إمارة المؤمنين: رعايتها للأقاليم الصحراوية المغربية وإشعاعها إفريقيا بين الماضي والحاضر

إمارة المؤمنين: رعايتها للأقاليم الصحراوية المغربية وإشعاعها إفريقيا بين الماضي والحاضر

ذة. ماجدة كريمي أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس- فاس.
ذة. ماجدة كريمي أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس- فاس.

ألقيت هذه الكلمة خلال الندوة العلمية الدولية التي نظمها، بفاس، موقع الثوابت الدينية المغربية الإفريقية بالتعاون مع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة في موضوع “قول العلماء في الثوابت الدينية المغربية الإفريقية”، يومي السبت والأحد 25 و26 ذي القعدة 1443هـ الموافق لـ 25 و26 يونيو 2022م.

 تقديم

يروم هذا المقال تسليط الضوء على ذروة سنام الثوابت الدينية المغربية وهي إمارة المؤمنين وذلك وفق تحليل تاريخي ينبني على استحضار الذاكرة الدينية لبلادنا واعتمادها في تفكيك تجلياتها في الوقت الحاضر.

فإذا كان كثيرون من اعتبروا أن مقاربة الحديث عن الحقل الديني بالمغرب تنحصر في دائرة الباحثين المتخصصين في العلوم الشرعية، فقد اتضح أن التحليل التاريخي الذي يتوخى البحث في المجال الدينى لا يمكن إلا أن يقدم إضافة نوعية لفهم هذا الحقل بأبعاده المتنوعة.

وعليه، سوف نغوص في عبق سجل تاريخ المملكة المغربية الشريفة لنقف من خلال مختلف المحطات الزمنية على ملامح رعاية مؤسسة إمارة المومنين للأقاليم الصحراوية المغربية – وهي ليست وليدة اليوم – بل وبلوغ إشعاع هذه الرعاية إلى العديد من الدول الإفريقية، مع إبراز التوازن الرفيع في الجمع بين المرتكزات الدينية الأصيلة لهذه الممارسة وبين أشكال الممارسة الحداثية الراهنة التي تبناها مغرب العهد الجديد وطنيا وقاريا تحت الرعاية الرشيدة لأمير المؤمنين محمد السادس نصره الله وأيده.

مدخل: البيعة قوام إمارة المؤمنين في المغرب، التأصيل التاريخي

بادئ ذي بدء لا يختلف اثنان حول حقيقة تاريخية ثابتة وهي أن التدبير السياسي للدولة المغربية ينبني على أساس ديني وذلك منذ عصر الشرفاء الأدارسة إلى حدود الشرفاء العلويين مرورا بعصر المرابطين والموحدين والمرينيين ثم  السعديين. فالشرعية تشكل النقطة الثابتة في خط استمرار الحكم في المغرب، وإمارة المؤمنين – باعتبارها المؤسسة العليا التي تدبر أمر المؤمنين – تبقى  بالنسبة للمغاربة السلطة التنفيذية لما شرعه الله ورسوله مستمدة شرعيتها من  البيعة[1].

ومن المعلوم أن قوام ممارسة الدولة (أية دولة في أي زمان ومكان) سيادتها، هو توفر دعامتين أساسيتين: المجال/ التراب ثم السكان/ الرأسمال البشري المتواجد بذلك المجال ذلك أنه بثبوت حصول هذين المعطيين نسلم – دون جدال – قيام روابط إقليمية سيادية بين الدولة والمجال نتيجة تعاهد واتفاق بينهما وهو ما يسمى في الدول الإسلامية بالبيعة.

هذا ولا نظن أن هناك من تغيب عنه شروط الإمامة[2]، لكن يبقى التذكير بشرطين وهما كالتالي:

1 – الاختيار: اختيار الشخص المؤهل لهذه المهمة على يد أهل الحل والعقد وهذا ما يطلق عليه مصطلح المبايعة.

2 – الالتزام: وهو ما يجعل من عقد البيعة ممارسة فعلية لعهد تبادلي بين من قدموا البيعة وبين الشخص المبايع على أساس أن من باتت في عنقه البيعة يكون ملزما بواجبات ذات طابع ديني؛ ومنها حفظ الرعايا في أنفسهم ودينهم وتحصين بلادهم بالعدة المانعة تحسبا لأي عدوان، وأخرى ذات طابع مدني كتوفير ظروف العيش الكريم وتنمية البلاد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لأن مصلحة الرعية مسؤولية ملقاة على عاتقه وذلك عملا بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

بعد هذه التوطئة التوضيحية للأسس التي ترتكز عليها إمارة المؤمنين، سوف نقدم حججا دامغة من سجل التاريخ المغربي الوطني والإفريقي والتي تؤكد توفر كل هذه المقومات ماضيا وحاضرا، مع طرح التساؤلات التالية[3]:

الشرعية الدينية تشكل النقطة الثابتة في خط استمرار إمارة المؤمنين في المغرب، هل عرفت هذه المؤسسة تطورا معينا؟ وإذا طالها التطور فعلا ما هي ملامحه؟

– كيف يمكننا الوقوف على تمظهرات المزاوجة الوثيقة بين السلطة الدينية والدنيوية لإمارة المؤمنين في ظل العهد الجديد بالأقاليم الصحراوية المغربية وإشعاعها إفريقيا؟

الشق الأول: إمارة المؤمنين ورعايتها للأقاليم الصحراوية المغربية  ممارسة فعلية عبر العصور

  • 1 – الأدارسة 

إن الدولة الإدريسية هي أول دولة مغربية وسيطية اهتمت بالمجال الصحراوي إلى أن بلغت أقصى نقطة في جنوبه ألا وهي منطقة زاغة وهي توجد في النيجر حسب ما أفادتنا به المصادر وعلى رأسها ما كتبه ابن خرداذبة[4]. فقد مارس الشرفاء الأدارسة الوظيفة الدينية والسياسية المنوطة بهم بالأراضي التي افتتحوها عاملين على نشر الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عن حوزته، أولا بين قبائل تكنة بوادي نون وينسب دخولها الدين الإسلامي إلى عبد الله بن إدريس بن إدريس[5]. وثانيا بين القبائل الإفريقية المحاذية لهم جنوبا.

  • 2 – المرابطون

سارت الدولة المرابطية بعد ذلك على نفس المنوال، فعبد الله بن ياسين الذي رفع شعار «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» لجمع شمل القبائل الصنهاجية بالمجال الصحراوي (لمتونة، جدالة، مسوفة) ونشر الدين الإسلامي وفق مذهب مالك، أسس على نهر السنغال رباطا بات فيه إماما محاطا بمئات الطلبة[6]. ففيه كون مجموعة من المريدين يرسلون شمالا لترغيب مختلف القبائل الصنهاجية في الإسلام وفق مذهب مالك وكذا جنوبا إلى مملكة غانة للقيام بنفس المهمة[7].

ولعل خطابه الشهير يثبت ممارسته الوظيفة الدينية والسياسية وذلك حينما قال: «اخرجوا على بركة الله تعالى وأنذروا قومكم وخوفوهم عقاب الله وأبلغوهم حجته فإن تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الحق وأطاعوا فخلوا سبيلهم وإن أبوا وتمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم استعنا بالله تعالى عليهم وجاهدناهم»[8].

وقد نضجت هذه الممارسة أكثر مع مرحلة القوة بالنسبة للدولة المرابطية على عهد يوسف بن تاشفين، ذلك أنه ولى على الصحراء الكبرى ابن عمه أبا بكر بن عمر، وفي هذا يقول ابن أبي زرع: «وسار الأمير أبو بكر إلى الصحراء فهدنها وسكن أحوالها»[9]. وقدم له عدة أعطيات كدعم مادي ليقوم بمهمته السياسية بتلك الأقاليم حيث حادثه قائلا: «جئتك بكل ما عندي من المال والكسا والطعام لتستعين بها على الصحراء»[10].

ونظرا لاتساع مجالات الدولة المرابطية كلفه يوسف بن تاشفين بتسيير أمور الأقاليم الصحراوية في تبعية تامة له باعتباره أمير المسلمين[11]. وفي هذا الأمر أكبر دليل على توفير الحماية لرعاياه بهذه الأقاليم وما والاها جنوبا[12].

  • 3 – الموحدون

إن اتخاذ ابن تومرت لقب الإمام المهدي يعد ترجمة فعلية لاتساع المجال الذي جسدته الإمبراطورية الموحدية وقوتها، الأمر الذي تأكد على عهد عبد المؤمن الكومي إذ تم الإفصاح عن خلافتين: خلافة المشرق والخلافة المغربية[13].

ولعل ما كانت توفده القبائل الصحراوية من ضرائب لخزينة الإمبراطورية من إبل وأبقار وما كانت تلتزم به من جبايات[14] دليل قاطع على ممارسة الإمام للسلطة السياسية بها، ناهيك عما قدمه صاحب كتاب «الاستبصار» من معلومات حينما قال: «ونحن الآن في شهر رجب الفرد سنة 587ﻫ– 1191م وكلمة التوحيد والهداية في بلاد الصحراء متصلة من طرابلس إلى مدينة غانة وكوكو»[15]، ذلك أن مصطلح التوحيد عند الموحدين يعني تقديم البيعة والانضواء تحت إمرة إمام الإمبراطورية الموحدية. ومما يؤكد ذلك ما ذكره ابن عذاري قائلا: إن «أناسا كثيرة من جيش غانية وعمرة الصحراء اشتركت مع المنصور في غزوة شلب سنة 585ﻫ– 1189م على حكم التطاوع»[16]. ونحن نعلم أن المشاركة في العمليات العسكرية للموحدين طواعية كانت إحدى المظاهر الأساسية لتقديم الولاء والبيعة لهم.

ثم إن حرص الموحدين على توفير رعايتهم للتجار الذين كانوا ينطلقون من هذه الأقاليم الصحراوية صوب مملكة غانة يزكي هذا الأمر. فقد وجه الخليفة المنصور الموحدي خطابا هاما لملوك هذه المملكة يطلب فيه توفير العناية اللازمة لهم[17]، مما ينم عن حس سياسي عالي في ممارسة مسؤوليته – باعتباره إماما للمسلمين – في تدبير أمور الإمبراطورية وذلك ليس على الصعيد الداخلي فقط وإنما كذلك على الصعيد الإفريقي.

  • 4 – المرينيون

إن إشارة ابن أبي زرع في حديثه عن أمير المسلمين يعقوب المريني قائلا: «في سنة أربع عشرة وسبعمائة (…) عقد أمير المسلمين لولده الأمير الأجل عمر على بلاد القبلة بمدينة سجلماسة وبلاد درعة وما والى ذلك إلى الصحراء ففوض له الأمر في خراجها وجميع أمورها»[18]. وأنه عمل على غزو بلاد درعة من توات وتيكورارين وتمنطيت، يؤكد ممارسة سلطته السياسية على الحزام الجنوبي للبلاد بدليل ما أورده العمري حينما تحدث عن الخراج الذي كان يقدمه أصحاب المراعي والماشية في النصف الأول من ق 8ﻫ- النصف الأول من ق 14م للسلطان أبي سعيد المريني ومن جاء بعده[19].

هذا وقد حرص السلاطين المرينيون على تحقيق إشعاع إفريقي لوظيفة إمارة المؤمنين في شقها الديني حينما ساندوا ملوك مملكة مالي- وبالذات على عهد منسى موسى – في نشر الدين الإسلامي الحنيف وفق مذهب مالك، وشقها  الدنيوي بربط علاقات دبلوماسية معهم تضمنت العديد من الاتفاقيات وعلى رأسها توفير الرعاية اللازمة للمغاربة سواء منهم التجار أو القضاة أو الفقهاء حتى إنه وجدت عدة أحياء خاصة بهم[20].

  • 5 – السعديون

شكل الغزو الإبيري خطرا على البلاد والعباد فكان أن تكلف شرفاء درعة بفريضة الجهاد والدفاع عن حرمة البلاد فتجاوزوا حدود الوعظ والإرشاد ليخوضوا معترك السياسة.

وإذا كان السوس حاضرا بقوة في انبعاث الدولة السعدية، فقد ظل الجنوب المغربي في أقصى نقطة بجوف الصحراء يستأثر بكبير اهتمامات سلاطينها بدليل التحالف الذي تم بينهم وبين الكونفدراليات القبلية هناك مثل الترارزة والبراكنة وغيرها…[21] تأهبا لأي تمرد أو استنفاض قد يبرز في هذه المناطق النائية عن السلطة المركزية، ويكفي أن نستدل على الاهتمام الشديد بمصالح رعايا الأقاليم الصحراوية بحرص المنصور الذهبي على عقد ولاية الصحراء لابنه أبي فارس الذي قام بالمهمة على أحسن وجه. هذا ولم ينحصر توفير السلاطين السعديين الرعاية المشروطة بإمارة المؤمنين للقبائل الصحراوية، بل تجاوزتها لتصل إلى بلاد السودان ذلك أن بيعة حكام كانم وبورنو قد وصلته باعتباره أمير المؤمنين[22].

  • 6 – العلويون

إن فترة حكم الشرفاء العلويين تجسد بامتياز الممارسة الوازنة لوظيفة إمارة المؤمنين سواء منها الدينية أو الدنيوية، وعليه سنحاول تتبع مختلف تجلياتها.

أ – الدعاء للسلطان في المساجد في صلاة الجمعة

إن انتماء ساكنة الأقاليم الصحراوية إلى مجتمع ترحلي لم يمنعهم من بلورة الروابط الدينية التي تربطهم بأمير المؤمنين والتعبير عنها. فأمام غياب أماكن ثابتة للمساجد كانت صلاة الجماعة تقام يوم الجمعة أينما حلت القبائل في تنقلاتها  وفي ختامها يقام الدعاء لأمير المؤمنين[23].

ب – الظهائر

إذا كانت الفترة الموحدية هي الحقبة الأقدم التي تثبت ممارسة الدولة المغربية لهذا القرار السلطاني إذ ظهرت ثلاث إشارات لدى ابن صاحب الصلاة[24]، ليستمر هذا التقليد خلال حكم المرينيين[25]، فقد عرفت منعطفا جديدا مع السعديين إذ إلى جانب ظهائر التوقير خصوا أصحابها بامتيازات مادية وذلك بمنحهم معاشات دائمة أو إعفائهم من بعض الالتزامات العامة كالضرائب وغيرها وكذا امتيازات معنوية تمنح للرعايا المخلصين، هذا وقد انضافت ظهائر ذات مهام دولية[26].

وقد تطورت أشكال وأنواع هذه الظهائر أكثر مع السلاطين العلويين وبالذات انطلاقا من عهد المولى ابن عبد الله بن إسماعيل فتجلت في تقليد رجالات بعدة مناصب مثل: ناظر الأحباس- قائد قبيلة – مفاوض مع الدول الأجنبية – مكلف بالمصادقة على الاتفاقيات المبرمة مع الدول الأجنبية…[27]

وإذا استوقفنا ظهير السلطان مولاي الحسن الذي خص به أهل تجكانت حينما استأذنوه في بناء مسجد من أجل إقامة صلاة الجمعة، فتجدر الإشارة إلى أن العديد من القبائل الصحراوية حظيت بذلك نذكر منها دار بالأعمش وأبو جارات وإبراهيم بن مبارك التكني والشيخ ماء العينين[28] علما أن هذه الظهائر الشريفة تتسم بالديمومة بحيث إن معظم السلاطين المعايشين لها يقومون بتجديدها مرتكزين على ظهائر أسلافهم.

ج – المعاهدات مع الدول الأجنبية

إن تحليل المعاهدات التي أبرمتها الدولة العلوية الشريفة مع مختلف الدول الأجنبية مثل: إسبانيا – فرنسا – بريطانيا – بلجيكا… تفيد التزام السلاطين بتوفير الحماية لأراضي الإيالة الشريفة وضمان حصانتها من أي اختراق أجنبي وذلك وفق ما تمليه عليهم الوظيفة السياسية لإمارة المؤمنين.

وهنا سوف نستحضر الإغراء الذي طال أسرة آل بيروك وكانت رائدة في الشأن التجاري بالأقاليم الصحراوية، فالسلاطين العلويون عملوا على إحباط أية محاولة تسعى إلى فتح علاقات مباشرة بين وادي نون والأوربيين إلا تحت إشرافهم مع التتبع لأدق التفاصيل تحسبا لأي محاولة تستهدف الاستلاب الاقتصادي لهذه الأقاليم[29]
 وعبرها الاستلاب الاقتصادي للدول الإفريقية المجاورة.

هذا ولا تفوتنا الإشارة إلى «الحركة» التي قام بها السلطان مولاي الحسن لإحباط مشروع ماكينزي البريطاني سنة 1895م والتي قطعت الطريق على كل من سولت له نفسه من الأوربيين محاولة اتخاذ المبادلات التجارية ذريعة للتدخل في شؤون الأقاليم الصحراوية للإيالة الشريفة[30].
 وهو القرار الحكيم الذي يزكي ملامح القوة في ممارسة الوظيفتين السياسية والدينية لإمارة المؤمنين.

د – مباركة وتزكية عملية الجهاد ضد الأطماع الاستعمارية: الشيخ ماء العينين نموذجا، تمثيليته السياسية لأمير المؤمنين بالأقاليم الصحراوية

إن هذه المباركة ستزداد رسوخا بعد أن اشتدت وطأة الأطماع الاستعمارية بالأقاليم الصحراوية خاصة خلال النصف الثاني من القرن 19، ذلك أن الفرنسيين انطلقوا من السنغال ووجهوا أطماعهم نحو هذه الأقاليم. فقد حرص السلاطين العلويون على مساندة رعاياهم الأوفياء في مهمة مواجهتهم، وهنا لابد من التذكير بأن التطور الهام الذي عرفه الجهاز المخزني خلال هذه المرحلة، والذي تمثل في ظهور «جهاز القائدية» في العديد من القبائل المغربية، كان من البديهي أن تندرج الأقاليم الصحراوية – بحكم تبعيتها لسلطة المخزن-  ضمن الجهاز التنظيمي العام للإيالة الشريفة ويكون له في المنطقة نواب يديرون شؤونها تحت وصايته ووفق سياسته، ولعل الأدوار المتميزة التي قام بها الشيخ ماء العينين خير دليل على ذلك.

فاختيارنا لهذه الشخصية يرتكز أولا وقبل كل شيء على كونه عايش العديد من السلاطين العلويين ونال الشيء الكثير من ثقتهم، وثانيا لمكانته المتميزة بين القبائل الصحراوية إذ كانت تثق في رجاحة رأيه فتحكمه في جل خلافاتها وتنضبط لتوجيهاته في مقاومة التدخل الأجنبي.

تمثيليته السياسية لأمير المؤمنين إفريقيا:

إن تمثيلية الشيخ ماء العينين للسلاطين العلويين لم تقتصر على قبائل الصحراء فقط، بل تجاوزتها إلى باقي أمراء بلاد شنقيط.

بالفعل فالمقاومة البطولية التي قادها الشيخ ماء العينين «ببلاد البيضان» تفسرها السلطة الروحية التي اتسم بها السلاطين العلويون إلى حدود نهر السينغال، إذ كان سكان السودان الغربي يفدون على السلطان مولاي الحسن الأول يستنجدونه ضد القوات الفرنسية بوصفه أميرا للمؤمنين[31]. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، علاقته بأمراء بلاد شنقيط، التي كان له بها أتباع كثر من العلماء والمشايخ[32]
 إذ أخذوا عنه طريقته القادرية وغيرها من الطرق الصوفية وكذا أسلوب تدبيره للشأن السياسي والإداري خاصة في مواجهة الأطماع الاستعمارية.

علاقته بأمراء أدرار

استقبله سيدي أحمد بن أحمد بن عبده في أدرار بكثير من التبجيل والتكريم، علما أن هذه العلاقة ستتوطد أكثر في عهد ابنه أحمد الذي زار الشيخ بنواحي الساقية الحمراء، مباشرة بعد توليه مقاليد الإمارة. فقد كان الشيخ يسدي النصح ويسعى دائما إلى صلاح وطمأنينة هذه الإمارة خاصة بعد وفاة الأمير أحمد بن سيدي أحمد، حيث اضطربت الأوضاع في أدرار ووقع انشقاق لبعض القبائل، مما حدا بالمختار بن عبدة وابنه أحمد أن يطلبا عبر رسالة من الشيخ التدخل لتهدئة الأمور. وبلغت هذه العلاقات أوجها في عهد الأمير سيد أحمد بن عبدة الذي تربى تحت رعاية الشيخ ودرس عليه.

– علاقته بأمراء الترارزة

أول أمرائها الذي أقام علاقة مع الشيخ هو الأمير أعلي بن محمد الحبيب، الذي كان يبعث للشيخ بالهدايا والرسائل، كما ظلت العلاقة مستمرة في ظل من جاء بعده من أمراء آل محمد الحبيب لا سيما أحمد الديد بن محمد فال[33].

– علاقته بأمراء البراكنة

ترجع هذه العلاقة إلى بداية زمن الأمير أحمد بن سيدي اعلي الذي كان يتبادل معه الرسائل في شأن جهاد النصارى، فكان من نتائج التنسيق بينهما هجرة الأمير أحمد وابنه إلى الشيخ للمشاركة في حملة الجهاد ضد القوات الفرنسية الزاحفة على بلاد شنقيط، هذه العلاقة التي استمرت حتى بعد وفاة الشيخ ماء العينين.

– علاقته بإمارة تكانت

علاقة تعود إلى اللقاء الذي جمعه بالأمير بكار بن أسويد أحمد سنة 1277ﻫ، وقد دامت طيلة حياة بكار وتعززت بتوحيد الجهود في مواجهة الغزو الفرنسي لبلاد شنقيط، والذي كان سببا في استشهاد هذا الأخير في معركة بوكادوم سنة 1905م وهو يقارع الفرنسيين.

هذا وقد سار عثمان بن بكار على نهج أبيه في تلبية دعوة الشيخ ماء العينين للجهاد[34]، إذ شاركت هذه الإمارة مشاركة فعالة في الحركة الجهادية بقيادة عثمان وأخيه أحمد محمود وخاصة في معركة النميلات إلى جانب الشيخ وفي معركة تجكحة بجرأة وشجاعة كبيرة في القتال.

– علاقته بأمراء لمحيميد «الحوض»

تعود علاقة الشيخ بهذه الإمارة إلى زمن علاقته بأهله بـ «الحوض» وخاصة عندما التقى في تكانت بأحمد محمود بن لمحيميد الذي أكرمه غاية الإكرام[35]، حيث استمرت علاقة الود والمحبة بينهما إلى زمن محمد محمود. ويذكر الشيخ النعمة في مسموعاته أن الشيخ ماء العينين كان ينوه بعدالة أحمد محمود بن لمحيميد وبصفة الشجاعة وعلو همته وبعزمه الذي لا يبارى وأنه يستحق أن يكتب تاريخه وتدون وقائعه[36].

والحق أن تحركات الشيخ ماء العينين ظلت محط رصد الفرنسيين، فكان موضوع اهتمام الساسة والجرائد الفرنسية، نذكر ما سجله البعض منها بخصوص إحدى البرقيات المرفوعة إلى القادة الفرنسيين وهي تقول: «إن ماء العينين بلغ به الاعتبار حد جعل سلطته الروحية والزمنية محل إجماع في أدرار ورأس بوجدور…»، وأنهيت البرقية بهذا التعليق: «يجب أن ندرك مدى أهمية هذا التحرك بالنسبة لنا والأسباب الحقيقية لهذا السفر، ودرجة اليقظة التي ينبغي أن نكون عليها»[37].

فهذا الترصد إن دل على شيء فإنما يدل على قوة الوظيفة السياسية التي مارستها مؤسسة إمارة المؤمنين والتي كان الشيخ ماء العينين أحد رموزها سواء في الأقاليم الصحراوية أو في شنقيط.

تمثيليته الدينية لأمير المؤمنين  بالأقاليم الصحراوية

كان الشيخ ماء العينين يبذل جهدا كبيرا لحماية المجتمع الإسلامي من الأسباب المؤدية للتفرقة بين الأمة، فكان ينبذ الجدل العقيم والتعصب للمذهب لأنهما حسب رأيه سببان كافيان لإفساد الإخاء وتفرقة الوحدة، حيث كان دائما يجتهد للتوفيق بين المذاهب[38].
 مع العلم أن المذهب المالكي هو المذهب الذي ظل سائدا بالأقاليم الصحراوية ليشمل العديد من الدول الإفريقية، ومما يثبت قوة حضوره أن جل علماء الصحراء ركزوا على دراسة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وبالأخص دراسة مختصر خليل: شرحه وتحليله ونظمه وذلك خدمة لمذهب مالك بن أنس.

ولنستحضر ما قاله أحد أبناء الأقاليم الصحراوية المغربية (قاضي الداخلة في الثمانينات) حينما دعا الجميع قائلا: «فلنعش كلنا مع هاته الحقائق التاريخية التي تبرز لنا مجهودا لا يستهان به بل ومثيرا لتمام الفخر والاعتزاز الذي قام به أولئك الأعلام خدمة وإكبارا لمذهب مالك بن أنس، هذا المذهب الذي لم تعرف تلك الجهة كغيرها من ربوع المملكة المغربية أي مذهب سواه اعتنقته الأغلبية الساحقة من مجتمعنا على مر العصور ولم يكتب لأي مذهب الخلود ولا البقاء في المغرب رغم المحاولات اليائسة التي ما فتئ بعض المذاهب يقوم بها ولكن بدون جدوى»[39].

التمثيلية الدينية لأمير المؤمنين في إفريقيا على يد الطريقة التيجانية:

إذا تأكد الإشعاع الديني لإمارة المؤمنين إفريقيا في أبهى صوره بنشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، فلا يمكننا إغفال الطريقة التيجانية التي لعبت أدوارا رائدة في ذلك، فهي إن عمت مختلف أقاليم المغرب: أطرافه الشرقية بما فيها الصحراء الشرقية وسلسلة جبال الريف والفحص والسهول الأطلسية والسوسية، فقد شملت سلسلة جبال الأطلس والصحراء المتاخمة لها وكذا بلاد درعة وما والاها حتى السمارة إذ ظهرت أسماء أعلام بارزة قامت بهذه المهمة. فالفقيه محمد الحافظ العلوي الشنقيطي المنتمي لقبيلة إدو علي (ت1254ﻫ/1838م) يعد أول من نقل تعاليم الطريقة التيجانية إلى الصحراء المغربية وبلاد شنقيط بعدما أخذ الطريقة على سيدي أحمد التيجاني بفاس[40].

لقد توفرت لدى هذا الأخير صفات التمكن من علوم الشريعة الإسلامية والإقناع أهلته لذلك الأمر المهم خاصة وأننا نعلم أن بلاد شنقيط كانت تطفح آنذاك بفطاحلة العلماء المسلمين فساعده على ذلك «مقدمون» أوكلت إليهم مهمة التعريف بأذكار الطريقة وإعطاء أورادها لمن يرغب في ذلك من أهل السودان الغربي (يشمل كل بلاد السينغال وبلاد مالي الحالية والجزء الشمالي من غينيا وشمال نيجيريا).

وبخصوص الحديث عن الزاوية التيجانية بهذه البقاع فقد اقترن اقترانا شديدا باسم الحاج عمر الفوتي، فهو العالم الفقيه الذي «تتلمذ على أساتذة إما مغاربة أو أخذ عن مغاربة، من بلاد شنقيط، متشبعين بأحكام مذهب مالك وتعاليمه، فهو المذهب الذي وصل إشعاعه إلى الأصقاع الشنقيطية من فاس ومراكش والرباط ومكناس وغيرها من المدن المغربية…»[41].

فقد أخذ عن سيدي أحمد التيجاني ثم محمد الحافظ الشنقيطي ثم مولود فال ثم عبد الكريم الناقل، هذا ونجد أن التيجانية لم تكتف بقوة حضورها في السودان الغربي كطريقة صوفية لها الكثير من الأتباع، بل أنها بلغت مرتبة تكوين ما يمكننا تسميته بإمبراطورية إسلامية تيجانية[42]، وهي الإمبراطورية التي أظهرت تقاربا كبيرا بينها وبين المغرب خاصة في الربع الأخير من القرن 19 عندما بدأ التهديد الفرنسي يلقي بضلاله عليها، حتى أن محمدا الكبير ابن الحاج عمر كتب إلى السلطان مولاي الحسن الأول سنة 1301ﻫ/ 1884م يطلب منه المدد لمحاربة العدو الفرنسي معلنا له أن البلاد بلاده وهو نائب عنه فيها[43].

ومن ثم نعتبر نجاح الطريقة التيجانية في تأسيس إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لتجسيد الوظيفة الدينية لإمارة المؤمنين على المستوى الإفريقي.

الشق الثاني: ممارسة إمارة المؤمنين بالأقاليم الصحراوية المغربية وإشعاعها إفريقيا خلال العهد الجديد

بعد هذا الرصيد الغني الذي استقيناه من سجل تاريخ الدولة المغربية الشريفة وبالذات بأقاليمها الصحراوية وهو يمتد على مدار عدة قرون، لا يمكن – بحكم السيرورة التاريخية – إلا أن تستمر الوظيفة الدينية والدنيوية لإمارة المؤمنين بنكهة تتماشى مع خصوصيات الفترة الراهنة ومتطلبات الألفية الثالثة.

وهنا لا تفوتنا الإشارة إلى أنها تعد عنصرا أساسيا في هوية المغرب الحداثي بدليل دسترتها منذ أول دستور للمملكة سنة 1962 إلى حدود آخر دستور لها سنة 2011 مرورا بباقي الدساتير لكل من سنة 1972- 1992- 1996م.

ولنتوقف عند آخر دستور لبلادنا لنجد في فصله الثالث أن «الإسلام دين الدولة»، وأن فصله الواحد والأربعين نص على أن «الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية» لتؤكد الفصول:
10- 21-22-23-33 هي الأخرى حرص جلالة الملك محمد السادس نصره الله على تفعيل وسائل الحماية لرعاياه المنوطة به كأمير للمؤمنين[44]
. وهذا معناه التأكيد على الوظيفتين لهذه المؤسسة: الدينية وذلك بالحفاظ على الإسلام كدين رسمي للمملكة، والدنيوية وذلك بتدبير أمر رعايا المملكة وحماية مصالحهم.

فكيف نلمس تطبيق هذا الشكل الحداثي لإمارة المؤمنين بالأقاليم الصحراوية المغربية وإشعاعها إفريقيا خلال العهد الجديد؟

هناك إشكالات كثيرة ومتنوعة لكننا سنختار الحديث عن ذلك انطلاقا من الآتي:

التنمية الاقتصادية بالأقاليم الصحراوية بأبعاد إفريقية: شكل من أشكال الوظيفة الدنيوية لإمارة المؤمنين

إن التنمية الاقتصادية خادمة للتنمية الاجتماعية وهي قوام ورش الجهوية الموسعة التي انخرط فيها المغرب الراهن والتي تعتبر الوجه الحداثي للمرتكز السياسي في وظيفة إمارة المؤمنين ألا وهو حفظ مصالح الرعية. فمنذ اعتلاء عرش أسلافه الميامين أعلن جلالة الملك محمد السادس نصره الله عن إصراره على النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الصحراوية بصورة أكثر فعالية، لتتحول إلى نموذج متميز في التنمية وفي إعادة إحياء الدور الذي لعبته في الامتداد الإفريقي للمغرب.

فبموجب ظهير 96.47 لـ 2 أبريل 1997م، وكذا مرسوم 17 غشت 1997م. باتت هذه الأقاليم – التي كانت في تقسيم سنة 1971م جهة واحدة – ثلاث جهات[45]
 هي:

جهة كلميم – واد نون.

جهة العيون- الساقية الحمراء.

جهة الداخلة – وادي الذهب.

ومن ثم أعطى جلالته الانطلاقة للعديد من المشاريع منها ما له بعد محلي وطني، ومنها ما له بعد إفريقي دولي كما تثبته مختلف القطاعات.

القطاع الفلاحي:

في ظل أكبر الإكراهات (خصاص مائي/ حرارة مرتفعة/ زحف الرمال / تربة فقيرة…)، تبقى الجهود المبذولة في هذا القطاع تثمن تحديات جمة في قطاع يظن البعض أنه من سابع المستحيلات أن ينجح بهذه الأقاليم. فما سجله هذا القطاع من تطور باعتماد تقنيات حديثة جعل منه أحد الرهانات الكبرى لتنمية هذه الأقاليم بل ولتوفير فائض يكون أحد أهم صادرات المغرب إلى الدول الإفريقية الشقيقة.

القطاع الصناعي:

إذا ركزت المشاريع الصناعية في بدايتها على الصناعة الغذائية التي تستند على تحويل المواد البحرية بالدرجة الأولى، وإذا كان النظام الحرفي التقليدي هو الذي كان يبصم هذا القطاع، فقد عرف ما يخالف ذلك خاصة وأن الخيار الصناعي بتلك الأقاليم يعتبر رهان المستقبل لتحديث الاقتصاد وتحسين اندماجه في الاقتصاد الوطني والقاري بل والدولي.

الصيد البحري:

تمتد الأقاليم الصحراوية على مساحات هامة تطل على الساحل الأطلسي، فجهة العيون بوجدور- الساقية الحمراء تتميز بواجهة بحرية هي من أطول الواجهات البحرية على الصعيد الوطني، أضف إلى ذلك أنها تحتوي على مجموعة من الخلجان والمرافئ الطبيعية مما يشكل مدخلا آمنا للزوارق. والحق أن قطاع الصيد البحري عرف تحولا ملحوظا من ضمن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها هذه الأقاليم إثر استرجاعها، ومن جملتها تغيير النظرة للحرف عموما وقطاع الصيد البحري على وجه التحديد، فهناك من يتحدث عن «ثورة تنموية» شهدها هذا القطاع تجلى إشعاعها بشكل قوي على المستوى القاري.

الأبعاد القارية للوظيفة الدنيوية لإمارة المؤمنين

مع مغرب العهد الجديد انتقلت العلاقات المغربية – الإفريقية إلى آفاق رحبة تحت شعار تعاون جنوب- جنوب ذلك أنه إذا كانت فترة ما بين 1956 و1999م قد شهدت توقيع المغرب مع العديد من الدول الإفريقية 515 اتفاقية، فما بين سنة 2000 و2017م وقعت 949 اتفاقية[46]، ليرتفع العدد بعد عودة المغرب إلى بيته الإفريقي.

وإذا حصلت الدول الغربية من القارة على أكثر الزيارات الملكية وتوقيع الاتفاقيات (السنغال 8 زيارات و4 زيارات للنيجر وثلاثة للكوت ديفوار والغابون)، فإن التوجه إلى دول شرق إفريقيا دليل على أن المغرب يسعى إلى أن يكون فاعلا أساسيا خارج المنطقة التقليدية (إفريقيا الغربية)[47].

بالفعل، فمن عمق إفريقيا وفي جولاته الأولى دعا جلالة الملك محمد السادس أيده الله المجتمع الدولي إلى الالتزام بسياسات ناجعة للتغلب على تداعيات الأزمة الاقتصادية الدولية التي زادت في تهميش القارة السمراء، فسهر على تكثيف وتنويع الشراكات وكذا الاستثمارات بالعديد من الدول الإفريقية.

ولعل أكبر حدث سجلته هذه العشرية الأخيرة في التعامل المغربي الإفريقي صناعيا هو مشروع «أنبوب الغاز إفريقيا-الأطلس» مع جمهورية نيجيريا الفدرالية، هذا وحصول المغرب على الموافقة المبدئية للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (سيدياو)، يعد قيمة مضافة بخصوص رفع مختلف تحديات التنمية بهذا الفضاء الإفريقي خاصة وأن المشاريع الصناعية لها بها نصيب كبير.

هذا ولا نغفل الحديث عن تكثيف أمير المؤمنين من أساليب رعايته للجالية الإفريقية، ذلك أنه إذا كان للجانب التعليمي  نصيب هام إذ تستقبل الجامعات المغربية الآلاف من الطلبة الأفارقة يتلقون علومهم العليا فيها، فللجانب الصحي حضور هام وذلك بتقديم خدمات هامة في هذا الباب.

الأبعاد القارية للوظيفة الدينية لإمارة المؤمنين

في ظل حرصه القوي على توطيد العلاقات مع حكام دول إفريقية لها اتصال وطيد مع المغرب عبر التاريخ مثل:  موريتانيا – غابون- ساحل العاج- سينغال- غينيا – الكونغو وغيرها …، تعد دولة مالي، إحدى الدول الإفريقية التي حظيت بالتفاتة خاصة من طرف أمير المؤمنين الملك محمد السادس أيده الله  خاصة بعد الأزمة التي اندلعت منذ يناير 2012م إذ دعا بقوة إلى ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة المالية من الانقسام، الأمر الذي يندرج في إطار الجهود الدؤوبة والموصولة التي ما فتئ المغرب يبذلها من أجل إقرار الأمن ومحاربة الإرهاب بالقارة الإفريقية.

بالفعل لقد صار المغرب على الشريط الساحلي من الصحراء، مرجعا لكل من يسعى إلى السلام والاستقرار عن طريق نشر الإسلام المعتدل الذي ينبذ العنف بكل أشكاله استنادا إلى تعاليم المذهب المالكي المعتدل[48] وذلك بتفعيل دور الطرق الصوفية خاصة عبر الطريقة التيجانية والطريقة القادرية. وعليه فارتباطا بالجانب الديني يعتبر الجانب الأمني من أهم القطاعات التي سجلت مؤسسة إمارة المؤمنين حضورها إفريقيا في الفترة الراهنة، فالمغرب في طليعة الدول التي أعربت منذ سنوات عن قلقها إزاء تهديد الإرهاب في إفريقيا، ولذا عمل جاهدا على التصدي لهذه الآفة مزاوجا في سياسته بين وفائه للتراث التاريخي المشترك وتطلعه لمستقبل واعد على كل الأصعدة بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والروحية…

خاتمة

كما هو الحال في أي بحث أكاديمي يعتمد التحليل الدياليكتيكي أي المتنقل بين الأمور النظرية المنتقاة من مختلف العلوم (وقد اعتمدنا في هذا المقال إلى جانب علم التاريخ كلا من العلوم الشرعية والعلوم القانونية) ومحاولة تقديم تجارب ووقائع من أرض الواقع (وقد انتقينا من سجل تاريخ المملكة المغربية العديد من الأحداث الموثقة)، اخترنا  الحديث عن مؤسسة إمارة المؤمنين وفق منهج علمي قوامه تخطي حواجز الحدود الزمنية بربط الجسور بين الحاضر والماضي بحثا عن ملامح ذاكرة التقاطع بين وظائفها سابقا وما عرفته حاليا من ممارسات حداثية وذلك عن طريق استنطاق ومساءلة التاريخ.

والحق أن ما يشفي غليل السؤال العلمي الأكاديمي حول تجليات هذه المؤسسة بالأقاليم الصحراوية ماضيا، تنبع من قناعتنا بفاعلية استحضار هذا الإرث التاريخي العريق لرصد الوظيفة الموكولة لهذه الأقاليم في تحقيق إشعاعها إفريقيا على العهد الجديد، ذلك أنه ولئن كان البعد التاريخي بعدا ماضويا فلا يمكن الجزم بانفصال الماضي عن الحاضر ولا عدم تأثير الأول على الثاني، إذ لا يعقل القول بروابط وليدة الحاضر مجثتة عن الماضي..

وتبقى قناعتنا في هذه المقاربة هي ضرورة ابتكار البحث المبدع، فلا يمكن الوقوف على تراث أي أمة بدون المرور من محك ابتكار السؤال الجديد والمقاربة الجديدة… فيجب أن نعترف بأن اختيار ركوب قطار تجديد مناهجنا العلمية بربط الحاضر بالماضي في تطلع إلى المستقبل سوف يساهم في صنع كتابة علمية جديدة
وعليه فهذه المقاربة جعلتنا نتوصل إلى التخريجات التالية:

– إن مؤسسة إمارة المؤمنين راسخة في ثوابت الدولة المغربية الشريفة وقد ظلت إلى يومنا هذا محافظة على أسسها المتينة ومستوعبة في الوقت نفسه التحولات التي تفرضها مستجدات الألفية الثالثة.

– إن الأقاليم الصحراوية المغربية تعتبر مختبرا مجاليا يجسد بامتياز ممارسة مؤسسة إمارة المؤمنين سلطتها بكل ثقل وقوة سواء منها السلطة الدينية أو الدنيوية وذلك ليس على الصعيد المحلي فقط وإنما كذلك على الصعيد الإفريقي.

– إن التذكير ببعض المواقف التي تؤكد ممارسة سلاطين الدولة المغربية الشريفة للوظيفة الدينية والدنيوية لإمارة المؤمنين هي مقاربة لا تتعامل مع الذاكرة بمعالجة تستحضر محطة من محطات الماضي للتذكر فقط، وإنما تتعامل معها جاعلة إياها نبراسا لفهم الواقع الراهن وقوة خلاقة لاستشراف المستقبل.

الهوامش

[1] -نشير إلى أن هناك صنفين من البيعات المغربية.

– بيعات الحواضر: ويغلب عليها نهج التطويل والأسلوب السجعي الذي يعكس التكوين الثقافي لكاتبها.

– بيعات القبائل: ويغلب عليها طابع الاختصار والتبسيط ومن ضمنها بيعات قبائل الصحراء.

[2] – الماوردي، «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»، دار الكتب العلمية، بيروت –لبنان، الطبعة الأولى، 1985م، صص: 24-25.

[3] – إنها تساؤلات بالغة الأهمية أردنا من خلال إثارتها فتح آفاق الاشتغال العلمي الرصين بالنسبة للباحثين المهتمين بتاريخ المغرب بشكل عام وتاريخه الديني بشكل خاص.

[4] – إبراهيم حركات، «طبيعة العلاقات بين المغرب وإفريقيا الغربية في العصر الوسيط «، دعوة الحق، العدد: 269، 1988م، ص:168.

محمد الغربي، «الجذور الإدريسية لإمبراطورية غانا والأصول السينغالية للدولة المرابطية»، دعوة الحق، العدد: 269، 1988م. صص: 236-237.

[5] – مصطفى ناعمي، «الصحراء من خلال بلاد تكنة، تاريخ العلاقات التجارية والسياسية»، منشورات عكاظ، الرباط 1988م، ص: 37.

[6] – ابن عذاري، «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، ج: 4، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1983م، ص: 18.

[7] – Moraes Farias, “The Almoravids, som questions concerning the caracter of the mouvements during its period of closest with the western Soudan“, in bull IFAN 29, 1967, PP:794-878.

عصمت عبد اللطيف دندش، «دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا»، دار الغرب الإسلامي 1988م، ص: 150.

[8] – ابن أبي زرع، «الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس»، راجعه عبد الوهاب بن منصور، الطبعة 2، الرباط 1999م، ص: 163.

[9] – نفسه، ص: 169.

[10] – ابن عذاري، «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، ج: 4، ص: 22-23.

[11] – اكتفى يوسف بن تاشفين بلقب أمير المسلمين لاعتقاده بضرورة تنصيب ديني من الخليفة العباسي، ذلك أنه خاطب المستظهر العباسي الخليفة لعهده ببغداد، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور (…) وطلب من الخليفة أن يعقد له على المغرب والأندلس. انظر: ابن خلدون، «ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر»، ج: 6، تصحيح وتعليق: تركي فرحان المصطفى، بيروت – لبنان 1999م، ص: 184.

ED ; Michaux Bellaire, « La Souverainté et le Califat au Maroc », in R .M.M 1925, P :132

[12] – ماجدة كريمي، «الحكم الذاتي بأقاليمنا الصحراوية، المرتكزات التاريخية»، مطبعة فاس بريس 2010م، ص: 118-121  .

[13] – كان من المحتمل أن تصبح هذه الأخيرة هي الخلافة الوحيدة بعد القوة التي بلغتها خاصة على عهد يعقوب المنصور الموحدي الذي استنجد به صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين حيث شملت المغرب الأقصى والأوسط والأدنى إلى حدود طرابلس إضافة إلى الأندلس.

[14] – البيذق، «أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين»، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط 1971م، صص: 77-78.

[15] – مؤلف مجهول، «الاستبصار في عجائب الأمصار»، نشر وتعليق: سعد زغلول عبد الحميد، الدار البيضاء 1985م، ص: 111.

[16] – «البيان المغرب»، القسم الموحدي، تحقيق: محمد إبراهيم الكتاني – محمد بن تاويت – محمد زنيبر – عبد القادر زمامة، دار الغرب الإسلامي – بيروت، ص: 174.

[17] -المقري، «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، ج: 5، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1968م، صص: 103-105

[18] – ابن أبي زرع، «القرطاس»، ص:528.

[19] – مصطفى أبو ضيف أحمد، «أثر القبائل العربية في الحياة المغربية خلال عصري الموحدين والمرينيين»، دار النشر المغربية 1982م، ص: 299.

[20] – ابن بطوطة، «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، ج :2، تحقيق: علي المنتصر الكتاني، بدون تاريخ، صص: 776-797.

[21] – Omar Kan, « Les Relations entre le Maroc et les Etats riverains du Fleuve Sénégal de la fin du xv au milieu du xvII siècle », Colloque international, Marrakech 23- 25 octobre 1992, publication de l’institut des Etudes Africaines, Rabat 1995, PP :25-46.

[22] – اليفراني، «نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي»، تقديم وتحقيق: عبد اللطيف الشاذلي، مطبعة النجاح الدار البيضاء 1992م، ص: 42. الفشتالي، «مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا»، تحقيق: عبد الكريم كريم، الرباط 1971م، ص: 68.

[23] – أحمد بن الأمين الشنقيطي، «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط»، الطبعة 2، القاهرة 1958م، صص: 398-404.

[24] – من بعض الالتزامات العامة كالضرائب وغيرها. -»المن بالإمامة»، تحقيق: عبد الهادي التازي، دار الأندلس، الطبعة الأولى، بيروت 1964م – ص: 427/ 429/ 470.

[25] – لسان الدين ابن الخطيب، «الإحاطة في أخبار غرناطة»، تحقيق: محمد عبد الله عنان، القاهرة 1977، المجلد: 4، ص: 453-455-457.

[26] -عبد العزيز محمد الفشتالي، «مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا»، ص:57.

[27] – ابن زيدان، «إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس»، ج: 3، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 2008م، ص: 264-286/ ج:4، ص:481.

[28] – محمد حكيم بن عزوز، «السيادة المغربية في الأقاليم الصحراوية المغربية من خلال الوثائق المخزنية»، الدار البيضاء 1981م، وثيقة رقم: 62، ص: 130.

[29] – هناك رسالة صارمة في هذا الشأن بعث بها السلطان المولى محمد بن عبد الرحمان لأخيه مولاي العباس يزوده بالتعليمات التي يجب أن تطبق حين إجراء المفاوضات مع الإسبان بخصوص بناء مركز تجاري بهذه الأقاليم. – الخزانة الحسنية، سجل رقم: 7413، محفظة رقم: 3.

[30] – ابن زيدان، «إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس»، ج: 5، ص: 382-383.

[31] – وقد تجلت وظيفته هذه عند ظهور الأطماع الاستعمارية نحو السواحل المغربية ودول جنوب الصحراء التي احتد التنافس بين الدول الأوربية حولها وخاصة فرنسا وبريطانيا وإسبانيا. هؤلاء الذين حاولوا استمالة الشيخ وعزله عن السلطة المركزية باعتباره القائد الذي يرجع إليه الأمر في شتى الأمور بهذه الربوع، لكن الشيخ امتنع بشكل قاطع وتفطن لنوايا الاستعماريين ووجه العديد من الرسائل إلى القبائل الصحراوية من أجل أخذ الحيطة والحذر من خطورة الوضع الذي كان يزداد كلما قام المستعمر بتوجيه جواسيسه من أجل اكتشاف البلاد ومعرفة خيراتها، وعادات سكانها…

[32] – الطالب أخيارين الشيخ مامينا، «الشيخ ماء العينين، علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي»، ج1، مؤسسة مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي، مطبعة بني يزناسن، سلا 2005م، ص: 160.

[33] – نفسه، ج 1، ص: 162.

[34] – نفسه.

[35] – نفسه، ج 1، ص 163.

[36] – نفسه.

[37] -نفسه، ص 142.

[38]  – وهو ما دفعه إلى إصدار كتاب بعنوان «دليل الرفاق على شمس الاتفاق»، والذي حاول فيه أن يجمع بين المذاهب الأربعة، والتي اعتبرها كلها موصلة إلى الحقيقة وأنها تروم تحقيق وتطبيق الشريعة.

[39] – الجيلاني العبد السالمي، «خدمة المذهب المالكي في الصحراء المغربية»، ندوة: «الإمام مالك، إمام دار الهجرة»، ج: 3، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، أبريل 1980م، ص: 262. (صفحات المقالة: 261-301).

[40] – للتوسع أكثر انظر:

– أحمد الأزمي، «الطريقة التيجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن التاسع عشر الميلادي»، ج: 1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية 1425ﻫ/2000م، ص: 337-349.

– ولد الحسن أحمد، «موريتانيا ودورها في نشر الإسلام في غرب إفريقيا»، مجلة الصحوة، عدد 1، شتنبر 1989م، ص: 39-41.

[41] -أحمد الأزمي، «الطريقة التيجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن التاسع عشر الميلادي»، ج: 2، ص: 356.

[42] – ولعل هذا ما عبر عنه د. أحمد الأزمي حينما قال: «الحركة الصوفية الإصلاحية بالسودان الغربي، بذرة مغربية طيبة، عبر كل أطوار نموها وترعرعها إلى أن أثمرت قيادة إسلامية فذة جددت الإسلام وحاربت الوثنية والمسيحية بكل اقتدار». – «الطريقة التيجانية في المغرب والسودان الغربي خلال القرن التاسع عشر الميلادي»، ج: 3، ص: 349.

[43] – محمد إبراهيم الكتاني، «مصادر تاريخ إفريقيا من خلال المخطوطات المغربية»، مجلة الأكاديمية، عدد: 4، نونبر 1987م، ص: 232.

[44] – نسجل على أن ما ورد بالمادة الثانية من الظهير الشريف رقم: 82-11-1 الصادر بتاريخ 14 رجب 1432 ه الموافق 17 يونيه 2011م حينما أصدر جلالته ظهيرا يدعو فيه المغاربة للمشاركة في الاستفتاء حول مشروع الدستور المعروض، يعتبر نوعا حداثيا لتطبيق مبدأ الشورى مع عامة الشعب احتكاما للآيتين الكريمتين:
﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ و﴿وشاورهم في الأمر﴾.

[45] – لقد تم تحديدها لاعتبارات طبيعية، ذلك أن القاسم المشترك بين هذه الجهات هو المناخ الصحراوي الجاف بالإضافة إلى تشابه الموارد الاقتصادية التي تعطي توجها لمزاولة أنشطة معينة.

[46] – ماجدة كريمي، «اقتصاديات الصحراء المغربية، الحدود بين الذاكرة العنيدة والرهانات التنموية وطنيا وقاريا»، منشورات مركز الدراسات والأبحاث: «الصحراء المغربية، التنمية الجهوية والامتداد الإفريقي»، مطبعة النخيل 2017م، ص: 85-88.

[47] – عبد الحق المريني، «الرحلة الملكية السامية لثلاث دول إفريقية (السنغال- الكوت ديفوار- الغابون)»، منشورات القصر الملكي، أبريل – ماي 2013م.

[48] – إن المتتبع لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة سيجد فيهما الكثير من الأوامر التي تحث المسلمين على الوسطية والاعتدال في كل أمورهم، إذ بالخوف والفتن لا يقوى الإنسان على الثبات على عقيدته ولا على ممارسة عبادة أو معاملة.

 

كلمات مفتاحية : ,