شرع من قبلنا : المفهوم والمشروعية

شرع من قبلنا : المفهوم والمشروعية

شرع من قبلنا : المفهوم والمشروعية
شرع من قبلنا : المفهوم والمشروعية

“شرع من قبلنا” هو تلك الأحكام الشرعية المقررة في شرائع الأنبياء والرسل السابقين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بنص القرآن أو بصحيح السنة، ولم يلحقها ناسخ من شريعة الإسلام.

بهذا التعريف تخرج الأحكام غير الواردة في القرآن الكريم والسنة، فما لم يرد فيهما غير معتبر، وعليه لا اعتبار لما ورد في التوراة والإنجيل إذا لم يرد في القرآن والسنة. حيث ذهب المالكية خلافا للشافعية إلى لزوم شرع من قبلنا لنا مما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم دون ما وصل إلينا من غيره لفساد الطرق إليهم، قال العلامة القرافي في الذخيرة ج12/ص71: “وشرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا ثبت أنه شرع من قبلنا بوحي ثابت أو رواية صحيحة”.
وقال القاضي ابن العربي في أحكام القرآن ج1/ص38ـ39: “وهذا هو صريح مذهب مالك في أصوله كلها”.
وكذلك لا يعمل بأحكام الشرائع السابقة الواردة في القرآن والسنة إذا لحقها نسخ، إذ هي في حكم المنسوخ الذي يترك لأجل الناسخ، قال القاضي أبو الوليد الباجي: ” متى ثبت حكم في شريعة أحد الرسل عليهم السلام بنص قرآن أو خبر صحيح عن نبينا عليه السلام وجب علينا العمل به، إلا أن يدل الدليل على نسخه.” وجاء في الفواكه الدواني:”إن شرع من قبلنا شرع لنا حيث لا ناسخ”.
فيتحصل من هذا أن العمل بشرع من قبلنا عند المالكية يتوقف على شروط منها اثنان ضروريان:
  • الشرط الأول: أن يرد الحكم في القرآن أو في صحيح السنة.
  • الشرط الثاني: أن لا يلحق بهذا الحكم ناسخ من شريعة الإسلام.
وينضاف لهذين الشرطين أمر ثالث مفاده أن لا يتعارض هذا الأصل مع أصل آخر أقوى منه عند الترجيح.

أدلة مشروعية شرع من قبلنا 

أصل “شرع من قبلنا” بهذا المعنى الذي ذكرناه أخذ به الإمام مالك رحمه الله وأغلب المالكية من بعده، وبنوا عليه مجموعة من الأحكام الفقهية، وقد استدلوا على مشروعيته بنصوص من الكتاب والسنة:

فمن الكتاب:
قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) الممتحنة : 4، قال ابن العربي:”وهذا نص في الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله وهذا يصحّح أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا فيما أخبر الله أو رسوله عنهم”.
وقوله تعالى(أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام : 90، قال الإمام الباجي مبينا وجه دلالة هذه الآية: “فقد أمره باتباعهم صلى الله عيه وسلم، فيجب ذلك في كل ما ثبت عنهم إلا ما قام الدليل على المنع منه.”

ومن السنة:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول: (وأقم الصلاة لذكري)”، قال الإمام الباجي: “فاحتج بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأرانا تعلق الحكم اللازم لنا بهذه الآية، وإنما خوطب بها موسى عليه السلام”.
وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بشريعتهم فيما ثبت عنه في مسألة الزناة منهم فيما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر وهو حديث متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم: “رجم اليهودية واللذين زنيا إذ رفع إليه أمرهما اليهود”.
وقال القاضي ابن العربي معلقا على هذا الحديث: “حكم النبي عليه السلام عليهم بشريعة موسى عليه السلام وشهادة اليهود، إذ شرع من قبلنا شرع لنا فيلزم العمل بها حتى يقوم الدليل على تركها”.

أمثلة ما ثبت عن طريق هذا الأصل عند المالكية 

اعتمد المالكية على أصل “شرع من قبلنا” في مجموعة من الأحكام مبثوثة في مذهبهم، ونذكر هنا بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر:
جواز تزويج البنت البكر دون استئمارها لقوله تعالى على لسان نبي الله شعيب: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنَ اَنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) القصص: 27.
لزوم أجرة الكيل للبائع لوجوب التوفية عليه لقوله تعالى على لسان إخوة يوسف عليه السلام: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) يوسف: 88، قال الإمام القرافي مبينا وجه الدلالة في الآية:” فدل على أن الكيل على البائع لأن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يدل الدليل على نسخه”.
ثبوت العمل بالعرف والعادة والحكم به في القضاء استنادا إلى قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّنَ اَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ) يوسف: 26- 27.
قال ابن العربي في وجه دلالة هذه الآية وتفرد المالكية بذلك الاستدلال: “قال علماؤنا في هذا دليل على العمل بالعرف والعادة لما ذكر من أخذ القميص مقبلا ومدبرا وما دل عليه الإقبال من دعواها، والإدبار من صدق يوسف وهذا أمر تفرد به المالكية”.
جواز الكفالة لقوله تعالى: (قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ)يوسف:72، حيث قال ابن العربي: “قال علماؤنا هذا نص في جواز الكفالة”.
وختاما إذا تبين مفهوم ومشروعية “أصل شرع من قبلنا” ووجه العمل به، وبعض أمثلته عند السادة المالكية، فليعلم الباحث العزيز أن هذا الأصل من الأصول التي تفرد المالكية في الأخذ بها ويعتبر مظهرا ناصعا لرحابة المذهب المالكي ومراعاته لما قرره القرآن من شرائع الأنبياء السابقين، وانفتاحه على ما سبق من تشريعات الأمم السابقة، كما أن هذا الدليل أصل مهم في توسيع دائرة الاستنباط والاجتهاد لاستيعاب جميع الوقائع المماثلة لتلك الواقعة في المجتمعات الخالية، مع ما يتحصل من ذلك من الاستفادة من تجارب الإنسانية في ارتباطها بالوحي الإلهي وتحقيق مقاصده.

كلمات مفتاحية : ,