الجنيدي على مستوى السلوك والتزكية؛ كما أشار عبد الواحد بن عاشر في مستهل متن «المرشد المعين»:

فِي عَقْدِ الأَشْعَرِي وَفِقْهِ مَالِكْ ** وَفِي طَرِيقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِكْ

وقد رأينا أن الأفق الجمالي الروحي هو بلورة معرفية وأخلاقية وإبداعية لمرتبة الإحسان في الدين، وأن تجليات هذا الأفق إنما تبتغي ترسيخ المعرفة الربانية القائمة على الذكر والمحبة، والتربية الأخلاقية القائمة على التقرب للحق بالإحسان للخلق والاقتداء بمكارم كمالات سيد الخلق، ترسيخ ذلك في القلوب عن طريق الجمال؛ إذ إن تزكية النفس حسب هؤلاء التربويين تتحقق بشكل أنجع وأبهى من خلال الولوج إليها عبر فطرتها المحبة للجمال، ومن ثم توجيه هذه الفطرة نحو ما من شأنه أن يحقق الخروج بها من التدسيّة نحو التزكية وترقيتها في مراقي الطهارة والصفاء. من هنا عنايتهم بمختلف المظاهر الجمالية والإبداعية التي تحقق هذا المقصد التربوي والتزكوي. الأمر الذي برع فيه أهل الصلاح ومؤسسات الزوايا ومدارس التربية الروحية في المغرب، بشكل يكاد لا يضاهى. على أننا نقف مع هذه المظاهر الجمالية الروحية في تجليها الإبداعي على ما يخدم سائر الثوابت الدينية المغربية عقيدة وفقها وسلوكا وإمارة مومنين؛ ذلك أن استعمال هذه المظاهر الجمالية كان يهدف إلى تبسيط تلك الثوابت وغرسها في عمق الأعراف الدينية المغربية إذ تحضر ذائبة في العادات والتقاليد والاحتفالات وأشكال الفرح الديني، بحيث يستبطنها المسلم المغربي ويتشبع بها بشكل يومي من طرق مختلفة، بما في ذلك طرائق الجمال والتربية الجمالية الروحية. ذاك ما يحضر ضامرا سواء في ثراء صيغ تلاوة القرآن الكريم وتجويده، أو ثراء صيغ الأذان والتهليل وطرائق رواية حديث الإنصات وصيغ توريق «صحيح البخاري» وكتاب «الشفا» للقاضي عياض وغيرهما، وكذا في أنغام المدائح النبوية وسماع حلقات الذكر؛ فضلا عن جماليات ثقافية روحية أخرى في العادات والمعمار والخطّ واللباس وغيرها. وسنقف هنا عند نماذج من أحد مجالات إبداع هذا الأفق، أعني مجال المديح والسماع، تبرز ما نذهب إليه. وهي نماذج تفتح باب البحث في منحى نرى أنه ما زال منسيا، وهو خدمة الأفق الجمالي الروحي في مظاهره الإبداعية للثوابت الدينية المغربية.

أ- على المستوى العقدي

من المعلوم أن الاختيار المغربي عَقَديا يتمحور حولَ عقيدة أهل السنة والجماعة، وتعيينا عَقْدَ الأشعري، لما يتسم به من وسطية واعتدال، وجمع بين العقل والنقل، وخروج من حَدِّيَّة التعطيل أو التجسيم، وحدية الجبر أو الاختيار، وحَدِّيةِ خلق القرآن أو قِدَمهِ، وبُعْد عن تكفير أهل القبلة…إلى غير ذلك من مزايا الاعتقاد الأشعري.  على أن هذه العقيدة لم تبق حبيسة الأوساط العلمية، بحيث قام الأئمة والعلماء الأشاعرة بتبسيط العقيدة الأشعرية وتناولوا كتبها بالشرح والاختصار؛ حتى يسهل فهمها على العامة من الناس. وكان أن بثوا هذه العقيدة في مختلف مناحي حياة الناس ومظاهر ثقافتهم الدينية، بحيث صرنا نجد تلك الخصائص العقدية الأشعرية حاضرة في النصوص المنشَدةِ بين مجالس المديح النبوي بالمغرب مثلا، في أفراحهم وأتراحهم، كما هو شأن النص الأشهر في مجالس المديح بالمغرب؛ أعني «بردة» الإمام شرف الدين البوصيري. وهو نص يتناول قضايا عقدية كثيرة، كما هو شأن نصه الثاني «الهمزية»، بمنظور أشعري[26]؛ وبأسلوب شعري جمالي ساحر يزداد بهاء عند الإنشاد بالطرائق النغمية المغربية الباهرة. أشير تبيينا إلى مثالين؛ الأول حديث البوصيري عن القرآن الكريم في البردة، وتضمينه للموقف الأشعري من مسألة خلق القرآن. يقول:

آياتُ حَقٍّ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثَةٌ ** قَدِيمَةٌ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ بالْقِدَمِ

يكتب العارف المغربي أحمد بن عجيبة (ت1224ﻫ) في شرحه هذا البيت: «..قوله «من الرحمن»؛ أي منزلة من عند الرحمن لأنها كلامه. وقوله: «محدثة»؛ باعتبار نزولها كما قال تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾. وقوله: «قديمة»؛ يعني باعتبار ذاتها لأنها صفة الله سبحانه وتعالى الموصوف بالقِدَم، وصفة القديم قديمة..»[27]. ومعلوم أن البيت المذكور وهو يجمع بين حدوث الألفاظ وقدم المعاني إنما يشيرُ من طرف خفي إلى تمييز الأشاعرة في القرآن الكريم، بما هو كلام الله، بين «الكلام النفسي»، من حيث هو معنى قائم بالله تعالى ليس بصوت ولا حرف، وهو غير مخلوق وموصوف بالقدم، فهو كلام وجودي متعال مطلق قديم، وبين «الكلام اللفظي» من حيث هو حروف وألفاظ دالة مخلوقة، وهو تجل لذاك «الكلام النفسي» في كلام لفظي لغوي مُحْدَث.

المثال الثاني يتعلق بغرض مشهور ضمن أغراض المديح النبوي في مدونة أهل المديح والسماع بالمغرب، وهو غرض «الاستشفاعيات»، ومدار هذا الغرض حول التمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم، بوصفه نبيا مخصوصا دون سائر الرسل بعطية إلهية[28] ادخرها له الحق سبحانه ليوم المحشر، وذلك ليكون «رحيما بالمومنين حين تذهل عن أبنائها الرحماء»، و»شفيعا في المذنبين إذا أشفق من خوف ذنبه البرآء». وهذه العطية الإلهية التي سوف يرضيه ربه بها يوم القيامة حين سيتذلل للحق ويسجد له توددا وتوسلا، فينادى: «ألا فارفع فأنت المقرب»، هي التي ألهمت العديد من الشعراء للانحياش إلى جناب المصطفى طلبا للإجارة والنجاة من بابه عليه أفضل الصلاة والتسليم. ومن المعلوم أن الأشاعرة، قد قالوا بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مرتكب الكبيرة، فيما أنكر المعتزلة هذه الشفاعة وأبطلوها. فقد ذهب هؤلاء إلى أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأن العدل الإلهي يقتضي إثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين كما وعد سبحانه وهو لا يخلف الميعاد. بينما علق الأشاعرة العدل الإلهي بالمشيئة لا بالاقتضاء، فقالوا إننا لا نلزم الحق سبحانه بشيء، وإن المسلم الذي يخالف فعلُه قولَه مؤمن عاص إن شاء الله عذبه وإن شاء ثاب وعفا عنه، ومن ثم أقروا بالاستشفاع والتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم عساه يكون شفيعا في المؤمن العاصي يوم القيامة بإذن الله ومشيئته[29]. وهذه الخلفية المرجعية هي التي حذت بالمغاربة، بحكم عقيدتهم الأشعرية، إلى الاعتناء بنصوص التوسل بالرسول والتعلق بالجناب المحمدي وطلب شفاعته كما تترجم ذلك منشدات فن السماع، فصيحا وموشحا وملحونا[30].

هذان مثالان دالان على الحضور العميق للعقيدة الأشعرية في منشدات المديح والسماع، الأمر الذي يجعل هذا التجلي من تجليات الأفق الجمالي الروحي في الثقافة المغربية يسهم إسهاما بيِّنا في ترسيخ العقيدة الأشعرية عن طريق الكلمة العذبة واللحن البهي والأداء المؤثر. ويمكن أن نجد نماذج أخرى دالة تتعلق بحضور مختلف معالم الاعتقاد الأشعري مباحث الإلهيات والنبوات والسمعيات، ضمن النصوص المنشَدة، خصوصا وأن كل أعلام الزوايا المغربية وشيوخها وصلحائها، حيث انتعش الإنشاد والسماع، كانوا أشاعرة.

ب- على المستوى الفقهي

غني عن البيان أهمية المذهب المالكي ضمن الثوابت الدينية المغربية، ودوره في صون وحدة الأمة، وسر اختيار المغاربة لهذا المذهب، لرسوخ علمِ مؤسّسِه وانتمائه لدار الهجرة، ولمَا ينماز به مذهبُه من جمع وتوفيق بين النص والواقع، ومرونة ووسع في أصول الاستنباط، مع قدرتها على استيعاب النوازل والسياقات المستجدة، فضلا عن تلاؤم المذهب المالكي مع البيئة الجغرافية والاثنية والتاريخية والثقافية المغربية. لذا سنجد تسيد هذا المذهب في المغرب وفي وقت مبكر، بل وحضور علامات تشبث المغاربة به في مختلف مناحي حياتهم الدينية العامة. وهو ما أسهم الأفق الجمالي الروحي في إبرازه وترسيخه. أشير في عجالة إلى عناية أهل المغرب بترنيم رواية حديث الإنصات عند خروج الخطيب في صلاة الجمعة. وفي الحديث المَروي عن إمامنا مالك تذكير بانتسابنا المذهبي له، وقل الأمر نفسه مع تنغيم الأذان بالصيغ المغربية الحسبية منها والمرنَّمَة، مع المحافظة على صفة الأذان وألفاظه عند المالكية؛ من تثنية التكبير فيه، وترجيع الشهادتين؛ إذ اختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع، وهو أن يثني الشهادتين بصوت خفيض، ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت، فيما باقي الألفاظ مثنى، والختم بشهادة التوحيد إفرادا. أضف إلى ذلك ما اجتهد فيه أهل التوريق من تنغيم ساذج بسيط عند سرد «موطأ» الإمام مالك، مما يسهم في جذب الأسماع والعقول والقلوب لما في الكتاب من درر.

ومن أبرز مظاهر حضور أثر الفقه المالكي في هذا الأفق الجمالي الروحي، فضلا عن كون كل أهل المغرب من علماء وصلحاء وأولياء وعارفين هم مالكية؛ أن معجم الفقه المالكي قد استعير لوصف بعض الخصائص المغربية لهذا الأفق الجمالي الروحي في تجليه الإبداعي الإنشادي؛ من ذلك استعارة مصطلح «العمل الفاسي» للدلالة على ما جرى به العمل في طريقة إنشاد أهل فاس لبردة الإمام البوصيري. فأصل مصطلح «العمل الفاسي» فقهيٌّ يدل على «ما جرى به العمل»[31] بين قضاة فاس من مقتضيات الأحكام في النوازل المتعلقة بالأنكحة والبيوعات والمعاملات، وقد أطلق هذا الاصطلاح على منظومة عبد الرحمن الفاسي (ت.1096ﻫ) التي جمع فيها تفاصيل هذه الأحكام[32]. وقد انتقل اصطلاح «العمل الفاسي»، وسط أرباب السماع من مدلوله الفقهي إلى مدلول فني أصبح يشير بموجبه إلى ما جرى به العمل في إنشاد بردة البوصيري بمدينة فاس. ذاك ما نلتقطه من مطلع منظومة الفقيه محمد بن محمد بن عبد القادر ابن سودة (ت.1368ﻫ/1949م) التي يجمل فيها أبرز مراكز إنشاد البردة على الطريقة الفاسية، حين يقول:

قَارِئَ البُرْدَةِ إِنْ رُمْتَ الأَمَلْ ** بِالحِجَازِ المَشْرِقِي ابْدَأْ فِي العَمَلْ[33]

وهو أيضا ما يؤكده تداول هذا الاصطلاح في الزاوية الحراقية الرباطية، والذي أشاع استعماله فيها ورسخ مدلوله الفني بين مريديها ومسمعيها الفقيه الصوفي عبد السلام اكديرة. ويعرف الأستاذ بنمنصور كلمة «العمل» في دلالتها الاصطلاحية الفنية ضمن هذا الاستعمال فيقول: «كلمة «العمل» هنا تخص البردة وحدها، ومعنى هذه الكلمة اصطلاحا: اللحن. وهي تقابل كلمة «شغل» في الموسيقى الأندلسية، ولا ينقصها سوى التراتين، كما تدل أيضا على أن هناك عملا فنيا رائعا ممتازا متكامل اللحن والنغم والإيقاع»[34]. وعليه فإن «العمل الفاسي» في اصطلاح أهل السماع يدل على التلحين الخاص ببردة البوصيري في مدينة فاس، وهو تلحين يشمل مجموع متن «البردة» فيقسمه إلى أقسام تعرف ب»المراكز» أو «المواقف»، حيث ينشد كل قسم في طبع معين أو في طبوع نغمية متجانسة منسجمة، وتتخلل هذه الأقسامَ مستعمَلات ومقطعات مديحية جماعية وإنشاداتٌ فردية، تلائم تلك الأقسام من حيث طبوعها وإيقاعاتها ومناسباتها الشعرية. على أن شيوع هذا الاصطلاح وأضرابه في مجال المديح والسماع، دليل على الانتماء المالكي لأربابه من جهة، وعلى إسهام هذا التجلي الإبداعي للأفق الجمالي الروحي في ترسيخ هذا الانتماء وتعزيزه.

ج- على المستوى السلوكي

وهنا يبدو من باب تحصيل الحاصل القولُ إن هذا الأفق الجمالي الروحي هو مظهر من مظاهر تصوف أهل المغرب ومشربهم السلوكي الجنيدي؛ فالمدارس الروحية التربوية المغربية الجنيدية هي التي اعتنت بهذا الأفق تنظيرا وممارسة وتربية وإبداعا، وأعلام هذا الأفق هم أعلام التصوف الجنيدي بالمغرب. ومعلوم أن من أبرز معالم هذا الانتساب السلوكي، والتي دعت المغاربة إلى التشبث به واختياره مسلكا تربويا وتخليقيا، أنه يجمع بين حقوق الجسد وحقوق الروح، ويجسد السعي التخليقي لحياة المسلم، وتثمير العبادة والمعاملة في السمو الروحي للفرد والجماعة. على أن أبرز ما يميز «طريقة الجنيد السالك» أنها مسلك محمدي سنّي، مناطه الاهتداء بالكتاب والسنة، والجمع بين الشريعة والحقيقة. فمن مشهور مأثور الإمام الجنيد قوله: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة»[35]. وهو ما سار عليه أهل المغرب، واتخذوه نبراسا في مشربهم السلوكي،  حيث جعلوا سيرهم في الطريق وترقيهم في المقامات وفتحهم في الكشوفات مقيدا بميزان الكتاب والسنة؛ يقول أبو الحسن الشاذلي، عنوان إشعاع المشرب الذوقي المشيشي المغربي في العالم: «إذا عارض كشفُك الصحيحُ الكتاب والسنة، فاعملْ بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولا يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام»[36]. وهذا ما جعل الاقتران بين الشريعة والحقيقة شرطا لسلوك الطريق عند صوفية أهل المغرب. ذاك ما ضمَّنُوه في جمّ من الأشعار التي ما زالوا ينشدونها إلى اليوم في محافلهم السماعية وحلقهم الذكرية، من ذلك قول العارف أبي الحسن الششتري (668ﻫ):

قَالَ عِلْمُ الحَقِيقَة
مَنِ اتَّبَعْها سَيَلْقَى
وَالمُخَالِفْ سَيَشْقَى
X
X
X
أَنَا أُسُّ الشَّرِيعَة
مِنِّي أَدْرَاجْ رَفِيعَة
يَرْكَبْ أَهْوَالْ شَنِيعَة[37]

وهو أيضا ما تعبر عنه ببهاء هذه القصة التي يرويها لنا التهامي الوزاني في كتابه «الزاوية»، حيث حضور الحض على التمسك بالشرع في قلب الإنشاد والذكر في الزوايا المغربية وبين مريديها في حياتهم العملية والعامة؛ إذ يروى أن أحد فقراء الشيخ المغربي ذي المشرب الشاذلي سيدي محمد الحراق (ت 1261ﻫ)، كان يشتغل بنَّاءً بدار الفقيه كنون بفاس (وهو الفقيه محمد بن المدني كنون صاحب كتاب «الزجر والإقماع»، وكان مشهورا بإنكاره على ما أحدثه بعض الصوفية) «ولم يكن أحد يجرؤ أن ينطق بشيء من الغناء أو من كلام القوم بمسمع من الفقيه كنون، وفي ذات يوم ظن البنَّاء أن الدار فارغة، فأخذ يذكر الهيللة، ويخللها بأبيات من تائية الحراق، واستمر فيها إلى أن أتى على آخرها وسكت، قال فلم أشعر إلا والفقيه قد وقف على رأسي وهو هادئ تام الهدوء، فلما وجدته أمامي وأيقنت أنه كان يسمع نشيدي، اعتراني من الدهش والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، ولم أشك في أنه سيفعل بي سوءا من ضرب أو نحوه، ولكنه سألني في لطف عن القصيدة التي كنت أقولها لمن هي، فترددت في الجواب خشية أن يسمعني في شيخي مالا أحب سماعه، ولكنه ألحَّ علي، فقلت له من كلام الشيخ الحراق، فاستنشدني إياها ثانيا فلما وصلت إلى قوله فيها:

ومَكِّنْ بكفِّ الشرعِ أمرَكَ كلَّه ** فدونَكَ إن لم تفعلِ البابُ سُدَّتِ

استعاده عدة مرات كأنه يحفظه، فلما فرغت من إنشادي قال لي: هكذا يكون المشايخ لا هؤلاء المدعين، أما أني لو أدركت الشيخ سيدي محمد الحراق لأخذت عنه»[38].

وإجمالا، فإن حضور المشرب الجنيدي متعدد المظاهر في الأفق الجمالي الروحي سواء في التأكيد على تلازم الشريعة والحقيقة، أو في البعد التربوي للمسلك الصوفي، أو في المقصد التخليقي لتزكية النفس، أو في الاستثمار التزكوي لمجالي الجمالية العرفانية سردا وشعرا وسماعا. ففي العناية بالمجلى الجمالي السردي؛ «قيل للجنيد :ما للمريدين فى مجاراة الحكايات؟ فقال: الحكايات جند من جنود الله تعالى يقوي بها قلوب المريدين. فقيل له: فهل لك في ذلك شاﻫد؟ فقال: نعم، قوله عز وجل: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ (سورة هود، الآية: 119)»[39]. وفي السماع «سئل الجنيد: ما بال الإنسان يكون هادئا، فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إن الله  تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول بقوله ﴿ألسْتُ بربِّكُم قالُوا بَلَى﴾ (الأعراف، الآية 172)، استفرغت عذوبة سماع الكلام الأرواح، فلما سمعوا السماع، حركهم ذلك»[40]. ضمن هذا المنحى نفهم عناية صوفية أهل المغرب بالحكايات التربوية وكذا بالذكر والإنشاد، لرفيع مقاصدهما التربوية والتزكوية.

د- الأفق الجمالي الروحي وإمارة المومنين

ثمة علاماتٌ عدة من خلالها يترجم الأفقُ الجمالي الروحي أهمية مؤسسة إمارة المومنين، بما هي عنوانُ مسؤولية الإمامة العظمى، والحفاظِ على وحدة الدين والأمة، وإنقاذِ الدين من الاحتكار السياسي أو الاستعمال الحزبي في السياق الحديث، وضمانِ التحام وتكامل وانتظام كل المكونات السابقة للممارسة التدينية المغربية، ونبراسِ الإشعاع الروحي الكوني للمؤسسة خارج الحدود الجغرافية المغربية. وإذا كانت لمؤسسة إمارة المومنين أبعاد تاريخية وشرعية وروحية؛ فإن الأفق الجمالي الروحي يسهم في ترسيخ هذا الثابت من خلال تعبيره عن تعلق المغاربة بآل البيت الأطهار، بضعة المصطفى المختار التي ينتسب إليها أمير المومنين؛ إذ يعدُّ غرض مدح آل البيت من أوسع الأغراض المديحية في مدونة الإنشاد في المديح والسماع. على أن من أهم علامات هذا الغرض أن ترسيخ هذه المحبة هو ترسيخ لها من باب التشرع لا من باب التشيع؛ وهذا في غاية النفاسة. ويكفي الرجوع إلى «همزية» الإمام البوصيري التي تعتبر واحدة من عيون نصوص المديح النبوي في المغرب للوقوف على الأمر، حيث يمدح الإمام البوصيري آل البيت الأطهار ويبكي ما لحقهم من حيف في التاريخ، مثلما يمدح صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم ورمزيتهم ومكانتهم ويترضى عنهم معترفا بما أسدوه من جليل الأعمال للإسلام والمسلمين.

ولعل من أبرز المناسبات التي يظهر فيها ترسيخُ هذا الأفق الجمالي الروحي لمؤسسة إمارة المومنين، مراسمُ الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، منذ العهد العزفي بسبتة خلال القرن السابع للهجرة إلى اليوم؛ إذ تحضر في هذه المراسم نصوص المولديات التي تجمع بين مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم ومدح آل البيت الأطهار ومدح سلطان الوقت، ولا سيما في عهد الأشراف بدءا من السعديين إلى اليوم. ويعتبر ترؤس أمير المومنين للحفل الديني المنظم بمناسبة المولد النبوي، عنوانا باهرا على دور هذا الأفق الجمالي الروحي في مظهره الإبداعي، وأهميته في التعبير عن الطبيعة الجمالية للتدين المغربي، حيث الجمال حاضر في التعبد والفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعالم الاجتماع لهذا الفرح لباسا وبخورا وشعرا وإنشادا وإهابا. وهذا ما يفسر عناية أمير المومنين بهذا الأفق من خلال ترؤسه الفعلي لهذا الحفل، وكذا من خلال عنايته بالمتفوقين في جوائز محمد السادس التي خصصت لبعض المجالات الإبداعية لهذا الأفق مثل تجويد القرآن الكريم، أو الأذان والتهليل، أو الحروفية.

إن مؤسسةَ إمارةِ المومنين، بهذه المعالم، نموذجٌ مغربيّ مُتَفَرِّد ذو أفق كوني[41]، فهيَ تجمعُ بين السَّنَدِ الشَّرْعِي والامتدادِ التاريخي والإشعاعِ الرَّمْزِي العالمي، وهذا ما جعلَهَا تنظرُ إلى الفكرِ الديني المتنور الذي تحمِل مشروعَه اليوم، نظرةً شمولية تتكاملُ فيها مختلِف الأبعادِ العلميةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ والروحيةِ والاجتماعية… دونَ أن يغيبَ عنْ مشروعها الاهتمامُ بواحدٍ مِن الأبعادِ الرئيسةِ للفكرِ الدّيني المُتنوّر، إنهُ البعدُ الجَمَالي. وهُوَ بعدٌ ينفي البُؤْسَ عنِ التَّديُّن، ويحقِّقُ له سمتَهُ الجمالية البعيدةَ عنْ كلِّ انغلاقيةٍ أو بُؤسٍ مُنافٍ لحقيقةِ الدينِ، مِصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَيُبْغِضُ الْبُؤْسَ وَالتَّبَاؤُسَ»[42].

وبهذا الاعتبار، تكون إمارة المومنين حاضنةً لثقافة دينية مغربية من معالمها: محبةُ آل البيت، وسماحةُ تدين المغاربة مع المختلف كما هو شأن تعايشهم الديني التاريخي مع اليهود  (خصوصا وأن المغرب وريث حضاري لسماحة الحياة الدينية وانفتاحها الحضاري في الأندلس)؛ ومن معالمها أيضا غنى الممارسة التدينية الإسلامية المغربية على المستوى الجمالي الروحي كما تجسدها مثلا طرائق تلاوة القرآن الكريم الفردية والجماعية، ورونق الاحتفالات الدينية الرسمية والشعبية، وجماليات الأذان والتهليل والمدائح النبوية بمختلف ألوانها ولغاتها وصيغها، وكذا تنوع حضور البعد الروحي في الخط والمعمار واللباس والطبخ…وهي مظاهر تستمد ثراءها من روافد الثقافة المغربية العربية والأندلسية والأمازيغية والحسانية والإفريقية. ويعد الأفق الجمالي الروحي، بهذه الملامح، واحدا من علامات الإشعاع العالمي لمؤسسة إمارة المومنين، باعتبار ما يعكسه من اعتدالية في التدين، وجمالية في التعبد، وسماحة مع المختلف، وتوسّلا بالمعرفة والمحبة والجمال في فهم الدين وتبليغه.

3- مقترحات وآفاق

لما كان للأفق الجمالي الروحي هذه الأهمية في تثبيت وترسيخ الثوابت الدينية المغربية عبر نشر قيم هذه الثوابت ومحتوياتها العقدية والفقهية والسلوكية وتوسيع حضورها بين الناس من خلال طرائق جمالية وإبداعية نابعة من صميم بيئتهم الثقافية والجغرافية واللغوية والانتربولوجية والتاريخية، وكان إسهام هذا الأفق أكيدا وواضحا في التلحيم الروحي للذاكرة الوجدانية والوعي الروحي الجمعي المغربي، أضحى لزاما العناية بهذا الأفق، وإعادة الاعتبار لوظائفه وإعادة تثميرها في السياق الراهن. ومن أجل الذهاب نحو هذا القصد نقترح ما يلي:

– العملُ على العناية بالتوثيق العلمي لتجليات هذا الأفق وإبراز مناحيه المعرفية والأخلاقية والإبداعية؛

– تجلية وتظهير الطبيعة السماحية والاعتدالية والجمالية للممارسة الدينية في المغرب من خلال حسن استعادة هذه التجليات؛

– مواصلة وتطوير العناية التثقيفية والإعلامية بهذه التجليات، وهي العناية التي بذلت فيها إذاعة وقناة محمد السادس شوطا رفيعا وغير مسبوق؛

– العمل على الإفادة من هذا الأفق وتجديد وظائفه عن طريق حسن توظيفه في المنظومة التعليمية في مختلف مستوياتها، بحيث يمكن الإفادة ببهاء من هذا الأفق بتجلياته المختلفة، ومن خلال استحضار نصوصه وأعلامه وقيمه وإبداعاته في الشعر والسرد والنغم…إلخ، وذاك من أجل تجديد وظائفه الرفيعة في تجديد صلة الأجيال الجديدة بثوابتهم الدينية عن طريق تعريفهم وتشغيفهم بالميراث المغربي في الروحانية والجمال؛

– إدماج هذا الأفق في تكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، لأنه يصلهم بروح الثقافة الدينية المغربية التي شكلت دوما عنصر توحيد الوجدان الجمعي للأمة، وكذا عنصر مناعة روحية وثقافية واجتماعية ضد كل أشكال التطييف والتمزيق المذهبي والعنف والغلو باسم الدين سواء حيال الذات أو الطبيعة أو الآخر؛

– مواصلة وتطوير استثمار هذا الأفق الجمالي الروحي في الدبلوماسية الروحية؛ سواء من أجل تعضيد الامتداد الروحي الإشعاعي لإمارة المومنين في إفريقيا، أو في بناء الحوار بين الأديان على فلسفة التعارف القرآنية بدل شعار التسامح، كما دعا إلى ذلك بنباهة نادرة أمير المومنين في خطابه التاريخي المرجعي عند زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى المغرب عام 2019م.

وإجمالا، فإننا لا نزعم أننا استنفدنا القول في بيان معالم الأفق الجمالي الروحي وتجلياته، وفي بيان ثراء الإسهام المغربي فيه، وبيان أدواره في حفظ ثوابت عمل أهل المغرب في التدين، وإنما كان القصد من هذه الدراسة التنبيه إلى أهمية هذا الأفق، ودفع بعض النسيان الذي طاله على مستوى البحث والدراسة، وكذا الإسهام في إخراج تلقي بعض مظاهره الروحية والإبداعية من الفولكلورية والطقوسية، واقتراح بعض آفاق إعادة استثمار نفيس وظائفه المعرفية والروحية والأخلاقية محليا وعالميا. وهو منحى قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمجهودات مشهودة في بابه، ونطمح ونطمع في المزيد لبلوغ الآيات المرجوة من ذلك. الأمر الذي يعني، فيما يعنيه، أننا إزاء ثراء جمالي روحي مغربي نادر، أسهم عبر التاريخ ببلاغة في ترسيخ ثوابت التدين في المغرب، وما زال يكتنز اليوم إمكانات رفيعة لتجديد وظائفه في التلحيم الروحي للوجدان الجماعي المغربي، وكذا لرسم التميز الكوني لتعامل النموذج الديني المغربي مع التحديات الوجودية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تواجه المسلمين اليوم، بل والإنسان المعاصر بوجه عام. وهذا ما يجعلُ هذا الأفق مكونا رئيسا ضمن المشروع المولوي السامي في تجديد الفكر الديني، والذي كان قد أَطلق عليه أمير المومنين عند ترؤسه حفل تنصيب أعضاء المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالقرويين بفاس بتاريخ 14\6\2016م، نعت «الفكر الديني المتنور».

الهوامش

[1]  – ينظر بهذا الخصوص: ابن سلطن، سناء، «ملامح الجمال المحمدي في الرؤية الصوفية»، ضمن مجلة «محاسن المجالس»، ع1/2019م، ص.129-136.

[2] – البوصيري، محمد شرف الدين، «ديوان البوصيري»، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ص. 56.

[3] – «ديوان رابعة العدوية وأخبارها»، صنعه وشرحه وعلق عليه موفق فوزي الجبر، دار معد، دار النمير، دمشق، 1999م، ص.81.

[4] – تنتمي هذه الأبيات إلى القصيدة اللاميةِ التي مطلعها:

اِلْزَمِ البابَ إن عشقتَ الجمَالا          واهجُر النومَ إن أردتَ الوِصَالَا

وهي أبيات خمسة تنسب، في متداول الشعر الصوفي بين أهل السماع، إلى رابعة العدوية، لكننا لا نجد في المصادر الأولى المترجمة لهذه الشاعرة الصوفية ما يثبت هذه النسبة، لذلك لم ترد أيضا في «ديوان رابعة العدوية وأخبارها» (م.س). ونرى أن اشتهار هذه الأبيات بنسبتها إلى رابعة يعود على الأقل إلى أمرين؛ أولهما أنها تحاكي وتعارض بيتين ثابتي النسبة لها، وهما:

وَ تخلّلتَ مَسلكَ الروحِ مِنِّي           وبِهِ سُمِّيَ الخليلُ خليلَا

فإذا ما نطقتُ كنتَ حديثي         وإذا ما سكتُّ كُنتَ الغليلا

(«ديوان رابعة العدوية وأخبارها»، م. س، ص 82)؛

وثانيهما أن تلك الأبياتَ تضمِّنُ معنى الحب الإلهي المجرد عن الخوف من العقاب والطمع في الثواب، والذي ينسبُ ظهوره الصريح لأول مرة إلى رابعة. على أن المنسوبات إلى هذه الصوفية، شعرا ونثرا، هي من الوسع ما جعل صورتها تلتبس بين التاريخ والأسطورة (راجع مثلا: خضر، سهام، «رابعة العدوية بين الأسطورة والحقيقة»، دار الكتب العلمية، بيروت، 2010م).

– ابن العربي، محيي الدين، «رسالة لا يعول عليه» ضمن «رسائل ابن عربي»، تقديم محمود محمود الغراب، ضبط محمد شهاب الدين الربي، دار صادر، بيروت، (د.ت)، ص251.

[5] – ابن العربي، محيي الدين، «رسالة لا يعول عليه» ضمن «رسائل ابن عربي»، تقديم محمود محمود الغراب، ضبط محمد شهاب الدين الربي، دار صادر، بيروت، (د.ت)، ص251.

[6] – ابن عجيبة، أحمد، «إيقاظ الهمم في شرح الحكم»، دار الفكر، القاهرة، (د.ت): 2/340.

[7] – القشيري، أبو القاسم، «الرسالة القشيرية»، تحقيق معروف زريق وعلي عبد الحميد بلطه جي، دار الخير، بيروت، 1983م، ص. 321.

[8] – الدلائي، محمد بلعربي، «النور اللامع البراق في ترجمة الشيخ محمد الحراق»، مخطوط خاص، و. 64/أ.

[9] – Bidar,Abdennour, «L’islam sans soumission: pour un existentialisme musulman» , Albin Michel ,2008 .

[10] – يكتب الرفاعي: «يصادر لاهوت الاسترقاق حريات وحقوق الكائن البشري الاجتماعية. ويكرسُ أشكال العبودياتِ، ويحجبُ لاهوتَ الرحمةِ والشفقةِ والمحبة. يجعلُ لاهوت الاسترقاق الإنسانَ عبدا ذليلا، خانعا مسحوقا، وينسى أن هذا النمطَ من العلاقةِ باللهِ يفضي إلى إلحاد مختبئ، وإن كانت هذه العلاقةُ تبدو مقَنَّعَة بتدينٍ زائف؛ ذلكَ أن الإنسانَ بطبيعتهِ ينفرُ مما يستعبده، ويمقتُ من ينتهكُ كرامتَه، ويكرهُ من يمتهنه». (الرفاعي، عبد الجبار، «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، التنوير- مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2018م؛ ص.224).

[11]– – هذه واحدة من عظيم الدلالات التي نستشفها، مثلا، من الجمع اللطيف، وبتحبيب إلهي، بين الحس والمعنى، بين متع الجسد والروح في قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة». رواه الإمام أحمد في «مسنده»، وأبو يعلى في «مسنده»، والبيهقي في «السنن الكبرى»..).

[12]– لمزيد بيان حول أسس هذا الأفق بما هي علامات مميزة للجمالية العرفانية، ينظر كتابنا الأخير: الحراق، محمد التهامي، «في الجمالية العرفانية.. من أجل أفق إنسي روحاني في الإسلام»، دار أبي رقراق، الرباط، 2020م، ص.51-56.

[13] – ابن العربي، محيي الدين، «تلقيح الأذهان»، مشرف عام أيمن حمدي، الإشراف العلمي أ.د. علي جمعة، مؤسسة ابن العربي للبحوث والنشر، القاهرة، 2020م، ص. 143-144.

[14] – بخصوص هذه المكانة يمكن الرجوع إلى: الحراق، محمد التهامي، «محورية الإنسان في المنظومة القرآنية..نحو مدخل قرآني لمعالجة أزمة المعنى»، ضمن مجلة «محاسن المجالس»، ع1/2019م،
ص.67-79.

[15] – روزبهان البقلي، أبو محمد صدر الدين، «تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن»، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2008م، المجلد 3، ص 149.

[16] – ابن عربي، محيي الدين،  «اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي»،  تحقيق بسام عبد الوهاب الجابي، دار الإمام مسلم، بيروت، ط.1/1990م: ص 69.

[17] – التلمساني المغربي، أبو مدين، «شرح الحِكَم الغوثية»، تحقيق أحمد فريد اليزيدي، تصنيف أحمد بن ابراهيم علان الصديقي الشافعي النقشبندي، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2008م، ص.44.

[18]– ابن عربي، محيي الدين، «الفتوحات المكية»، دار صادر، المجلد 3، ص.108.

[19]– نصر، السيد حسين، «قلب الإسلام.. قيم خالدة من أجل الإنسانية»، تعريب داخل الحمداني، سلسلة الدراسات الحضارية- مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2009م، ص.247.

[20] – لمزيد بيان لهذا الطرح، ينظر: «الميراث العرفاني وتأسيس الإنسية الروحانية: عتبات نقدية»، ضمن كتابنا: «الأنوار لا تتزاحم..من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين»، دار أبي رقراق، الرباط، 2022م، ص.121-153.

[21] – رواه البخاري في «صحيحه»، كتاب الرقائق، باب التواضع. وقد خصه بتأليف خاص محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ضمن كتابه «قَطر الولي على حديث الولي» (تحقيق السيد يوسف أحمد، ط.1 /2001م)؛ كما خصه أيضا بالتأليف عبد العزيز بن الصديق في كتاب طبع بطنجة عام 1380ﻫ، تحت عنوان «إثبات المزية بإبطال كلام الذهبي في حديث من عادى لي وليا».

[22] – بخصوص التوحيد الخاص عند القوم يمكن الرجوع إلى: الدلائي، محمد بلعربي، «فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار»، تحقيق ودراسة محمد التهامي الحراق، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، 2011م، ج1 (الدراسة)/ ص.346-361.

[23] – ينظر تفصيل ذلك في: الحراق، محمد التهامي، «مباسطات في الفكر والذكر»، دار أبي رقراق، الرباط، 2019م، ص.63-73.

[24] – لمزيد بيان حول «التلقي التصويفي للشعر» و»نظم الشعر الصوفي»، يمكن الرجوع إلى مقدمتنا لكتاب: مفتاح، عبد الباقي، «السّماع والمصطلحات والرّموز الصوفية عند عبد الكريم الجيلي وابن العربي… مع تحقيق كتاب (غنية أرباب السّماع) لعبدالكريم الجيلي»، تقديم محمد التهامي الحراق، عالم الكتب الحديث، إربد، 2018م، ص. 1-10..

[25] – وقفنا بنوع من التفصيل عند مجالي هذه الجمالية الروحانية، وخصوصا عند المجلى الشعري والمجلى السماعي في كتابنا: «في الجمالية العرفانية…»، م. س.

[26] –  تناولت الباحثة خديجة نور الإسلام ذلك بتفصيل في بحثها للتخرج ضمن «ماستر العقيدة والتصوف بالغرب الإسلامي» بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، برسم موسم 2018-2019م، وذلك في عمل غير منشور تحت عنوان: « البعد العقدي في المديح النبوي الصوفي: البردة والهمزية للإمام البوصيري أنموذجا».

[27] – ابن عجيبة، أحمد، « شرح البردة»، ومعه «كشف الكربة بتخريج أحاديث البردة»، لجامعه أبي فتوح عبد الله عبد القادر التليدي، طنجة، 2009م، ص. 212-213.

[28] – وهي المشار إليها في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} سورة الضحى، الآية 5. وإلى هذا المعنى يشار في البيتين التاليين المتداولين اليوم بين المسمعين:

قَرَأْنَا فِي الضُّحَى وَلَسَوْفَ يُعْطِي **  فَسَرَّ قُلُوبَنَا هَذَا العَطَاءُ

وَحَاشَا يَا رَسُولَ اللهِ تَرْضَى ** وَفِينَا مَنْ يُعَذَّبُ أَوْ يُسَاءُ

قاموس أهل الفلاح وكفاية المنشدين والمداح»، إعداد وترتيب أحمد حامد عبد الكريم الشريف العروسي: ص.57).

[29] –  راجع كتاب أبي الحسن الأشعري: «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد: 2/166؛ انظر أيضا: الشعراني، عبد الوهاب «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»، ضبطه وصححه عبد الوارث محمد علي: 2/385-387.

[30] –  للوقوف على نماذج نصية مضيئة في الباب، راجع: «»فتح الأنوار..»، م.س، قسم الدراسة، ج1/ ص316-320.

[31] – الوزاني الفاسي، المهدي، «تحفة أكياس الناس بشرح عمليات فاس»، تقديم وإعداد هاشم العلوي القاسمي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، 2001م، ص. 11.

[32] –  نفس المرجع، ص. 25-36.

[33] – ابن سودة، محمد العابد بن أحمد بن الطالب، «استنزال الرحمات والنفحات بإنشاد بردة المديح بالنغمات»، تحقيق عزيز حسيمي، نسخة مرقونة لرسالة دكتوراه قدمت تحت إشراف د. عبد الرحيم العلمي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد بن عبد الله بفاس، برسم موسم 2013-2014م، ص.448.

[34] – «فتح الأنوار…»، م. س، قسم الدراسة، ج1/ ص.146.

[35] – القشيري، أبو القاسم، «الرسالة القشيرية في علم التصوف»، دار أسامة، ط 1987م، ص 32.

[36] – ابن عجيبة، أحمد، «إيقاظ الهمم في شرح الحكم»، تحقيق محمد عزت، المكتبة التوقيفية، القاهرة، ط،
ص: 368.

[37] – الششتري، أبو الحسن، «ديوان أبي الحسن الششتري»، تحقيق علي سامي النشار، منشأة المعارف، الاسكندرية، ط.1/1377ﻫ/1958م، ص. 183.

[38] – الوزاني، التهامي، «الزاوية»، تقديم ومراجعة عبد العزيز السعود، منشورات تطاون أسمير، 1999م،
ص.183-184.

[39] – الحكيم، سعاد، «تاج العارفين الجنيد البغدادي.. الأعمال الكاملة»، دار الشروق، القاهرة، ط2، 2005م، ص110.

[40] – نفس المرجع، م. س، 131..

[41] – إن من أبرز ما يشكل كونية إشعاع مؤسسة إمارة المومنين في السياق المعاصر أدوارُها المتجددة للإجابة عن إشكالات راهنية مؤرقة، تلك الأدوار التي لخصها بدقة وعمق السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق في كلمته بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة  المرشدين والمرشدات أمام أمير المومنين وقداسة البابا فرنسيس بمناسبة زيارة هذا الأخير للمغرب بتاريخ 30-03-2019م، حيث جاء فيها: «في هذا السياق، سياق إمارة المؤمنين، تجد حلها كثير من الإشكاليات التي قد يشكو منها تدبير الدين في جهات أخرى، ومنها إشكالية حضور الدين في الدولة، وحمايته، وعلاقته بالسياسة، وبالحركات المسماة بالإسلامية، وبتطبيق الشريعة، وبالتيارات المتشددة، وبالحريات، وبالقيم الكونية، وبالتعليم الديني، وأخيرا مسألة العلاقة بالعلماء.

  1. فحضور الدين في الحياة، ضرورة فلسفية وعملية مرتبطة بالجواب عن سؤال المعنى، كما أنه حاجة أخلاقية ومعين للقوة المعنوية في حياة الأمة؛
  2. أما حماية الدين، بمعناه الخاص، فتتم بتوفير تأطير ديني بشري، مكون من علماء وأئمة، وبتوفير خدمات مناسبة في مجال العبادات والتعليم؛
  3. ذلك أن الدين في نظام إمارة المؤمنين يقع في مستوى الأمة، في حين يتم اقتراح البرامج السياسية في مستوى المجتمع، وهو الفضاء البشري المناسب لكل أنواع التفاوض والحوار؛
  4. إن التوجهات المتشددة التي تنكر للدين بعده الروحي التزكوي توجهات مُنكرة بالمغرب، فأمير المؤمنين يرعى الطرق الصوفية، ولاسيما قيمها الاجتماعية الداعمة للعطاء ومواساة الفقراء، وذلك على مثال القيم التي تكرس لها أعلام من أمثال أحد صلحاء مراكش، سيدي بالعباس، معاصر القديس فوانسوا الأسيزي، فقد كان مذهبه يقوم على أن العطاء دواء كل داء، وأن الوجود ينفعل بالجود؛
  5. يعمل المغرب بالمبدأ القرآني أن لا إكراه في الدين، وهكذا فممارسة الحريات في الفضاء العمومي يضبطها القانون، أما على الصعيد الفردي، وهو صعيد يهم الدين كذلك، فلا هادي للسلوك فيه ولا عاصم من الهلاك إلا بشعور يحاسب النفس وتغمره الأخلاق الروحانية؛
  6. إن قيم الإسلام، بمقتضى ثوابت المغرب، في توافق مع القيم في المرجعية الكونية، فلقد أسهم المغرب في بناء الأنسنة بحكمته وروحانيته وأعماله الثقافية والفنية؛ ولا يتحفظ إلا على جزئيات تتعلق بتراثه الخصوصي؛
  7. إن اختيار بعض الناس المدارس القرآنية لأبنائهم حق مشروع، وقد جاء قانون التعليم العتيق عام
    2001م لينظم إطار هذه المدارس وينمي برامجها بالمواد العلمية الأساسية ويخلق الجسور بينها وبين التعليم العمومي؛
  8. يقوم العلماء بمساعدة إمارة المؤمنين، وهم على حياد بالنسبة للتيارات السياسية في المجتمع، يصدرون الفتاوى في الشأن العام، وقد نشروا عام 2007م عملا علميا فريدا من نوعه يدحض، بالحجة الشرعية، ادعاءات المتطرفين».

[42] – الحديث أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان»، والقضاعي كما في «مسند الشهاب»، وغيرهما.

 

كلمات مفتاحية : ,