صفية عبد الرحيم الطيب: ثوابت الهوية الإسلامية في إفريقيا وتحديات المحافظة عليها

صفية عبد الرحيم الطيب: ثوابت الهوية الإسلامية في إفريقيا وتحديات المحافظة عليها

ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، يوم الجمعة 16 رمضان 1439(01 يونيو 2018) بالقصر الملكي بالدار البيضاء، الدرس الخامس من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية.

الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب محمد
الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب محمد

وقد القت الدرس بين يدي صاحب الجلالة، الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب محمد، وزيرة سابقة وأستاذة بجامعة أم درمان وعضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالسودان، متناولة موضوع “ثوابت الهوية الإسلامية في افريقيا وتحديات المحافظة عليها”، انطلاقا من قول الله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

نص الدرس الحسني الرمضاني الخامس الملقى بحضرة أمير المؤمنين

ثوابت الهوية الإسلامية في إفريقيا

وتحديات المحافظة عليها

صفية عبد الرحيم الطيب

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام

على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

مولاي أمير المؤمنين

إن بلدكم العزيز المملكة، المغربية الشريفة، تربطه بإفريقيا روابط تستمد جذورها من الجغرافيا وتضرب بأصولها في عمق التاريخ، روابط شدت المغرب بقوة، وإلى اليوم، إلى قارة اقتسم معها المصير المشترك، أسهم في بنائها في إطار الإسلام منذ ألف عام، واستمرت براهين هذه الروابط إلى زمن الاستعمار وأثناء حروب التحرير ثم في عهد الاستقلال. وفي كل زمن أسهم المغرب في بناء هوية هذه القارة على أسس قيم ثقافية ووشائج روحية عميقة. فمن المعروف لدى الجميع أن الإسلام الذي يعد من المقومات الكبرى لهوية هذه القارة، قد انتشر في عدد من دولها انطلاقا من المغرب على أيدي العلماء وشيوخ التصوف الذين لهم بإفريقيا أتباع يعرفون لهذا النسب العلمي والروحي قدره ويراعون حقوقه.

مولاي أمير المؤمنين

يعتنق الأفارقة العديد من الديانات، يأتي الإسلام في مقدمتها بما يقدر بنسبة خمسة وأربعين بالمائة، تتبعه المسيحية بنسبة أربعين بالمائة، بينما تتوزع نسبة 15 في المائة ديانات محلية وأسيوية مع وجود نسبة من الذين لا يدينون بدين معين. وبينما كان المذهب السني هو مذهب المسلمين في إفريقيا فإن الوضع بدأ يتغير نسبيا بحسب البلدان بعد عام 1980، ولكي لا تصير الحال إلى أزمة هوية دينية فإن حضور المغرب في عمق إفريقيا مطلوب ووازن في هذا الباب، كما في باب السياسة والتعاون.

إن عددا من المستجدات ذات الآثار السلبية، تسائل واقع يقظة الشركاء الأفارقة، لأن الأمر في أوساط المسلمين لا يتوقف عند حرية المعتقد الديني الذي لا يراد به إلا وجه الله، وهي حرية يكفلها الإسلام نفسه بقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾، ولكن الذي يخشى، بناء على ما يعيشه المسلمون، هو أن يؤدي تغيير الخريطة المذهبية إلى حالة تنشأ فيها طائفية تمزق البلدان وتتسبب في مشاكل لنظام الدول إذا أدت الأطماع المتسترة بالدين إلى تحارب أبناء تلك البلدان، وإلى تجنب هذه الحال ينبغي أن تنصرف اليقظة، وينبغي يا مولاي أن تتأسى هذه اليقظة بنموذجكم المتفرد، في بلدكم المغرب، والمتمثل في حمايته لوحدته من كل صور التشويش والفتنة.

إن لكم دورا متجددا اتجاه الإسلام في إفريقيا، سيما وأن قيامكم به عونا وتعاونا وشراكة مع إخوانكم ليس فيه إقحام ولا اقتحام، بل هو سيرورة واستمرار قادر بما درج عليه من الصدق على أن يتصرف بحكمة وبتلقائية وموضوعية، فالإسلام إما أن يصمد ويتعزز في إفريقيا وإلا كانت إفريقيا مصرعه الكبير في هذا القرن الأول من الألفية الثالثة، وعلى المنتمين لهذا الدين أن يستحضروا التشخيص الضروري ويدركوه بما ينطوي عليه من الرهانات، وبعبارة أخرى ينبغي أن يكون الإسلام معينا على إيجاد الحلول لمشاكل إفريقيا حتى ينظر إليه من المنصفين على أنه نافع وضروري، عليه أن يدافع عن إفريقيا ولا يسمح لمن يريد، عن جهل أو كيد، أن يحمله تبعات عدد من المشاكل التي لا صلة له بها، وهنا لابد أن نتوقف عند إحداثكم لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، فمشروعها نموذجية في هذه اليقظة المرجوة للإسلام في إفريقيا، لأن التأطير الديني لحد الآن غلب عليه العمل الرائد الجبار الذي اضطلعت به على امتداد الزمن الطرق الصوفية، فهذه الطرق كما هو معلوم تؤطر الشعب وتؤطر العلماء من أبنائها في جانب التربية الروحية، لذلك كان العلماء في إفريقيا منتسبين في غالبيتهم لهذه الطرق، مستكملين للشروط بجمعهم بين فقه الظاهر وفقه الباطن، إلا أن الحاجة في هذا العصر تدعو إلى أن يكون للعلماء من جميع الطرق المنتسبين والمحبين تنظيم يدافع عن ثوابت إفريقيا ويحميها من التشكيك فيها، وهذا هو الوعي الذي عبرتم عنه يا صاحب الجلالة بإحداث المؤسسة المذكورة.

إن أمام إفريقيا للدفاع عن نفسها بالدفاع بالإسلام تحديات هي التي نريد أن نتحدث عنها بإيجاز، كما قال الله تعالى في سورة الأنفال: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.

وذلك لما في الآية من إنذار للناس بأن من أنعم الله عليه بنعمة وجب عليه شكرها والحرص عليها، لأن الله تعالى وعد بأن يديمها عليه مادام هو مستديما لها عارفا بحقها، والأمر في الآية جاء في آل فرعون الذين أنعم الله عليهم بالإيمان فبدلوه كفرا، وكانوا من أعظم أمم إفريقيا، وطالما ظن البعض أن معنى الآية أن يبدل الناس حالهم من الأسوء إلى الأحسن باتخاذ الأسباب، والأمر ليس كذلك، إذ هي جاءت في ضرورة الحرص على الأحسن حتى لا يتبدل إلى الأسوء، والمقصود في حالة المسلمين بإفريقيا أن يشكروا نعمة وصول الإسلام إلى أجدادهم وهداية الله لهم إلى أن وصلت إليهم هذه النعمة، والمطلوب منهم في حاضرهم هذا أن يقوموا بالتبين اللازم أي بالتشخيص الدقيق لواقع حالهم ويعرفوا كيف يكون علاج ما قد يعتور فهمهم للدين من نقص وخلل، وبعض هذا التشخيص هو ما أردناه بذكر جانب من التحديات وكيف يكون تصورها الأنسب أولا، ثم كيف تكون مواجهتها الفعالة ثانيا، وذلك في وسط أمم تكاد تتداعى على المسلمين بالاتهام والعدوان، فحال المسلمين في إفريقيا أقرب إلى الهشاشة وأدعى إلى التدارك والتبصير.

وإذا نظرنا إلى أهم هذه التحديات وجدناها على صنفين، ذاتية وخارجية:

  • فالذاتية تتعلق بخمسة جوانب هي الهوية والقومية واللغة والأمية والاجتهاد؛
  • والخارجية تتعلق بمفاهيم ووقائع تتجلى في أربعة جوانب هي: مفهوم الليبيرالية والعولمة والعلمانية والإرهاب.

أولا: التحديات الذاتية

1)الهوية

يجد المسلم الإفريقي في دينه مبادئ تجعله أكثر ما يكون مرتاحا في هويته المركبة وأقل ما يكون تضايقا بدوائرها المتحدة المركز، ذلك وهو يصغي إلى البيان الموجه إلى الناس كافة في قوله تعالى الآية منطلق هذا الدرس: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، وبهذا الاستماع يرتفع تحدي التناقض بين مكونات الهوية، سواء كانت زنوجة أو عروبة أو أمازيغية أو غير ذلك من الانتماءات التي يشقى الإفريقي بالانتماء إليها إذا حصر نفسه في دائرة واحدة أو لم يحسن تصور الترتيب بينها، وهي في الحقيقة متداخلة كما في الآية التي تجمع بين المحلي المعبر عنه بالشعوب والقبائل، إذ ليس تقرير الانتماء إلى الشعب والقبيلة إشارة إلى مرحلة تاريخية متجاوزة، بل ينبغي أن يفهم على ما فيه من حكمة حميمية محلية يحتاج إليها الإنسان لمنافع لا تحصى، ولأن أفق كل انتماء يؤهل للذي بعده في غير انغلاق ولا تعصب وبلا عقد، لأن السعي ينبغي أن يكون إلى التعارف الذي يقتضي الاعتراف بالمساواة وبالنفع المرجو من هذا الوجود دون تفاخر أو إحباط، فالإفريقي المسلم يتوفر على هذا النموذج الذي يعيده إلى أصل خلقه ويجعله غير متضايق لا بقبيلته ولا بشعبه ولا بوطنه المحدود أو الواسع الذي هو هذه القارة، ومرجع التفاوت الوحيد هو التقوى التي تتضمن الفضائل كلها من الإحسان إلى نفسه والإحسان إلى غيره، وهكذا من الانتماء إلى العائلة الصغرى بلوغا إلى الانتماء الكوني يعيش الإفريقي المسلم مستويات هويته، يتكئ على كل مستوى ليبني المستوى الذي يليه في سلاسة ويسر وتقبل وانسجام مع الآخرين من أهل بلده سواء كان وضع أغلبية أو وضع أقلية، غير مستعل ولا منقبض، يحول كل السلبيات في هذه الانتماءات إلى ما هو إيجابي في بناء هوية مريحة ونافعة.

2)اللغة

إن اختلاف ألسنة الناس من آيات الله تعالى في هذا العالم، ولا يمكن أن يكون تعدد اللغات على هذا الاعتبار الإلهي مصدرا لمشاكل الإنسان سواء في إفريقيا أو خارجها. فقد تناول الباحث حسن غامبو الخريطة اللغوية للقارة الأفريقية في تعددها وعلاقتها بالتنوع العرقي مبينا أن دخول الاستعمار غَيَّرَ من النَّسَقَ اللغوي لدول القارة حيث صارت اللغات المحلية تعاني من التهميش لصالحِ اللُغات الأجنبية، وحتى داخل اللغات المحلية هنالك لغات إقليمية كل واحدة تعتبر لغة رسمية في محلها، ومن الأمثلة على ذلك اللغات الأربع في مناطق من نيجيريا وهي لغة الهوسا ولغة الكانوري ولغة الإيبو، بينما الإنجليزية هي اللغة المشتركة بين الجميع.

وفي الحالات التي يشكل فيها التعدد اللغوي للشعوب الأفريقية تحديا للهوية القومية الوطنية، يتعين البحث له عن حُلول تستفيد من تجاربَ بعض البلدان التي عَرَفَت تعددا لسانيا لم يَحُلْ دون انْبِعاثِ نهضتها، وذلك في إطار إستراتيجية قومية تُسهم فيها الدول الأفريقية المهتمة بتعاونٍ مع مؤسسات مختصة، ويَضطلع فيها التعليم والإعلام بأدوار حاسمة من أجل بناء تَجانُسٍ أو تفاعل لغوي قوي يكون مصدر ثراء ثقافي دون أن يكون عقبة اقتصادية أو سبب تنافر سياسي‏.‏

3)الأمية وضعف الثقافة

عندما نرى أن الجهل بالقراءة والكتابة من أكبر التحديات التي تحاصر العالم الإسلامي، وتضعف قدراته، وتعرقل خططه التنموية، نتعجب كيف يمكن أن يستفيد من قيم الإسلام في حياتهم من لا يقرأون ولا يكتبون، فهذه الآفة هي بحق أم الآفات التي تفشت في المجتمعات الإسلامية ومنها الأفريقية؛ ومع ذلك فإن البلدان الإفريقية لا تزال تتعامل مع الأمية باعتبارها مسألة تعليمية تربوية أخلاقية ليس إلا.

ومن أسباب هذا التخلف فَشل العديد مِن دُوَلِ العالم الإسلامي -ومنها الأفريقي- في تحقيق تعميم التعليم الابتدائي، ومن المعتاد أن يتم تصور الحلول بإجراءات مكلفة معتمدة في جهات أخرى، بينما ينبغي الاجتهاد في تصور مقاربات مناسبة لوسائل هذه البلدان المحدودة وأوضاعها الخاصة.

وحتى الذين تخلصوا في إفريقيا من آفة الحرمان من التعليم تواجههم تحدّيات ثقافية تبرز في تفوق غيرهم عليهم على مستوى التكنولوجيا ثم على مستوى العمل الثقافي في حقوله المتعدّدة، والمواجهة المتكافئة مع التيارات الثقافية الوافدة من الغرب والشرق معاً، والتحديات الاقتصادية على مستوى الاختيارات، والإصلاحات، والتطبيقات، والتكيّف مع الأنظمة الاقتصادية الحديثة، والتحديات الاجتماعية، على مستوى محاربة الثالوث الخطير: الفقر والجهل والمرض، ومقاومة اليأس الذي يدفع بالشباب إلى الانهيار، والتحدّيات السياسية، على مستوى نظم الحكم والإدارة ومدى التزامها بالاستقامة والشفافية والعدل، واستجابتها لتطلعات الشعوب.

4)الاجتهاد: معرفة الثابت والمتحول

على هذا العمق المتمثل في الحرمان من التعليم والضعف الفادح في الثقافة يقشش عدد من الفهوم الخاطئ للإسلام والتفسيرات المغلوطة لتعاليمه، وتتفاقم حالة المسلمين الذين لهم انتماء إلى الإسلام ولكنهم يجهلون الضروري من قواعد هذا الدين؛ وهذه من أخطر التحديات التي تواجه الهوية الإسلامية في أفريقيا وفي غيرها، وأشدها ضررا على الإسلام من خصومه، ومن صور ذلك عدم التمييز بين الأولويات وعدم الوعي بوجود ثوابت وأمور قابلة للتغير، وهذه الأرضية يستغلها الانغلاق ويستعملها التطرف.

وتتوقف قضية هذا التمييز على التأطير الديني كما وكيفا، أي على المبلغين ومنهج التبليغ، فالعلماء، إن وُجدوا، ينتظر منهم أن يبينوا أن ثوابت الدين هي ما قرره الله بالوحي من أحكام قطعية، فحكمه ثابت لا يختلف باختلاف الزمان ولا المكان؛ فأركان الإسلام الخمس التي بني عليها الدين مستمرة لا يختلف حالها في الأزمنة كلها، ومثلها الكليات الخمس التي جاء التشريع لأجلها فهي ثابتة في كل عصر ومصر؛ وهي حفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض، فهي مقاصد شرعية ثابتة لا تتبدل…

أما المتغيرات فهي أمور مرنة يمكن أن تتغير زمانا ومكانا، وأن يعرض لها التأويل فهما واستنباطا، ولا يعتبر التغير فيها أمراً مُخْرِجاً للأصل عن استمراريته؛ إذ هو تغير لا يمس أساسيات الدين، وإنما غايته أن يكون وسيلة يضمن الله جل وعلا من خلالها الاستمرارية، ويكفل بها الصلاحية والملاءمة لكل الظروف، فالمتغيرات هي معظم فروع أحكام الشريعة التي اختلفت فيها الأفهام وتعددت الآراء وتولدت بالاستنباط منها مدارس مختلفة كالمذاهب الأربعة؛ فصار اختلاف هؤلاء نعمة ورحمة لما فيها من التوسعة على الأمة.

إن التنويع في بناء الشريعة يقتضي يقظة في التعامل مع كل قسم منها، تعاملا يحفظ مرتبته وخصائصه، فلا يُنَزَّلُ المُتَغَيِّرُ مَنْزِلَةَ الثَّابِت، ولا يُجْعَلُ الظَّنِّيُ في مَرْتَبَةِ القَطْعِي، ولا يُجْعَلُ الجُزْئِي بِمَثَابَةِ الكُلِّي؛ إذ لِكُلٍّ مَرْتَبَتُهُ وموقعه وضوابطه التي تُناسبه، وليس في هذا أَدْنَى تَهْوينٍ مِن شَأْنِ أي جزء من أجزاء الشريعة، وإنما فيه دعوة إلى التعامل العلمي الدقيق مع كل قِسْمٍ بِحَسَبِه ما دُمْنا ننظر إليه في دائرة الشريعة.

إن الوسائل التكنولوجية في التواصل الحديث يمكن مبدئيا أن تعين على علاج قلة التأطير الديني بين المسلمين في إفريقيا، ولكن هذه الوسائل نفسها قد تسهل تضليلهم إذا استعملها الجهلة والمتطرفون أو المشوشون المذهبيون على ثوابت مسلمي البلدان الإفريقية.

ثانيا: التحديات الخارجية

1)مفهوم القومية

هنالك تصوراتٌ يعتقد أصحابها وُجودَ تنازعٍ بين القوميات باعتبارها انْتِماءاتٍ عِرْقِيَّةً خاصة، وبين الإسلام باعتباره دينا يتجاوز الانتماء القومي، فيقللون بناء على ذلك من محتوى الهوية الإسلامية، بل ويسعون إلى إلغائها، بينما يرى المتدين أن الهوية الدينية هي التي تعطي لوجوده المادي أَبْعادَهُ الروحية والمعنوية.

إن الإسلام -رفعا منه لهذا التحدي- يحرص على إقرار مبدأ القوميات على أنه يدخل في حميمية ذوي القربى وفي ما هو مصلحة للبقاء والأمن والتنافس في الخير، ولكن الإسلام في نفس الوقت لابد أن يحرص على تحسيس القوميات بضرورة الانفتاح على باقي مكونات الوجود الإنساني، فهو يرى بأن القومية وإن كانت مكونا طبيعيا من مكونات الهوية الإنسانية الضرورية، لا ينفي حاجة الإنسان إلى انتماءات أخرى يحفظ بها وجوده المادي والمعنوي، بدءا بالانتماء للأسرة ومرورا بالانتماء للقبيلة والشعب، ثم للأمة التي تأخذ بعدا غير حسي باعتبارها معنى من المعاني التي لا تتنافى مع خصوصيات الانتماء.

فالذي لا يقبله الإسلام هو التعصب والعصبية، ولكن المسلمين مطالبون بتدبر السنن الجماعية ودعمها والاستفادة الخيرة من الشعور القومي، وتجنب الصراع مع أي انتماء ما دام لا يعتدي على وجود الناس أو حرياتهم، فالمسلمون في هذه وفي غيرها لم يتركهم دينهم هملا، بل أوصاهم برعاية الحرمات وبالتصبر وبالتعامل بالتي هي أحسن، وهذا كله، ونظرا لتعقد الأوضاع، يضع على المسلمين مسئولية كبرى في حكمة التعامل وعدم التورط في أي نوع من أنواع الشقاق بأي دعوى كانت، فهم أقدر على الانفتاح على المستويات الخادمة للمشترك بين سائر الناس من القيم التي تؤسس لتحالف يخدم الإنسانية باعتباره من أعظم غايات التعارف فيما بينها.

2)الليبيرالية الأخلاقية

لا نقصد بكلامنا اللبيرالية الاقتصادية، وإنما نقصد التصرفات السلوكية التي لا تتقيد ببعض ما يعتبره المسلمون أحكاما شرعية تخصهم أو مظاهر تدخل في ما يعتبرونه من السنن أو من مكارم الأخلاق، فاللبيرالية هنا تعني التحرر من هذه الأحكام أو السنن في الحياة سيما إذا تعلقت ببعض المحرمات في الإسلام أو ببعض المكروهات أو ببعض المتشابهات، ويلاحظ هذا النوع من التحرر أو التحلل إما عند غير المسلمين في البلدان المتعددة الأديان وهي حالة معظم البلدان الإفريقية أو حتى عند بعض المسلمين الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم، والتحدي هنا يكمن في قدرة المسلمين على تطبيق مبدأ الإسلام في عدم الإكراه في الدين والعمل وفق مبدأ الحرية واجتهاد المسلمين في الإقناع العملي بنموذجية طريقتهم في الحياة بأسلوب المنافسة البعيدة عن كل أنواع العنف. وفي جميع الحالات فالتساكن الخير هو الذي يسود من خلال الاحترام والتماس الأعذار للناس بعيدا عن نظرة التحقير والإحراج. فلا أحد يقصي المسلمين إلا بقدر ما يعجزون هم عن فهم غيرهم وعن إقناعه بصواب رأيهم، إن ليبيرالية الآخر قد تشكل تحديا إذا لم يبرهن المسلم على الفهم الواسع للدين، فيتصرف كل حسب ما يشاء في إطار قانون البلد، سواء كان غير مسلم أو مسلما يلفق سلوكه بالتحلل من بعض التبعات.

إن دول العالم الإسلامي قد تختار بعضَ جَوانِبِ الليبرالية تَلْفيقاً مع جَوانِبَ أُخْرَى لأجل الممارسة الواقعية التي تَحْكُمُها إِكْراهاتٌ، ولا يعني ذلك بالضرورة أنها تتقصد المخالفة، بل قد يتصرف بعضها بنوع من المرونة لتكييف الليبرالية حتى لا يقع منها المسلم المتدين في إحراج، والمهم في جميع الحالات الابتعاد عن الإطلاق والاستعجال في إصدار الأحكام، فالخصائص الفلسفية في الليبيرالية محل نقاش يمكن أن يشارك فيه الجميع، ولكن ليس على غير المسلم أن يقر بالوحي الذي نزل على المسلم كما ليس للمسلم أن يحمل غيره على تبني معتقده.

ولكن الذي يتخوف منه في إطار الليبيرالية هو تَغَوُّلِ الفرد بجوره على الجماعة؛ مما يحتم على الدول أن تضطلع بواجبها في حماية الجماعة من خلال رُؤْيةٍ لا تَحُدُّ مِن الحريات الفردية، لكنها تُزَاوِجُ بينها وبين حق الجماعة.

3)العولمة

باتت البلدان الأفريقية تتأثر بالعلمانية وبشكل متسارع، كما باتت ردود الأفعال تظهر بين التخوف والحماس، وذلك على غرار شعوب ومجتمعات الجنوب الأخرى؛ ومن أسباب الرفض الخوف على الموروث المتأصل بالخصوصيات.

يرى د. أحمد بن راشد أن العولمة قصدت رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية -الاقتصادية والإعلامية والثقافية- كي تمارس أنشطتها بوسائلها الخاصة التي يقل معها دور الدولة في ميادين المال والاقتصاد والثقافة والإعلام، وهذه الرؤية تبين أن العولمة هي إِرادَةٌ وسَعْيٌ لِتَتْوِيجِ النظام الرأسمالي والقيم الليبرالية الغربية على الكون؛ بما يفتح المجال لهيمنة ثقافية وأشكال أخرى من الهيمنة.

والواقع أن العولمة لا تعمل على إيجاد عالم مُوَحَّدٍ كما قد يُظَن، بل تهدف إلى إيجاد نظام متشابك لعوالم متصلة ومرتبطة فيما بينها. فالعولمة الثقافية تظهر كوكبا تختلط فيه الثقافات مع إمكانية أن تتكامل وتتبادل الانتفاع مِن مَوْقِع الحُضورِ بحسب صلابتها وقُوَّةِ تَفاعُلِها ومُشارَكَتِها، أو تَتَلاشَى بحسب هَشاشَةِ حُضورِها وضعف تفاعلها ومشاركتها.

وعليه يتوجب على المسلمين الأفارقَةِ مُدافعة ما يمكن أن ينشأ عن سوء فهم العولمة واستعمالها وعدم النظر إليها من مجرد زاوية الهيمنة، لأن الإسلام لا يعرف العزلة، بل يعترف بالتعدد والاختلاف الذي يُغني الوجود، ويعترف بحق كل أمة في الدفاع عن خصوصياتها وموروثاتها. فهو يسعى إلى غرس الاعتزاز بالهوية الدينية كما يدعو أيضا إلى غرس فضيلة التسامح مع الآخرين. فالمسلم لا يتعصب ضد الآخرين، ولا ينكر وجودهم، ولا يتنكر لحقوقهم ولا يضمر البغض والعداء لهم.

4)العلمانية

تولدت العلمانية في كنف الحضارة الغربية متأثرة بسياق تدافع تاريخي مع المؤسسات الدينية، ثم امتدت تجلياتها إلى بقية العالم، ومبدؤها إقامة دعائم الحياة اليومية بعيدا عن الدين مع اعتماد في معالجة قضايا الحياة على العقل البشري بعلومه وتجاربه، ويسميها البعض بالدنيوية أو اللادينية؛ وقد أسهم في التنظير لها مفكرون من أبرزهم: نيتشه، ودوركايم، وماركس، وسارتر، وفرويد، ويذكر بصددها في بلدان الإسلام أتاتورك وقاسم أمين وآخرون.

ومن الإشكالات المتعلقة بهذا الموضوع أن عددا من الدول الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة قد نصت في دساتيرها على العلمانية، وبذلك تركت للمبادرات الخاصة القيام بمتطلبات الدين كالمساجد والمدارس، وقد أظهرت التجربة ما في ذلك من مخاطر جعلت بعض هذه الدول تحاول تدارك الأمر جزئيا بتسمية مسئولين حكوميين عن الشئون الإسلامية.

لكن هذا الواقع لا يجيز لمتدين أن يسيئ فهم العلمانية ولا أن يحكم بالكفر على أصحابها ومن ثمة تسويغ الاعتداء عليهم.

5)الإرهاب

تواجه إفريقيا ثلاثة أنواع من الصراعات العنيفة: النزاعات الطائفية والنعرات المذهبية والخلافات الدينية، ويهمنا هنا التوقف عند صراعات المسلمين فيما بينهم، ويزداد الوضع سوءا إذا استدعت تلك النزاعات القوى الأجنبية إلى التدخل في الشؤون الداخلية لبعض البلدان الأفريقية الإسلامية، وتنتج عن ذلك حالات من الاضطراب وعدم الاستقرار وانعدام الأمن، وغالبا ما ينتج عن هذه الحالات تراجع الإسلام، أو الجمود في أوضاع المنتسبين إليه وتعثر نموهم.

ومن أجل تجاوز هذا المأزق الحضاري، تنبغي مواجهة التطرف باعتباره ظاهرة معقدة الجذور، وهو أرضية خصبة في إفريقيا بسبب ضعف التأطير الديني، وحيث إن له جذورا فكرية واجتماعية، فلابد أن تتساوق في محاربته الإجراءات الأمنية والتوعية الدينية وتجويد التعليم والقضاء على أنواع الفساد وتعزيز التكامل الاقتصادي بين بلدان أفريقيا وتبادل الخبرات بينها ونشر ثقافة العمل وتنمية التفكير العلمي النقدي وتشجيع المنافسة والابتكار .

كما تقتصي مُدافَعَةَ التطرف مراقبة التعليم الديني وتقوية ضبط الجهات العلمية المؤهلة، وتحميلها مسؤولية القيام بأمانتها،وبهذه الإجراءات مجتمعة يمكن وضع إستراتيجية لمواجهة الغلو فكرا وواقعا.

وفي الختام يا مولاي، لابد أن نذكر أن مواجهة هذه التحديات هي الجهاد الأكبر الذي ينتظر علماء إفريقيا، ومواجهتها لا تتوقف على القوة المادية وحدها، لأن مواجهتها التي تهمنا هي الموكولة إلى المؤطرين أي إلى العلماء والأئمة، أما غيرهم فليتحمل كل مسئوليته في موقعه، على أن للعلماء دورا عظيما ينتظرهم وهو مستمد من أمر الله تعالى الذي قضى بأن يكون في كل أمة طائفة تقوم بالنفرة لتفقيه الناس في الدين وقول الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام الذي يقتضي أن يقوم في كل جيل علماء صادقون يحمون الدين من الجهل ومن التطرف، وقوله الذي يقتضي أن يقوم العلماء بتوعية الناس بألا يأخذوا علم الدين إلا عمن يعرفونه متمكنا في علم الدين ورعا واقفا للفتنة بالمرصاد، لأن غير هؤلاء الذين لا يقرأون عواقب كلامهم عن الدين يوقدون نار الفتنة ولا يقدرون على إطفائها وهم يظنون جهلا أنهم سيستفيدون منها، هيهات هيهات، فهؤلاء وإن أظهروا الغيرة على الدين ليست لهم حكمة الدين، ولا يتحملون المسئولية أمام الناس الذين يحرضونهم غير مراعين لحرمات التبليغ وشروطه.

إن الله تعالى وصف لنا صفات هؤلاء الحكماء الذين يمكن أن نقتدي بهم في رفع تحديات المسلمين في إفريقيا ولا يمكن أن يكونوا إلا على تلك الصفات، قال تعالى: ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴾ وقال: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ وقال: ﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾، والأسلوب الأحسن متروك لحكمة المهتدين، والعاملون في الدعوة للإسلام بإفريقيا تحيط بهم ظروف داخلية وخارجية أشرنا إلى بعضها تتطلب تمييز الأحسن من الحسن وتتطلب قبل كل شيء المنعة ضد ما هو أقل سوءا من المفسدة العظمى وهي الفتنة، وليست هنالك وصفة واحدة للتعامل مع الواقع ولكن هنالك شرط أساس هو الصدق والعلم والورع، وهذا ما نسأل الله تعالى أن يتكرم به على العلماء والعالمات في المؤسسة المباركة مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي أهديتموه في هذا الوقت الحرج للقارة الإفريقية. تقبل الله أعمالكم والسلام عليكم.

والختم من أمير المؤمنين.

التسجيل المرئي الكامل للدرس الحسني الرمضاني الخامس الملقى بحضرة أمير المؤمنين حول ثوابت الهوية الإسلامية في افريقيا وتحديات المحافظة عليها