إمارة المؤمنيـن وتجلياتها في الماضي والحاضر

إمارة المؤمنيـن وتجلياتها في الماضي والحاضر

مداخلة بعنوان “إمارة المؤمنين وتجلياتها في الماضي والحاضر” للدكتور أبو بكر دوكوري مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية والإسلامية، ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ببوركينا فاسو خلال الدورة التواصلية الثانية للمؤسسة في موضوع: «الثوابت الدينية في إفريقيا: الواقع والآفاق» المنعقدة أيام 6 و7 و8 رمضان 1439هـ الموافق لـ 22 و23 و24 ماي 2018م بالرباط.

أبو بكر دوكوري مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية والإسلامية، ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ببوركينا فاسو
الدكتور أبو بكر دوكوري مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية والإسلامية، ورئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة ببوركينا فاسو

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

يشهد العالم اليوم أحداثا كبيرة، وتغيرات جذرية، وتحولات جوهرية، أثرت سلبا في نظامه السياسي والفكري والاجتماعي، إذ نلاحظ عدم الاستقرار السياسي في معظم دوله وانتشار الفتن في كثير من مناطقه، مما أدى إلى قتل الأبرياء وترويع الآمنين وتشريد الآلاف بل الملايين من سكانه. أضف إلى ذلك تدمير البنى التحتية وانهيار اقتصاد العديد من الدول بحيث تحتاج إلى عقود من الزمن لتصل إلى ما كانت عليه من النهضة العمرانية والنمو الاقتصادي والاجتماعي، كل ذلك بسبب الاستراتيجيات الخاطئة التي تبناها البعض، والتي تقوم على اعتبار الثورات الشعبية والتمرد على الأنظمة القائمة حلاًّ لمشكلات الدول وسبيلاً لنهضتها، وقد ثبت فيما بعد أن هذه الرؤية خاطئة إذ ازدادت أوضاع هذه الدول سوءاً وتدهوراً وفق ما تقدم ذكره.

إن أمن هذه الدول واستقرارها يتحقق بالتمسك بتعاليم الدين السمحة ومراعاة السنن الكونية التي وضعها الله في خلقه؛ إذ حث الإسلام على النظام والانضباط في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة؛ منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : «إذا كُنتُم ثلاثة في سفر فَأَمِّرُوا عليكم أحدكم ذاك أمير أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم»[1]. فإذا كان هذا في أمر خاص ومهمة محدودة؛ وهو السفر، فما بالك بالشأن العام للأمة، التي اختارها الله لتكون خير أمة أُخرجت للناس، وحملها مسؤولية هداية الناس وإنقاذ البشرية؟ فلا يجوز أن تُترك هذه الأمة تتخبط في الفوضى بدون قائد يوجه مسيرتها ويدبر شؤونها؟ طبعا لا؛ لأنه تعالى يقول: ﴿أيَحْسبُ اُ۬لِانسَٰنُ أَنْ يُّتْرَكَ سُدى﴾[2] أي مهملا بحيث لا يؤمر ولا ينهى، فلا يمكن لأي مجتمع ان يكون سعيدا إلا إذا كان مجتمعا صالحا رشيدا، لذلك ألزم الله كل فرد من أفراده أن يكون مسؤولاً عن نفسه وعن أعماله مُحاسَبا عليها ،فإذا استقامَ وصلح في نفسه استطاع أن يصلح غيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رََعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهَُوَ مَسْئُولٌ عَنَْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ..»[3]. فعُلم أن الشارع الحكيم أناط بكل فرد من أفراد المجتمع مسؤولية، سواء كان تابعاً أو متبوعاً، حَاكِماً أو محكوماً، وهذه المسؤولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام تتمثل قبل كل شيء في التعاون على البر والتقوى، ويبدأ ذلك بالتزام الجميع بتعاليم الإسلام والتمسك بشريعته السمحة.

وإذا رجعنا إلى نصوص الكتاب والسنة نجد أن الإسلام لم يفرض على الناس شكلا مُعينا لنظام الحكم؛ لأن مصالح الناس تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأماكن، فرب قانون يحقق مصلحة في مكان أو زمان ما أو لمجتمع ما ولا يحققها في زمان أو مكان آخر، أو لأمة أخرى، فالعقل البشري قاصر لا يقوى على الإدراك الشامل والإحاطة التامة بكل المصالح المتعلقة بالعباد في مختلف الأزمنة، لذلك فما يصدر منه من القوانين والأحكام لا يخلو من القصور والنقص، بخلاف ما صدر من خالق البشر الذي أحاط علمه بكل شيء، والمتصف بالرحمة العامة والعدالة المطلقة فلا يمكن أن يتصف بالقصور أو الجور أو القسوة، فوضع الشارع الحكيم الأحكام الأساسية والمبادئ العامة التي يقوم عليها نظام الحكم في كل زمان ومكان، وترك الفروع والتفاصيل لكل مجتمع أو أمة تتصرف فيها بما يحقق أمنها ومصلحتها، على ألا تتعارض هذه الفروع مع الأحكام الأساسية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، فإذا التزم الجميع بهذه الأحكام وأدى كل من الحكام والمحكومين ما عليهم من حقوق وواجبات سعدوا جميعا، فالمصدر الأساسي للحكم في الإسلام هو التعاليم الإلهية التي يجب على الجميع الالتزام بها.

ولما تعذر قيام كل أفراد المجتمع بالأعباء والتكاليف المتعلقة بالحكم أوجب الله عليهم أن يختاروا من يحمل عنهم تبعة القيام بهذه التكاليف، ومن هنا ظهر مفهوم البيعة؛ أي: بيعة الشعب للحاكم. ومن يتم اختياره لحفظ أمن البلاد ورعاية شؤون الرعية قد يحمل لقب الرئيس أو الملك أو السلطان أو الحاكم أو غير ذلك، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وإن كانت العادة عند المسلمين تسميته بالإمام أو الخليفة أو أمير المؤمنين.

ويقصد بالإمام في هذا السياق من يتولى الإمامة الكبرى في الدولة لا مجرد من يُقتدى به في الصلاة أو في علم من العلوم، فيعتبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أول إمام في الإسلام؛ لأن الله تعالى قال عقب ذكر بعض الأنبياء:

﴿وَجَعَلنَْاهُمْ أَ ِئَِمَّةً يهَْدُونَُ بأِمَْرِناَ﴾[4]، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء وسيد المرسلين، وأطلِق هذا اللقب بعده صلى الله عليه وسلم على كل من خلفه في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وإن كان أول من خلفه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قد اشتهر بلقب الخليفة، وهو أول من لُقّب بهذا اللقب في الإسلام، واستمر إطلاقه على كل من يتولى أمر المسلمين ويكون قائداً للدولة الإسلامية ابتداء من الخلفاء الراشدين ومروراً بالأمويين والعباسيين والعثمانيين، وبعض الحكام في الأندلس وشمال إفريقيا ،فكان الولاة والسلاطين يقدمون ولاءهم للخليفة العام إلى أن تم إلغاء هذا اللقب في عام 1924 عند قيام الجمهورية التركية. أما لقب أمير المؤمنين، فأول من لُقِّب به هو عمر بن الخطاب؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يُلقَّب بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خلفه عمر بن الخطاب في تولي أمور المسلمين وقيادة دولتهم لقّبه بعض الصحابة بخليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عُمر: «هذا أمر يطول، كلما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم»[5]، فتوافقوا على تسميته بأمير المؤمنين، فأصبح عند أهل السنة والجماعة لقباً لكل من تولى الإمامة الكبرى للمسلمين. أما الشيعة فقد خصصوا هذا اللقب لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه دون غيره بناء على اعتقادهم أن الإمامة العظمى للمسلمين لا تكون إلا في آلِ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

أهمية إمارة المسلمين في تاريخ الإسلام

لا يخفى على عاقل أهمية إمارة المؤمنين في حياة المسلمين، من أجل ذلك وضع العلماء شروطا لمن يتولاها مثل: العلم والتقوى والعدالة والأمانة والكفاءة.. ليتمكن من القيام بأعبائها ومسؤولياتها الكثيرة والصعبة؛ لأنه مكلف بنشر دعوة الإسلام وإقامة ميزان العدل بين جميع أفراد المجتمع، وأداء الأمانات بمختلف أنواعها والدفاع عن قواعد الإسلام، والذود عن كرامته وعن مصالح المسلمين.

وطريقة اختيار أمير المؤمنين تكون بتوافق أو بقرار الأغلبية من أهل الحل والعقد؛ لأنهم أعلم بالأكفأ من الناحية الدينية وأدرى بالأصلح من الناحية العملية، أما العامة فلا اعتبار لرأيهم لعدم أهليتهم للنظر في مثل هذه القضايا.

ويكون الاختيار كذلك بتزكية من الحاكم السابق، كما حدث في تزكية الخليفة أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب فيقبله المسلمون ثقة في أميرهم واحتراماً له. وهذا يحدث حتى في الديمقراطيات المعاصرة، فإن الرئيس قد يرشح أو يعين أحداً فيتوقف نفاذ التعيين على مصادقة البرلمان أو يخضع لاستفتاء شعبي بالموافقة. فإذا تم اختياره بناء على توافر الشروط المعتبرة فيه فإنه يجب أن يبايعه الجميع على السمع والطاعة، وأن يدعو له الجميع بالسداد والتوفيق والصلاح؛ لأن في صلاحه مصلحة كبيرة للبلاد وخيرًاً كثيرًاً للمواطنين، فالإنسان لا بد أن يكون صالحاً في نفسه أولا ليتمكن من إصلاح غيره. وهذا هو السر في الدعاء لأمير المؤمنين في المغرب عقب صلاة الجمعة في كل مساجد البلاد وفِي كل المناسبات المباركة.

المسؤولية المشتركة بين أمير المؤمنين والرعية

البيعة أهم ما يربط الحكام بالمحكومين؛ لأنها عهد بين الطرفين للتعاون على الخير وقيام كل طرف بما له وما عليه من الواجبات لتحقيق مصالح البلاد والعباد. وقد لخص الماوردي واجبات الحاكم في عشرة أمور على النحو التالي:

  • حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه السلف.
  • تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين والمتخالفين لتحقيق العدل ومنع الظلم.
  • حماية الوطن من الفتن وإقرار الأمن.
  • إقامة الحدود لصيانة محارم الله.
  • تحصين الثغور وحراستها من العدو.
  • جهاد من عادى الإسلام.
  • جباية الفيء والزكوات وفق ما أوجبه الشرع نصّاً واجتهاداً؛ أي: حسن تدبير موارد الدولة.
  • حسن تقدير العطايا والاستحقاقات في بيت المال.
  • اختيار الأكفاء من العاملين.
  • مراقبة تنفيذ ومتابعة سير العمل في الدولة[6].

وباستعراض ما ذكره الماوردي يتبين أن الحاكم مكلف بتأمين نشر دعوة الإسلام في كل مكان، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين، والمحافظة على أمن البلاد واستقراره، وتنمية الاقتصاد الوطني بما يحقق السعادة والعيش الكريم للجميع، فهذا هو المطلوب وإن اختلفت التعبيرات والأسماء، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء، فلا مشاحة في الاصطلاح. وكذلك سواء تعددت المصالح وتنوعت بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، فالمهم تحقيق الأهداف والمقاصد والمصالح، وبذلك يستحق الحاكم من المواطنين الوفاء بالبيعة لقوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اِ۬للَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ اُ۬لَايْمَٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اُ۬للَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاًۖ﴾[7]، فالعهد أو الوفاء به للإمام أو للأمير يكون مقابل قيامه برعاية شؤون المواطنين، لكونه وكيلا عن الأمة ونائبا عنها في تحقيق مصلحتها. فإذا تمت البيعة على أساس مشروع وجب التزامها وعدم نقضها، لأن عدم البيعة أصلا أو نقضها من دون وجه حق يعد خروجا عن الجماعة، إضافة إلى ما في ذلك من إثارة للفتن التي تضعف شوكة الأمة وتمزق وحدة المسلمين، لذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد التحذير فقال: «مَن خَلَعَ يداً مِن طَاعَة لَقِيَ اللهَ يوم القيامة لا حُجّة له، ومن مات وليس في عُنُقِه بَيْعَة مَاتَ مِيتَةً جَاهِليَّة»[8].

ويلزم من البيعة كذلك شرعا طاعة المبايع والرضا به حاكما وأميرا، قال تعالى:﴿ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْ[9]. وفِي حديث عبادة ابن الصامت قَال: «بَايَعَنَا رسول الله صلى اَلله عليه وسلَم عَلَى السَّمْعِ وََالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأثَرَةً عَلَيْنَا، وَأنْ لاَ نُنَازعَِ الأمَْرَ أهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»[10]. وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأمَِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأمَِيرَ فَقَدْ عَصَانِي»[11].

ويجب على الرعية كذلك غض الطرف عن بعض العيوب، والصبر على بعض الأخطاء التي قد تصدر من الحاكم، وذلك حقناً للدماء وجمعاً للكلمة واجتنابا لإثارة الفتن في المجتمع؛ لأن الحكام بشر وليسوا معصومين بل يعملون فيصيبون ويخطئون شأن كل البشر، لذلك يجب ألا تقابل أخطاؤهم بالتمرد عليهم وحمل السلاح ضدهم، بل باستخدام الوسائل المؤدية إلى منع هذه الأخطاء  دون أن يترتب على ذلك فساد كبير، كالنصح والتوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة. ولا ينبغي أن تلمس من عملية الإصلاح أية إهانة في حق الحَاكم؛  لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أهَانَهُ اللَّهُ»[12].

هذا وعمل الحاكم بالشورى يرفع نسبة نجاحه في اتخاذ القرارات، لذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمرِ﴾[13]، وقال في وصف المؤمنين:﴿ وَأمْرُهُمْ شُورَى بيْنَهُمْ﴾[14]. وامتثالا لهذه النصوص الشرعية كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في كل الأمور، وينزل على رأيهم إذا ظهرت له فيه المصلحة، والأمثلة عَلى ذَلك كثَيرة كما في غزوة بدر وغيرها، وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: «مَا رَأيْتُ أحَدًا أكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

إن من المسلّم به عقلا وشرعا أن يكون الحاكم قدوة للمحكومين حتى قيل في المثل السائر: «الناس على دين ملوكهم». فالحاكم إذا كان صالحاً أحبته الرعية ولَم تتردد في طاعته وتنفيذ أوامره، وهذا هو سر نجاح نظام إمارة المسلمين في المغرب، فأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس وأسلافه من الملوك العلويين يعترف بإمارتهم للمؤمنين جميع المسلمين سواء كانوا من أهل السنة والجماعة الذين يشترطون في أمير المؤمنين الكفاءة بشروطها المعروفة عندهم ،أو كانوا من الشيعة الذين يشترطون بالإضافة إلى تلك الشروط أن يكون من آلِ بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، مما مكن ملوك المغرب الشرفاء من تثبيت ركائز الاستقرار السياسي والأمن الوطني والتقدم الاقتصادي والسلام الاجتماعي في المغرب. ومن أهم هذه الركائز:

  • التمازج بين الأصالة والحداثة، مما مكن من بناء دولة المؤسسات ومزاولة جميع نشاطاتها السياسية، والتشبث بقواعد الديمقراطية دون التفريط في الثوابت الدينية أو القيم والتقاليد الموروثة.
  • التشاور المستمر بين العلماء وولاة الأمر، والتعاون في كل الأمور الدينية والدنيوية لخدمة البلاد والعباد، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في مشاوراته الدائمة لأصحابه. ويظهر ذلك جليا في إنشاء المجالس العلمية في مختلف مناطق المملكة والتي تضم خيرة العلماء ويتولى رئاستها العليا أمير المؤمنين شخصيا.
  • ترسيخ مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، بدليل إقرار مدونة الأسرة التي ضمنت لشقائق الرجال ونصفهم المكمل لهم جميع حقوقهن الدينية والوطنية والمدنية.
  • الحرص على القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وبث الخير بين أفراد المجتمع المغربي وغيرهم، وتعليم الناس الإسلام الصحيح الذي يقوم على الاعتدال والوسطية والخيرية لإسعادهم في الدنيا وإنقاذهم في الآخرة. وما هذه الدروس الحسنية المباركة التي تقام سنويا، وكذلك إنشاء معهد محمد السادس لتأطير الأئمة المرشدين والمرشدات، ومؤسسة جلالته للعلماء الأفارقة إلا وسائل عملية لتحقيق ذلك التعاون مع الأشقاء والجيران سواء كانوا من العرب أو الأفارقة أو غيرهم، وكذلك الانتماء إلى المنظمات الإقليمية والدولية لتفعيل المزيد من التقارب والتضامن والتعاون من أجل تحقيق المصالح المشتركة والسلام العالمي.
  • رد الاعتبار إلى الأسر الدينية والعلمية العريقة، وكذلك سلالات الصالحين الذين أسهموا إسهاماً كبيرًاً في خدمة الإسلام وإصلاح مجتمعاتهم دينيا واجتماعيا، وكذلك دعم هؤلاء ماديا ومعنويا لتمكينهم من المحافظة على تراثهم العلمي والروحي.
  • الإحسان إلى الناس في داخل البلاد وخارجها، وإكرام علماء الأمة تقديرًاً لمكانتهم وجهودهم الإصلاحية وتشجيعاً لهم، فهم «ورثة الأنبياء» كما ورد في حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم[15].
  • وكذا تقديم المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين والمنكوبين في كل مكان تحقيقاً لمبدأ التضامن الإسلامي والأخوة الإنسانية.
  •  التمسك الشديد بوحدة التراب الوطني المغربي، وعدم التفريط بشبر واحد من أرض الوطن، وهذا الأمر يشكل إجماعاً لدى جميع المغاربة على اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية.

وَمِمَّا تقدم نُدرك بما لا يدع مجالا للشك أن إمارة المؤمنين حققت للمغرب ولشعبه كل ما تصبو إليه الدول من الوحدة والأمن والاستقرار، والرفاهية والتقدم في مختلف المجالات بفضل تشبث المغاربة بالعرش العلوي الشريف، وإدراك أمير المؤمنين وشعبه المؤمن للمسؤولية المشتركة في تحقيق مفهوم إمارة المؤمنين وفِي التشبث بمستلزماتها. فلا يستغرب هذا التلاحم الذي نشاهده في المغرب بين الحاكم ورعيته، عمل وعدل وإحسان من قبل الحاكم، وحب ووفاء وولاء من قبل الشعب.

نسأل الله تعالى أن يحفظ للمغرب ولأمتنا وللإنسانية جمعاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وأن يديم عليه نعمة الصحة والعافية مع طول العمر ودوام السعادة، وأن يحفظ له ولي عهده الأمين ويبارك فيه كما بارك في آبائه وأجداده، وأن يحفظ المغرب ويسعد شعبه ويبارك في أرضه في أمن وأمان وسلام دائم ما دامت السماوات والأرض، إنه نعم المولى ونعم المجيب.

الهوامش

[1] أخرجه الإمام البزار في مسنده، رقم: 329.

[2] سورة القيامة، الآية: 35.

[3] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب قوله تعالى: ﴿أطِيعُوا اللَّه وَأطَِيعُوا الرَّسُولَ وَأوُلِي الْمَْرِ مِنْكُمْ﴾، رقم: 7138. وأخرجه الإمام مسلم في صحَيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل ،..رقم: 1829.

[4] سورة الأنبياء، الآية: 72.

[5] الكامل في التاريخ، لابن الأثير، ج.2، ص.435.

[6] انظر: الأحكام السلطانية، للماوردي، ص .40.

[7] سورة النحل، الآية: 91.

[8] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة ،..رقم: 1851.

[9] سورة النساء، الآية: 58.

[10] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»، رقم: 7056. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ،..رقم: 1709.

[11] أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما، رقم: )2957(، ورقم: )1835(.

[12] أخرجه الإمام الترمذي في سننه، رقم: 2224. وقال: حديث حسن غريب.

[13] سورة آل عمران، الآية: 159.

[14] سورة الشورى، الآية: 35.

[15] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر». أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه ،باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم ،رقم: 223. وأخرجه الإمام أبو داود في سننه، باب الحث على طلب العلم ،رقم: 3641.

المصادر المعتمدة

  • القرآن الكريم.
  • الأحكام السلطانية، لأبي الحسن علي بن محمد البغدادي، الشهير بالماوردي، دار الحديث، القاهرة.
  • الجامع الكبير (سنن الترمذي)، لأبي عيشى محمد بن عيشى الترمذي (تـ 279هـ)، تحقيق: بشار عواد معروف. نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت- لبنان، ط.1:(1416هـ-1996م.)
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه )صحيح البخاري(، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي. تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. دار طوق النجاة، بيروت- لبنان، ط.1: 1422هـ.
  • سنن ابن ماجه، لابن ماجة أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون. دار الرسالة العالمية، بيروت- لبنان، ط.1: 1430هـ.
  • سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي السِّجِسْتاني. تحقيق:محمد محيي الدين عبد الحميد. المكتبة العصرية، صيدا، بيروت- لبنان.
  • الكامل في التاريخ، لأبي الحسن علي بن أبي الكرم الجزري، عز الدين ابن الأثير. تحقيق: عمر عبد السلام تدمري. دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان ،ط.1: (1417هـ-1997م.)
  • مسند الإمام البزار، لأبي بكر أحمد بن عمرو العتكي، المعروف بالبزار. تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، وآخرآن، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ،ط.1: (من 1988 إلى 2009).
  • المسند الصحيح المختصربنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم)، لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان.
كلمات مفتاحية : ,