التعاون بين المغرب والبلدان الإفريقية في مواجهة الإرهاب

التعاون بين المغرب والبلدان الإفريقية في مواجهة الإرهاب

ألقى الأستاذ حسن عزوزي، رئيس المجلس العلمي المحلي لإقليم مولاي يعقوب يوم الإثنين 26 رمضان 1439(11 يونيو 2018) الدرس الثامن من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية. بين يدي أمير المؤمنين،  وتناول الأستاذ حسن عزوزي بالدرس والتحليل موضوع:”التعاون بين المملكة المغربية والبلدان الإفريقية في مجال الحماية من فكر التطرف و الإرهاب”، انطلاقا من قول الله تعالى : “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب”

التعاون بين المغرب والبلدان الإفريقية في مجال الحماية من فكر التطرف و الإرهاب
الدكتور حسن العزوزي

نص الدرس الحسني الثامن 1439

التعاون بين المملكة المغربية والبلدان الإفريقية

في مجال الحماية من فكر التطرف والإرهاب

 الاستاذ حسن عزوزي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الأكرمين

مولاي أمير المؤمنين

أتشرف بإلقاء هذا الدرس في مجلسكم المنيف، في هذه الليلة المباركة، وفي إطار هذه السلسلة العلمية الذهبية، الدروس الحسنية التي تمثل تجليا راقيا لما درجتم عليه من الحرص على إشاعة المعرفة العلمية عامة، والتوعية الدينية خاصة، من منطلق ما تضطلعون به كأمير للمؤمنين، من أمانة حماية الملة والدين، بمقتضى بيعة الأمة إياكم على أساس حفظ كليات الشرع وهي حفظ الدين، وحفظ الحياة، وحفظ النظام العام، وحفظ العدل، وحفظ كرامة الإنسان.

ويدور موضوع الدرس على قضية لها أهميتها القصوى في وقتنا هذا، وتتعلق بإمكانات التعاون بين مملكتكم الشريفة وبين غيرها من البلدان الإفريقية في مجال الحماية من فكر الإرهاب، هذا الفكر الذي يراد تأسيسه زورا على نصوص الدين.

وقد بنينا الدرس على مقدمة وثلاثة محاور. ونبدأ في المقدمة بشرح الآية منطلق الدرس وهي قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب﴾.

البر، سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل.

والتقوى، مصدر اتقى، إذا حذر شيئا، وقد أُطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه.

فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر.

ومعنى الآية: واجبكم أيها المؤمنون أن تتعاونوا بينكم على فعل البر والتقوى، وفائدة التعاون تيسير العمل، وتوفير المصالح وإظهار الاتحاد والتناصر، حتى يصبح ذلك خُلُقا للأمة.

وقوله: ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾، تأكيد لمضمون ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾، لأن الأمر بالشيء وإن كان يتضمن النهي عن ضده، فالاهتمام بحكم الضد يقتضي النهي عنه بخصوصه.

والتعاون على البر في موضوعنا ينطبق على ما من شأنه أن يخدم الدين، والقصد هنا الحماية من فكر الإرهاب، واعتبار أن ما نهى عليه الله من الإثم والعدوان الذي لا يجوز التعاون عليه يمثله الإرهاب بعنفه وإفساده.

وللدخول في صلب الدرس نتساءل: ما هو جوهر موضوعنا: إنها الحاجة الاجتماعية التي هي الأولوية في حياة المسلمين، أن يحيوا حياة الدين، وهم من أجل ذلك يحتاجون إلى علم الدين للفهم الصحيح، وإلى كل ما تقوم به أركانه ومعاملاته من إنفاق في التأطير والتجهيز، والمفروض أن من يتولى أمر المسلمين، كما في حالة إمارة المؤمنين في المغرب، والحمد لله، هو الذي يتولى الاستجابة لهذه الحاجة و يدبرها ويراقبها ويحميها، وحيث يكون فراغ في هذه الاستجابة وهذا التحمل، فإن فكر التطرف والإرهاب يستغل ذلك الفراغ أسوأ استغلال.

ومع إن هذا الشرط قد لا يتوفر في بعض البلدان في إفريقيا نظرا لعدة أمور منها اختيار العلمانية الدستورية، فإن تعاون المملكة المغربية معها أمانة وواجب ديني وداخل في حقوق الأخوة والقربى واستمرار لروابط الماضي التليد، وصيانة لدعائم المصير المشترك.

المحور الأول في الثوابت المشتركة حصن من فكر الإرهاب

إن الثوابت الدينية هي ما اختاره الأجداد في باب العقيدة والمذهب والسلوك الروحي، وكان التمسك بها مدار الحياة الدينية في انسجام تام مع حياة المسلمين في إفريقيا، وكان هذا التمسك هو حصن الدين من فكر الغلو والتطرف على امتداد القرون، وكان قيام هذه الثوابت في أصله بالنسبة لعدد من البلدان مرتبطا بالعلاقة مع المملكة المغربية، لاسيما من جهة الاتصال بأسانيد المشيخات العلمية ومشيخات التصوف، ولقد كانت العلاقات شاملة تفاعلية أهمت العنصر البشري والتبادل التجاري والثقافي، ومن رحم هذه العلاقات ولدت الثوابت الدينية المشتركة، وهي الأشعرية عقيدة، والمالكية مذهبا، والتصوف سلوكا روحيا، ويعني هذا أن التعاون ليس وليد اليوم وإن كان يواجه تحديات جديدة.

فالعقيدة الأشعرية لها أهمية خاصة من الناحية السياسية في هذا العصر لأنها تقوم على مبدأ أن المسلم الذي يشهد بلسانه بوجود الله وتوحيده والإقرار برسالة نبيه يعتبر مؤمنا، لا يجوز تكفيره بدعوى تقصيره في العمل أو بأي عذر من الأعذار، فإن قصر هذا المسلم في حق من حقوق نفسه، فعهدة ذلك عليه، وإن أضر بحقوق الغير أو حقوق الجماعة، فأمره إلى القضاء، وإن قصر في حق بينه وبين ربه، فلله أن يعامله بعدله إن قضى، أو بفضله الواسع إن شاء. إن قضية العقيدة كما هو معلوم لم تثر انتباه العموم إلى أن استفحل أمر التكفيريين في هذا الزمان، ولذاك يكون الاشتراك في العقيدة والدفاع عنها من عناصر التعاون في الحماية من فكر الإرهاب.

أما المذهب المالكي فيتميز بأمور، منها ثلاثة لها أهمية سياسية اليوم كذلك وهي:

  1. غنى منهجه في استنتاج الأحكام من النصوص، ولهذا أهمية في الاجتهاد؛
  2. الأهمية التي يوليها للمصلحة العامة، ولها علاقة بشرعية القوانين؛
  3. العناية بما جرى به العمل، وهو سبيل نفي البدعة عن كثير من الممارسات الثقافية في البلدان الإفريقية.

إن آثار استتباب الوحدة المذهبية في بلدان إفريقيا انطلاقا من المغرب جعلت الباحث جون هانويك رحمه الله يصف المالكية بأنها هبة المغرب لإفريقيا، وله الحق في ذلك لاعتبارات منها:

  1. 1.أن النظام العام يحتاج إلى مرجعية مذهبية، لأن الاختلافات بين المذاهب، وإن كانت جزئية، تستعمل في التشويش على عقول العامة الذين يضخمونها حتى تصير وكأنها الحق مقابل الباطل؛
  2. أن الوحدة المذهبية ضمانة للسكينة داخل المساجد خاصة؛
  3. أن تبني الدولة للمذهب يستتبع مساندة العلماء، على أساس أن كليات الشرع تتحقق بالإصلاح؛ وهنا لابد أن نشير إلى العلاقة العضوية بين الإصلاح السياسي والدعوة الدينية، فإن قصرت السياسة في الإصلاح صعب على الدعاة إقناع الناس بالقيم التي تدفع الفتنة، وإن اختلت أمور الدعوة، أي تدبير الشأن الديني، شوشت على السياسة بالتأويلات المتطرفة التي تهدد الإصلاح.

أما الثابت الثالث المشترك مع البلدان الإفريقية فهو السلوك الروحي المعروف بالتصوف. وقد كان معظم الدعاة والتجار المغاربة في إفريقيا صوفية شاذليين منذ القرن السابع الهجري، إلى أن تجددت حركة التصوف على أيدي أتباع الشيخ أحمد بن إدريس والشيخ أحمد التجاني، هذا الشيخ الأخير الذي هاجر جده الرابع من قبيلة عبدة قرب مدينة آسفي، إلى عين ماضي، وعاد هو إلى فاس حيث أسس طريقته. وبقطع النظر عن أنواع المعارضة الفكرية لمذهب التصوف ولاسيما من قِبَل بعض المتطرفين، فإن صيغته المغربية الإفريقية تميزت بالطابع الأخلاقي العملي، والقدرة على التعبئة الشعبية.

وحيث إن التصوف يستعمل الاستعارة والرمز والإشارة، فإنه مستهدف بعداء المتمسكين بالقراءة الحرفية للنص الديني، وهذه القراءة الضيقة هي مبع فكر التكفير والقول بالجهاد الذي يتصرف في مختلف أشكال الإرهاب.

المحور الثاني : مضمون مشروع فكر الإرهاب

هذا الفكر الذي يستهدف تخريب الثوابت الدينية المذكورة المشتركة بين المملكة المغربية وبين عدد من البلدان الإفريقية

إن هذا الفكر يحاول إضفاء الشرعية الدينية على مشروعه التكفيري من ثلاثة منطلقات:

  • عدم الاكتفاء بقول الشهادة في صحة الإيمان؛
  • 2. التكفير بسبب كبائر المعاصـي؛
  • 3. تكفير من يسكن بـبلد لا تسري فيه أحكام الشرع بحسب فهمه

فالتعاون المطلوب تعاون على حماية الناس من هذا الفكر ومن تبعاته، لأنه لا يقف عند تهديد الأمن العام والنظام العامين بل يهدد الدين في الصميم، إذ لا يمكن للإنسان أن يعبد الله في انعدام أمن الأفراد وانعدام النظام العام للجماعة وانعدام الاجتهاد والاختلاف المقبول الذي بنيت عليه مذاهب أهل السنة والجماعة، والإرهاب، لكي يستقطب أتباعه ويبرر قيامه يقدم دعاوى دينية وشعارات السواد ترمي إلى زرع الشك وخلخلة الطمأنينة في العقول من أجل التحضير للفتنة؛ فهو يشخص وفق تأويله الخاص الأحوال في البلد الذي يظهر فيه على أنها مخالفة للنموذج الأول الذي وصفه الكتاب والسنة وكان عليه السلف الصالح.

ولهذا الاعتبار يتوقف تفكيك هذا التأويل المتطرف الفاسد على تدخل العلماء وتعاونهم.

إن تأويلات الإرهاب ودعاواه يسندها جهد وإصرار من لدن الجماعات التي تتبناها بقصد الاستقطاب، وتجد في بعض الأحيان تربة ملائمة تتغذى من هشاشة ثقافية وهشاشة اجتماعية، ولهذه الهشاشة خلفيتان ترجع أولاهما إلى تطرف قديم وهو تطرف فرقة الخوارج ولاسيما بخصوص نظرها إلى مشروعية الحكم في الإسلام، أما الخلفية الثانية فتتجلى في سياق تطور مذهبي قبل القرن التاسع عشر الميلادي، ثم تطور هذه البلدان منذ اللقاء مع حضارة الغرب وما تبعه من عواقب ثم آثار الاستعمار والحرب العالمية الثانية والحرب الباردة والنكبة في فلسطين وغياب النظم المدنية وقيام الحركات القومية، إلخ.

ونظرا لما يتمتع به علماء مملكتكم يا مولاي من شروط الحرية واليقين وصرامة المنهج في ظل إمارة المؤمنين فقد قاموا منذ أكثر من عشر سنوات بتشخيص دقيق لفكر الإرهاب الذي يتعين التعاون في الحماية منه، فصنفوا مفاهيمه بحسب سيرورة استخدامها إلى ثلاث آليات هي:

الآلية المفاهيمية الأولى وهي التي يستعملها من أجل الطعن في حياة المجتمع، ومفاهيمها أربعة هي: الجاهلية والحاكمية والولاء والبراء والتكفير؛

الآلية المفاهيمية الثانية، وهي التي يستهدف بها تدمير ثوابت البلدان، ومفاهيمها أربعة هي: السلفية والخروج عن الإجماع واللامذهبية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛

الآلية المفاهيمية الثالثة، وهي التي يقترح فيها البديل المنتظر، مفاهيمها ثلاثة هي: الجهاد والخلافة الراشدة والشورى.

فكيف يرى العلماء حكم الشرع في هذه المفاهيم؟

أولا: وصف المجتمع المعاصر بوصف الجاهلية

يرى العلماء أن هذه الدعوى باطلة لأن الإسلام اليوم يعيش عهدا يتميز بإقرار أهله بوحدانية الله تعالى، وهو الشرط الفارق بين الإسلام وما قبله؛

ثانيا: الحاكمية

يرى العلماء بأن رفع شعار “لا حكم إلا لله” يهدف إلى استمالة الناس إلى مشروع وهمي في الحكم يريدون به نصب أنفسهم وكلاء عن صاحب الشرع يتقولون عليه زورا وكذبا، فكفروا الحكام، وألحقوا بهم جماهير الأمة لأنها –في زعمهم- عطلت الشرائع.

ثالثا: الولاء والبراء

يرى العلماء أن الإرهابيين يستعملون هذا المفهوم ليبرروا اعتداءاتهم على من يتهمونهم بالتحالف، أي الولاء مع العدو وهو كل من ليس بمسلم. حرفوا هذا المفهوم عن معناه وهو “الولاء” لله ولرسوله وللمؤمنين في محبة تعبدية، راجعة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، ومحبة رسول الله ونصرة سنته، ومحبة المؤمنين، وذلك هو أساس السلام والتسامح الذي عليه المجتمع الإسلامي.

أما “البراء” فهو كره المسلم للكفر وتبرؤه منه، ولا يلزم منه بغض المسلم لغير المسلم إطلاقا، بل هؤلاء أمرنا شرعا أن نعاملهم بالقسط وبالبر.

والخلاصة، أنه لا يجوز أن تبنـى أحكام التكفير على مفهوم “الولاء والبراء” بحال، لأنه ضرب من الحكم على النيات، وهو حرام شرعا.

رابعا: التكفير

لم يرد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن علماء المسلمين من أهل السنة وعلى امتداد التاريخ بأنهم تجرؤوا على تكفيـر شخص يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. بل اعتبروا التجرؤ على التكفير أشنع الأعمال المنكرة بين المسلمين، إنما طرأت جريمة التكفير عن سطحية فهم وغلبة جهل وانعدام ورع.

خامسا: السلفية، أي محاولة تقليد عمل الصحابة والتابعين

يرى العلماء أن صفة السلفية يستعملها الفكر المتطرف لهدم كل ما بناه المسلمون بفضل اجتهاداتهم في التفسير والاستنباط وبناء الفقه، وذلك على سبيل الاحتكار من لدن فئة أقلية تتخذ مظاهر خارجية، وفي هذا الادعاء مصادرة لحق الأغلبية في الاتباع في جوهر الدين؛

سادسا: الخروج عن الإجماع كشرط لصحة الأحكام

يرى العلماء أن هذه الدعوى باطلة لأنها الدعوى التي تبنتها فرقة الخوارج التي كانت تكفر كل مسلم وقع في معصية وكانت ترفض طاعة كل من لا يشاركها في معتقداتها؛

سابعا: اللامذهبية في الفقه

يرى العلماء أن تعدد المذاهب الفقهية السنية هو ثمرة مجهود كبير من الاجتهاد في استنباط الأحكام، وهو دليل على انفتاح فكري وتكييف للتعددية في مجتمعات المسلمين وثقافات العالم، وإنما يسعى فكر الإرهاب بمعاداة المذاهب إلى خلق فراغ يملؤه بمذهبه المتحجر.

ثامنا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يرى العلماء أن جمهور أهل السنة، أي أغلبيتهم الساحقة، تعتبر أن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اختصاص ولي أمر المسلمين في بلدهم، ولا يجوز أن تكون بمبادرات الأفراد؛

تاسعا: الدعوة للجهاد

يرى العلماء أن الجهاد لا يمكن أن يُعلن ضد المسلمين، بل وحتى ضد غير المسلمين فلا يمكن أن يكون إلا دفاعيا، واعتبارا لعواقبه ومخاطره، فلا يمكن أن يدعو إليه إلا ولي أمر المسلمين في بلده.

عاشرا: خلافة رسول الله في الحكم

يرى العلماء أن فكرة الإرهابيين بخصوص الخلافة غاية في الضبابية والغموض حتى في تصور أصحابها الذين يتخذونها شعارا جذابا مغريا لاستقطاب الأتباع، فإذا كان العدل هو الشرط في الحكم فإن تصريف الحكم يتطلب القبول بالنسبية مع الاجتهاد الدائم، فالفكر الإرهابي في هذه النقطة يحرف معنى بعض الآيات القرآنية ويتجاهل عددا من الأحاديث الصحيحة التي تنظر إلى مسألة ولاية أمر المسلمين أي إلى السياسة، بواقعية كبيرة.

حادي عشر: إقامة الشورى

يرى العلماء أن مبدأ الشورى راسخ في الإسلام، ولذلك يتوجب على المسلمين أن يستفيدوا بأقصى ما يمكن من مكتسبات الديمقراطية التي بلغت إليها الإنسانية في تاريخ معروف وعبر تدافع كبير بين الحق والباطل.

المحور الثالث:  أوجه التعاون الممكنة والمطلوبة بين المملكة والمغربية والبلدان الإفريقية للحماية من فكر التطرف و الإرهاب

إن الاعتبارات المقدمة في المحورين السابقين تقتضي أن يكون التعاون في شكل شراكات في عدة ميادين، منها:

أولا: الشراكة في خبرة المأسسة والتقنين على مستوى المجتمع؛

فقد أظهر الواقع المعيش أنه لم يعد بالإمكان اتخاذ موقف الحياد من الحياة الدينية للسكان سواء كانوا أغلبية أم أقليات، لأن هذه الحياة تتبلور في مطالب اجتماعية ذات طبيعة ديمقراطية، لذلك فإن عدم ابتكار حلول لتنظيم الاستجابة لهذه المطالب ستترك المجال لفكر الإرهاب ليغزو عقول الناس، ولجهات ليست دائما مؤهلة ولا بريئة لتستغل حاجات الناس الدينية،، وللمملكة المغربية خبرة في التجاوب مع حاجات الناس الدينية في توافق مع الحفاظ على الثوابت ومع الاختيارات الديمقراطية، ذلك من خلال مأسسة يحددها القانون ومن خلال جرد إحصائي وتصنيفي للمعطيات الدينية المجالية، بما في ذلك معرفة المتدخلين أفرادا ومؤسسات وتيارات.

فالمأسسة في المستوى الأعلى تتمثل في إشراف هيئة مسئولة حيث لا يمكن أن تكون وزارة، ثم اتخاذ إجراءات تكفل إبعاد الشأن الديني عن التأثر بالسياسة وتغيراتها على صعيد المجتمع.

ثانيا: مأسسة الفتوى بإسنادها لخبراء يعملون لمجموع الأمة، لا لتوجه بعينه

وذلك بتكليف من هو أهل لها علما وورعا مع توفر الشرط النبوي المتمثل في العدالة أي الموضوعية، وهذا المنطق مبني على أساس أن جميع تيارات المجتمع بحاجة إلى قيم الدين وتخليقه.

ثالثا: الشراكة في خبرة التكوين

الدين علم، إذا لم يتوفر له العلماء لحمايته خربته الأصناف التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المتطرفون والمنتحلون لشخصية علماء الدين والجاهلون. وفكر الإرهاب يجمع بين هذه الآفات، وفي هذا الصدد فإن الشراكة بين المملكة المغربية والبلدان الإفريقية قائمة، ويمكن أن تتوسع في تكوين العلماء على صعيد مؤسسات جامعة القرويين، وتكوين الأئمة على صعيد معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات.

رابعا: الشراكة في خبرة التجهيز

تحتاج الحياة الدينية إلى أماكن للعبادة من مساجد وغيرها، وكل نقص يستغله فكر الإرهاب، كما يتطلب الأمر قوانين تهم إحداث هذه الأماكن وبنائها وتسييرها. والخبرة المطلوبة متعددة الجوانب لوجيستيكية وقانونية ومالية.

خامسا: الشراكة في خبرة الـتأطير

المقصود بتأطير الحياة الدينية وجود علماء ووعاظ وخطباء وأئمة. ومعلوم أن فكر الإرهاب يسعى إلى أن يتسرب إلى الأمة من خلال هؤلاء، والخبرة التي يمكن أن تتجلى فيها الشراكة هنا لا تتوقف على ما سبق ذكره في التكوين، بل يتعلق الأمر بتعريف عالم الأمة وإمام الأمة وخطيب الأمة، بعيدا عن الانتماء المذهبي المخالف والانتماء الطائفي أو السياسي الضيق. فعالم الأمة ليس مجرد خبير أو فاعل دعوي، بل هو قبل كل شيء ملتزم مع الأمة يحميها من الفتنة، أي من فكر الإرهاب، وأهم شرط في التزامه أن يستوعب شرعيا أن المسجد والمنبر هو أمانة الأمة في عهدته.

والطرق الصوفية من المؤسسات العريقة المؤطرة للحياة الدينية، ولولا حصانتها لتغيرت ثوابت الأمم ولتسرب إليها فكر الإرهاب بسهولة كبيرة، والمطلوب لمواجهة فكر الإرهاب أن تواصل هذه الطرق دورها وتكيف طاقتها وقيمها مع متطلبات الوقت، بعيدا عن كل الطقوس والمظاهر وعلاقات الولاء الشخصي، وأن تبين جوهرها للشباب على أنها مدارس أخلاقية للتربية على محاسبة النفس أمام الله وأمام الناس. مع حرص أكبر على تجنب تهمة البدع التي يستعملها فكر الإرهاب لإبعاد الشباب عن هذه الطرق وجرهم إلى طريقته.

سادسا: الشراكة في خبرة التسيير

إن تسيير الحياة الدينية مبني على نفس قواعد التسيير على الصعيد الجماعي والاجتماعي، إذ الشرط فيه العقلنة والنظام والاندماج والانسجام، لذلك لابد من آليات توصيل وتبليغ ومواكبة، وللمملكة خبرة في هذا المجال يمكن تكييفها مع الحالات الخاصة للبلدان،

سابعا: التعاون في تأطير بقية أركان الدين

من أوجه التعاون الضرورية تأطير بقية أركان الدين غير الصلاة مثل الحج والتقويم القمري وإحياء المناسبات الدينية.

ثامنا: الشراكة في خبرة التعليم الديني

وفي مقدمته تعليم القرآن الكريم؛ فهنالك ضرورة لتوفير هذه الخدمة وتجويدها وضرورة مراقبتها لفائدة مصلحة الأمة، لأن فكر الإرهاب يحرص على اتخاذ تعليم القرآن والتعليم الديني عامة، عذرا لإنشاء مدارس لنشر تعاليمه، ويعتبر نموذج التعليم العتيق في المملكة المغربية متميزا على صعيد العالم، بحيث لا يترك مجالا لدعوى الإرهاب التي تطعن في المدرسة العمومية في البلدان الأخرى لكونها لا تعلم القرآن الكريم. يضاف إلى ما ذكر أن الإصلاح الذي وجهتم إليه يا أمير المؤمنين على صعيد تعليم الدين في المدارس العمومية من شأنه، إذا استوحت منه البلدان الإفريقية، أن يقرب المعاني الكونية للمتعلمين من صميم النص الديني، فلا ينظرون إلى الدين على أنه بعيد عن معارف العلوم الإنسانية أو مناقض لها، لأن مثل هذا الشعور يجعل الشباب يبحث عن القيم في فكر لاديني أو يجعلهم يسقطون في حبال فكر الإرهاب وإغراءاته الخداعة، ومن هنا ضرورة إدراج حجج العلماء في دحض أباطيل وشبهات الإرهابيين التي يستقطبون بها العامة ضمن مواضيع المقرر المدرسي في مواد التعليم الديني، وذلك ببث قيم الحرية والعدالة والمساواة مؤصلة على الدين، حتى لا تبقى ثنائية العلوم الإنسانية والعلوم الدينية؛

إن التعاون في مجال تعليم ديني مبني على اختيارات أغلبية الأمة في الثوابت، يفترض أن تخصص المنح الدراسية لمن هم مؤهلون للتأطير في دائرة احترام ثوابت بلدانهم مع التشبع في نفس الوقت بالقيم الكونية.

تاسعا: الشراكة في خبرة التبليغ

وتقتضي ابتكار الأسلوب التنظيمي الملائم لكل بلد لمنع الفوضى والتسيب في السماح بإنشاء المراكز الدينية التي تستهدف نشر أفكار مخالفة لثوابت الأمة، سيما إذا كانت هذه المراكز مسيرة أو ممولة من الخارج، فلابد من مراقبة هذه المراكز بالقانون ضمن الحريات المكفولة في كل بلد بعينه، أما الدعاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيتوقف على حرص المستهلكين على مقتنياتهم، لأن السنة تلزم المتدين أن يعرف من يأخذ عنه دينه.

عاشرا: الشراكة في خبرة التمويل

تتوقف تلبية حاجيات الحياة الدينية على التمويل، والتعاون المطلوب، بحسب اختلاف حالات البلدان، هو في ابتكار أساليب التمويل الذاتي وتجنب التمويل الخارجي إذا كانت فيه شبهة معارضة ثوابت البلد، كما يمكن للشراكة في الخبرة هنا أن تنصب على إنشاء مؤسسة الأوقاف، وتقنين الإحسان العمومي، وتعليم المهن للأئمة، كما هو قائم لفائدة طلبة من البلدان الإفريقية في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات.

حادي عشر: الشراكة في خبرة الإعلام

للإعلام دور أساس في الحماية من فكر الإرهاب، ويمكن للإعلام في بلدان إفريقية الاستفادة بهذا الصدد من النموذج المغربي في التعايش السلمي بين الأديان والقبائل وترسيخ ثقافة السلام في وعي الشعوب من خلال المناهج والبرامج الإعلامية، وإن قناة محمد السادس للقرآن الكريم، يا مولاي، نموذج في هذا الباب بشهادة الإقبال الذي تلقاه في البلدان الإفريقية، وهي مقبلة على مواكبة نشاط مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، فكل خدمة إعلامية من أجل التعريف بحمولة القيم والاعتدال في الثوابت هي خدمة للتنمية في أوساط المسلمين بالبلدان الإفريقية.

خاتمة

وفي الختام يا مولاي

يتحصل مما ذكرناه أن الحماية من فكر الإرهاب تكون بثلاثة أمور هي صيانة الثوابت الضامنة للاعتدال، الشرح العلمي لدعاوى الإرهاب وبيان بطلانها شرعا، التعاون في أمور تدبيرية تتوقف عليها ممارسة التدين، والثمرات المرجوة من هذا التعاون تربوية وأمنية وتنموية، بما يكون لها من تأثير شامل في المجتمع، وتكملها معالجة أنواع الهشاشة التي يستغلها الإرهاب، ولا شك أن نجاح هذا التعاون مرتبط إلى حد ما بسيرورة القيم على صعيد العالم، أي بمخاطر أي جنوح سياسي قد يتقوى به التطرف، والمؤمل من مبادراتكم يا مولاي في مضمار العمل التعاوني مع إفريقيا، على غرار تقوية الصلات مع الطرق الصوفية وتكوين الأئمة وتطوير نشاط مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، المؤمل من هذه المبادرات الكريمة نتائج على مستوى التشخيص والوعي تقوي المناعة الفكرية الضرورية للأمم، فإذا تقوت هذه المناعة فإن فكر الإرهاب سيظهر كمجرد فيروسات يمكن للجسم أن يتعامل معها، مع بقاء الجسم بكامل صحته وعافيته.

أدامكم الله يا مولاي مبادرا لكل المكرمات، وحاميا لكل الحرمات، ورائدا في التعاون على البر والتقوى، في مثل ما أنتم بصدده مع إخوانكم في بلدان إفريقيا، تعاونا على حفظ أمر الدين تقصدون به وجه الله، لا تريدون به جزاء ولا شكورا.

والحمد لله رب العالمين

والختم من مولانا أمير المؤمنين.